رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

التقدم الحضاري.. عربيًا وغربيًا "5"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الإيمان بالنزعة العقلية من أهم ما يميز «عصر التنوير» فى الحضارة الغربية -كما سبق القول- ولعل تمجيد العقل لم يبلغ عند أى مفكر من مفكرى هذا العصر مثل ما بلغ عند الفيلسوف الألمانى «فولف-Wolff»
(١٦٧٩ – ١٧٥٤) الذى يرى أن الإنسان لم يتلق من الله شيئًا أروع من العقل، ويستحق أن يسمى إنسانًا بقدر ما تزداد قدرته على استخدام قواه العقلية.
ويتفوق «ﭬولتير- Voltaire» (١٦٩٤ – ١٧٧٨ ) على معاصريه فى تمجيد العقل وتحرير الوعى، حيث اهتم فى كتبه العديدة بتقدم العلم والفن، ولكن مع ذلك لم يغب عنه أن السعادة والتقدم مجاورتان للشقاء والآلام التى تسببها حروب العصر واضطراباته.
ويمكن القول، إن مفهوم «التقدم» كما نجده عند «تورجو» و«كوندرسيه» وزعماء الثورة الفرنسية وغيرهم يسير فى خط مستقيم حاولوا إثباته بطريقة استنباطية عقلية، وهو تقدم تنتهى فيه الحروب ويسود السلام، أو هو -على حد قول «هيجل- Hegel» (١٧٧٠– ١٨٣١)- تقدم الوعى بالحرية أو تقدم وعى الفكرة ذاتها، أو تقدم نحو مجتمع اشتراكى تذوب فيه الطبقات، كما رأى «ماركس-Marx» (١٨١٨– ١٨٨٣)، أو هو تقدم نحو نتائج سعيدة تحقق الانسجام للأفراد عن طريق نشاطهم وتنافسهم وتحقيقهم لغاياته الخاصة، كما رأى «آدم سميث- Adam Smith» (١٧٢٣– ١٧٩٠).
أما «ﭬيكو-Vico» (١٦٦٨– ١٧٤٤)، فقد اهتم بالظروف التى تسبب التقدم العقلى فى التاريخ الإنساني، كما اهتم بالظروف التى تنحدر به إلى الفساد، وأحدث «مونتسكيو-Montesquieu» (١٦٨٩– ١٧٥٥) ثورة منهجية بتطويره جملة من المبادئ النظرية، تمحورت حول فكرة إنشاء فيزياء اجتماعية تمتلك منهجًا مماثلًا لمناهج العلوم الطبيعية بحيث يسمح لها -هذا المنهج- بتفسير الاجتماع الإنسانى وآلياته تفسيرًا علميًا. 
ويُعَد كتابه «روح القوانين» أعظم كتاب ظهر فى القرن الثامن عشر، وفيه درس نظامى الحكم الإنجليزى والفرنسى ووازن بينهما، وأشار إلى تطور نظام الحكم عند الرومان وغيرهم من النظم السياسية فى الماضى والحاضر، وتوصل -فى النهاية- إلى قاعدة هامة هي: أن الأنظمة السياسية لكى تكون أنظمة ناجحة لا بد أن تكون ملائمة للحياة الطبيعية والخصائص العقلية.
إذن كان هدف عصر «التنوير» الأوروبى هو الإيمان بالعقل وتمجيد الوعى، مثل هذا الإيمان تصحبه دائمًا نظرة تفاؤلية تتميز بالاعتقاد بقدرة الإنسان على العلو بذاته، ولا يحول شيء دون تقدمه.
ولقد حمل لواء «التنوير» فى المجتمعات الشرقية مفكرون عبروا عن مشاعر التمرد والثورة على الأوضاع المتردية التى تسود مجتمعاتهم، وقاموا بدور فعال لتحقيق تغيير جذرى للأنساق الاجتماعية والسياسية التى تؤلف جانبًا مهمًا من البناء الاجتماعى المميز لهذه المجتمعات، وذلك بعد ظهور عوامل جديدة ساعدت على الاحتكاك الثقافى بالغرب مع بداية القرن التاسع عشر، والتى كانت تؤمن بإمكان تقدم المجتمع الإنسانى فى كل المجالات، ولا شك أن هذه التحولات تمثل نقلة ثقافية واجتماعية وسياسية من حالة التأخر والجمود إلى حالة أكثر تقدمًا وحركة، أى نقلة من مرحلة تسودها ثقافة تقليدية متوارثة ساكنة وراكدة تخشى التغيير، بحجة المحافظة على التوازن داخل المجتمع، إلى مرحلة أكثر دينامية تقوم على تقبل الجديد الوافد، وتحاول التكيف معه أو على الأقل تطويعه بما يتلاءم مع مكونات المجتمع وتقاليده ومتطلباته وتطلعاته نحو تحقيق «التقدم»، ولقد كان التأثر بالغرب -دائمًا- يتم بطريقة هادفة ضمن إطار الأنساق التقليدية المتوارثة، مما يعنى أن تلك الأنساق لم تقف موقفًا سلبيًا من هذه الثقافة، حيث تقبل كل صور الحياة وأنماط السلوك والقيم والنظرة إلى الحياة بغير تمييز، بل كانت تعمل على مزج الوافد والأصيل فى وحدة ثقافية عضوية متكاملة لها طابعها الخاص، وهذه الأمور انعكست بدرجات متفاوتة فى كتابات المفكرين التنويرين الذين سيتسع المجال لمناقشتهم، ابتداء من «الطهطاوي» و«التونسي» (١٨٢٥– ١٨٨٩) حتى «الأفغاني» (١٨٣٨– ١٨٩٧) و«السيد أمير على» (١٨٤٩– ١٩٢٩) و«شبلى شميل» (١٨٥٠– ١٩١٧) و«فرح أنطون» (١٨٧٤– ١٩٢٢)، على سبيل المثال لا الحصر، وغيرهم ممن تزخر بأسمائهم الكتابات العربية الحديثة.