الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

محمد رفيع يكتب: في مديح القصة القصيرة

الكاتب محمد رفيع
الكاتب محمد رفيع
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
قال السيد “موباسان": "إن هناك لحظات عابرة منفصلة في الحياة لا يصلح لها إلا القصة القصيرة لأنها عندما تصور حدثًا معينًا لا يهتم الكاتب بما قبله أو بما بعده".
وأقول هنا: حين خرج إنسان الغاب من الكهف وقضى يومه في مطاردة الفرائس وعاد خالي الكفين كانت رأسه مليئة بالحكايات التي حارب بها انتظار الأطفال وضجر الزوجة والجوع، حين ملأت الحكايات فمه واستساغ طعمها شعر بالامتلاء والالتئام، وحين نام الأطفال على وقع حكاياته انقشع عنه الحزن وملأته حكاياته بالأمل وتبسّم لزوجته حين نامت غير حاقدة عليه، هذه قصتنا التي ما زلنا نمارسها لكن الكهف اختلف، والحكايات صارت تأتينا مطبوعة، وصرنا نشتريها بالمال لحاجتنا أن نعيش في حياة الآخرين.
القصة هي التي تثبت لنا أن الخلود ممكن، لكن بطريقة غير التي فهمناه بها، فليس الخلود وحده أن تبقى حياتك ولا تنتهي، لكنك قد تتخلد لو استطعت أن تعيش مائة أو ألف حياة غير حياتك ومعها، وهذا ما تفعله القصة بنا، هنا تكمن اللعبة باستعارة الحيوات، فحبنا للقصة هو حاجة نفسية وبيولوجية لتمثل الخلود، وحبنا في قص قصة على أحد هو رغبة دفينة لنجلس على جبل الأوليمب، ونروي قصصًا لبشر ونرسم أقدارهم على الأرض، قولوا لي بالله عليكم عن شيء اخترعناه في حياة الإنسانية منحنا الخلود واستعار لنا قدرة الإله الذي حين نتمثله على الورق نعرف قدره في الأعالي، أليس بهذا تكون القصة القصيرة هي أهم اكتشاف أدبي في العصر الحديث. 
إن كل قصة قصيرة لا بد أن تقدم رؤيةً ما للعالم، من خلال تكثيف وتقطير لحظة معينة في حياة بطلها أو أبطالها، وهذه اللحظة تكشف قطاعًا زمنيًّا طوليًّا في حياته، يكثف أزمته وأفكاره وخوالجه، ودراما الحياة من حوله في آن، يا لها من مهمة صعبة ومريرة أن تلتقط أهم لحظة في حياة بطلك، اللحظة التي يكتشف فيها ذاته، ويختبر قناعاته، وينقل لنا رؤيتك أنت عن الحياة.
لهذا فهذا الفن كاشف لا يرتاده مدّعون، وإن فعلوا فكشف زيفهم بسهولة تحرير قطعة شيكولاتة من غلافها، وهذا ليس الحال في الرواية، فلا أحد على وجه هذه الأرض يستطيع أن يقول إن حكايةً ما كُتبت في مائة صفحة ليست رواية، سيقول إنها رواية مشتتة أو مفككة أو تافهة، لكنها ستظل رواية، وهذا ليس حال القصة، فالقصة المشوشة ليست قصة، ولا المفككة أو السطحية.
إن القاصّ المبدع– الجاد- هو وحده القادر على شكل وصياغة هذه القيمة الإبداعية الهامة، ليعيد بلورة واكتشاف مناطق هامة، ربما تكون مهملة في ذواتنا وفي حياتنا الآنية، وهو أيضًا الذي يمتلك الوعي الحاد بالتفرد الإنساني، ومن ثم التعبير عنه في قالب فني.
الإبداع عند الفنان أو الأديب- في رأيي- ليس اختيارًا، فهو قد يختار ماذا يكتب، أو أي المدارس يتبع، أو أى التجارب يجرب، لكنه لا يختار فعل الكتابة من عدمه، فهو فعل قصري حميد دوافعه ذاتية، وهذا بالنسبة لي– بالضبط- كالمرأة الحامل التي قد تختار اسم مولودها أو ألوان ملابسه وغرفته وسريره، لكنها لا تستطيع أن تختار ألا تلد مطلقًا، أو أن تحتفظ بالجنين في أحشائها مدى الحياة.