الثلاثاء 14 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

أحلام "نجيب محفوظ" تطارد فتاوى "قطب" وتطرّف الإخوان

نجيب محعفوظ الأديب
نجيب محعفوظ الأديب العالمي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أحلام محفوظ تطارد فتاوى سيد قطب وتطرّف الإخوان

تساؤلات لا تنتهي في ذكرى ميلاد الكاتب والروائي العالمي نجيب محفوظ التي تحل اليوم، لماذا اختلف الراحل الكبير عن كل الروائيين والمبدعين في مصر والعالم العربي، وبما تميّز عنهم، وكيف حفر لنفسه هذه المكانة التي لم ولن يطاولها أحد على المستوى المنظور؟!
صار أديب نوبل "نجيبًا" بالفعل، وبات اسمه "محفوظًا" لأجيال ولقرون قادمة بعد أن تحولت الرواية على يديه إلى "ديوان العرب" بدلًا من الشعر، مما جعله يحتل مكانة توازي مكانة كبار الشعراء العرب أمثال عنترة بن شداد، وامرؤ القيس، وعمرو بن كلثوم، وغيرهم..
فعن نفسه يقول نجيب محفوظ:
"لست بطلًا بالتأكيد، أنا شخص ما يحب الأدب، شخص ما يؤمن بعمله ويخلص له ويحبه أكثر من حبه للمال أو الشهرة، لو أتى المال وأتت الشهرة فمرحبًا بهما، لكنهما لم يكونا غايتي أبدًا، فأنا أحب الكتابة أكثر من أي شيء آخر".
وقال في موضع آخر من حوار له في كتاب "المجالس المحفوظية" لجمال الغيطاني: "لا.. بالتأكيد، أنا لست عبثيا.. هل تعرف ماذا يعني العبث؟.. إنه باختصار، أن الحياة لا معنى لها، والحياة بالنسبة لي لها معنى وهدف.. إن تجربتي الأدبية كلها مقاومة للعبث، ربما كنت أشعر بدبيب عبث، لكنني أقاومه، أعقلنه، أحاول تفسيره، ثم إخضاعه، بعض أبطال الحرافيش يبدون وكأن حياتهم ضاعت عبثا، لكن في إطار العائلة الكبيرة لم تكن عبثا".

نجيب محفوظ.. ثنائية المثقف المستنير والمتطرف المنغلق
يمكن للعلاقة التي جمعت الروائي العالمي نجيب محفوظ بالإخواني سيد قطب، أن تلخص العلاقة بين الأدب وبين التطرف، بين الحكمة وبين الجهل، بين التنوير والعودة للظلام، بين الموضوعية في عمل الناقد والحرية في إبداع الكاتب الحر، وذلك بعد أن لفت سيد قطب باعتباره ناقدًا أدبيًّا الأنظار إلى موهبة محفوظ الخارقة، وهو صادق في ما كتب، ولكن محفوظ تناول سيد قطب في روايته "المرايا" بالمتطرف الجاهل، وهو صادق في ما كتب أيضا بعد أن أسقط عليه في شخصية عبد الوهاب إسماعيل.
وتعود بداية العلاقة بينهما إلى 1944 عندما كتب سيد قطب في مجلة الرسالة الصادر مقالًا حارًّا للترحيب بقصة كفاح طيبة، وهي من بواكير إنتاج محفوظ.. يقول قطب:
أحاول أن أتحفظ في الثناء على هذه القصة، فتغلبني حماسة قاهرة لها، وفرح جارف بها! هذا هو الحق، أطالع به القارئ من أول سطر، لأستعين بكشفه على رد جماح هذه الحماسة، والعودة إلى هدوء الناقد واتزانه!!
ولهذه الحماسة قصة لا بأس من إشراك القارئ فيها: لقد ظللت سنوات وسنوات أقرأ ذلك التاريخ الميت الذي نتعلمه في المدارس عن مصر في جميع عصورها، والذي لا يعلمنا مرة واحدة أن مصر هذه هي الوطن الحي الذي يعاطفنا ونعاطفه، ويحيا في نفوسنا وأخلادنا بحوادثه وأشخاصه، وظللت أستمع إلى تلك الأناشيد الوطنية الجوفاء التي لا تثير في نفوسنا إلا حماسة سطحية كاذبة، لأنها لا تنبع من صلة حقيقية بين مصر وبيننا، وأن هي إلا عبارات صاخبة، تخفي ما فيها من تزوير بالصخب والضجيج.
إلى أن يصل إلى الحديث عن رواية كفاح طيبة فيقول: واليوم ألتفت فأجد بين يديّ القصة والملحمة كلتاهما في عمل فني واحد في كفاح طيبة، فهي قصة بنسقها وحوادثها، وهي ملحمة وإن لم تكن شعرًا ولا أسطورة بما تفيضه في الشعر إلا الملحمة.
هي قصة استقلال مصر بعد استعمار الرعاة على يد أحمس العظيم.. قصة الوطنية المصرية في حقيقتها، بلا تزيد ولا ادِّعاء، وبلا برقشة أو تصنع، قصة النفس المصرية الصميمة في كل خطرة وكل حركة وكل انفعال.
وحول الأسلوب الفني للرواية يقول قطب: ولم يكن الشعور القومي وحده هو الذي يصل نبضاتي بنبضات أبطال القصة، بل كان الطابع الإنساني الذي يطبعها، والتنسيق الفني الذي يشيع فيها، هما كذلك من بواعث إحساسي بصحة ما يجري في القصة، وكأنه يجري في الواقع المشهود، بكل ما في الواقع من عقد فنية، وعقد نفسية، ينسق المؤلف مواضعها بريشة متمكنة ويد ثابتة، تبدو عليها المرونة، والثقة بمواقع التصوير والتلوين.
كما كتب سيد قطب مقالًا ثانيا عن رواية خان الخليلي في مجلة الرسالة عدد 650 في 17 ديسمبر 1945م قائلًا عنها: إنها خطوة حاسمة في طريقنا إلى أدب قومي واضح السمات، متميز المعالم، ذي روح مصرية خالصة من تأثير الشوائب الأجنبية، مع انتفاعه بها في الوقت الذي يؤدي فيه رسالته الإنسانية ويحمل الطابع الإنساني العام ويساير نظائره في الآداب الأخرى. وبعد أن يستعرض الرواية يختم مقاله برجاء إلى المؤلف الشاب أن لا تكون كلماته مثيرة لغرور المؤلف الشاب المرجو في اعتقاد سيد قطب أن يكون قصاص مصر في القصة الطويلة، فلا يزال أمامه الكثير لتركيز شخصيته والاهتداء إلى خصائصه واتخاذ أسلوب فني معين تُوسم به أعماله، وطابع ذاتي خاص تُعرف به طريقته، وفلسفة حياة كذلك تؤثر في اتجاهه.
أما نجيب محفوظ فقال في رواية "المرايا" مسقطًا على قطب من خلال شخصية عبد الوهاب إسماعيل: "وكان الدكتور ماهر عبد الكريم ممن يزنون أقوالهم بميزان دقيق وعلى الرغم من أن عبد الوهاب إسماعيل لم يكن يتكلم في الدين، وعلى الرغم من تظاهره بالعصرية في أفكاره وملبسه وأخذه بالأساليب الإفرنجية في الطعام وارتياد دور السينما، فإن تأثره بالدين وإيمانه بل وتعصبه لم تخف عليّ. أذكر أن كاتبًا قبطيًّا شابًّا أهداه كتابًا له يحوي مقالات في النقد والاجتماع فحدّثني عنه ذات يوم في مقهى الفيشاوي، فقال:
- إنه ذكي مطلع حساس وذو أصالة في الأسلوب والتفكير.
فسألته ببراءة وكنت مغرمًا بالكاتب:
- متى تكتب عنه؟
فابتسم ابتسامة غامضة، وقال:
- انتظر وليطولن انتظارك!
- ماذا تعني؟
فقال بحزم:
- لن أشترك في بناء قلم سيعمل غدًا على تجريح تراثنا الإسلامي بجميع السبل الملتوية.
فتساءلت بامتعاض:
- أأفهم من ذلك أنك متعصب؟
فقال باستهانة:
- لا تهددني بالأكلشيهات فإنها لا تهزني.
- يؤسفني موقفك.
- لا فائدة من مناقشة وفديّ في هذا الموضوع، وقد كنت وفديًّا ذات يوم، ولكني أصارحك بأنه لا ثقة لي في أتباع الأديان الأخرى!
وقد كان حقًّا وفديًّا، ثم انشق على الوفد وراء الدكتور أحمد ماهر وكان عظيم الإعجاب به، ورقى في عهد السعديين إلى وظيفة مفتش. وكم تخلى عنه حلمه بسبب مصرع الدكتور أحمد ماهر، كأنما أصيب بنفس الرصاصة التي أودت بحياة الرجل، وقال لي بحزن بالغ: ضاع أعظم رجل في الوطن.
وكان يشكو صحته كلما سنحت مناسبة، وبها يتعلل في إفطار رمضان، ولكنه لم يصرح بحقيقة مرضه لأحد كما أنه لم يهتم في حياته بالنساء ولم يتزوج وعرف في تلك الناحية بالاستقامة الكاملة. وعلى جدية أخلاقه، وحملاته الصادقة على المنحرفين. تكشّف لي جانب منه لم أكن لأصدقه لو لم أخبره بنفسي، ذلك أنه كان يوجد كاتب صاحب مجلة ومطبعة تصدر سلسلة شهرية من الكتب، وكان عبد الوهاب يحتقره ويقول عنه:
لولا مجلته لما وجد مجلة تقبل أن تنشر له كلمة وكم أدهشني أن أطالع له مقالة في الرسالة عن صاحب المجلة رفعه فيها إلى السماء! حرت في تفسير ذلك حتى علمت بأنه اتفق معه على نشر كتاب له في سلسلته الشهرية نظير أجر ممتاز لم يظفر بمثله كاتب آخر! وتذكرت في الحال موقفه الأعمى من الكاتب القبطي فأزعجني جدا اكتشاف ذلك الجانب الانتهازي في شخصيته، وساورني شك من ناحية صدقه وأمانته، واستقر في نفسي -رغم صداقتنا- نفور دائم منه. وظل يعمل مفتشًا وكاتبا حتى ولي الوفد الحكم عام 1950 فلم يرتح إلى معاملة الوزير الوفدي له، فقدم استقالته وتفرغ للعمل في الصحافة وعرف في تلك الفترة بهجومه المتواصل على حكومة الوفد، وفي نفس الوقت شرع يكتب كتبًا عصرية عن الدين الإسلامي لاقت نجاحًا منعدم النظير. وقامت ثورة يوليو 1952 وهو منغمس في محاربة الوفد والدفاع عن الدين الإسلامي وكان قد مر عامان على الأقل لم نلتق فيهما أبدًا وانقطعت عني أخباره الخاصة، ويومًا كنت في زيارة للأستاذ سالم جبر فقال لي:
- الظاهر أن نجم عبد الوهاب إسماعيل سيلمع قريبًا.
فسألته باهتمام:
- ماذا تعني؟
- أصبح من المقربين.
- ككاتب سياسي أم ككاتب ديني؟
- باعتباره من الإخوان المسلمين.
فهتفت بدهشة:
- الإخوان؟.. لكنني عرفته سعديا متطرفًا.
فقال متهكما:
- سبحان الذي يغير ولا يتغير!
وقابلته بعد ذلك بعام أو نحوه أمام بار الأنجلو فتصافحنا بحرارة، وسرنا معا نتحادث حتى جاء ذكر الثورة فقال بتحفظ:
- ثورة مباركة ولكن من العسير أن تعرف ماذا يريدون.
ولمست في حديثه مرارة لم أقف على سرها ولم يبح به. كانت له قدرة على الاحتفاظ بأسراره ليست إلا لقلة نادرة من المصريين.. وقلت له:
- بلغني أنك انضممت إلى الإخوان المسلمين؟
فابتسم ابتسامة غامضة، وقال:
- أي مسلم عرضة لذلك!
- من المؤسف حقا أنك نبذت النقد الأدبي.
فضحك قائلًا:
- يا لها من تمنيات جاهلية!
وافترقنا وأنا أشعر بأننا لن نلتقي مستقبلًا إلا مصادفة في الشوارع. وعند أول صدام بين الثورة والإخوان قبض عليه فيمن قبض عليهم من أعضاء الجماعة، وقدم للمحاكمة فحكم عليه بعشرة أعوام سجنا. وغادر السجن عام 1956 فرأيت أن أزوره مهنئًا، فذهبت إلى مسكنه بشارع خيرت. والحق أنه لم يتغير كثيرًا، شاب شعر رأسه، كما يتوقع لرجل في السابع أو الثامن والخمسين من عمره وزاد وزنه حتى خيل إلى أن صحته تحسنت عما كانت عليه وتبادلنا الأسئلة عن الظروف والأحوال وكان يحافظ على رزانته المعهودة وبرودة أعصابه الفذة وخاض دون مقدمات في المسائل العامة فأدلى بآرائه بكل ثقة.
- يجب أن يحل القرآن مكان جميع القوانين المستوردة.
وقال عن المرأة:
- على المرأة أن تعود إلى البيت، لا بأس من أن تتعلم ولكن لحساب البيت لا الوظيفة، ولا بأس من أن تضمن لها الدولة معاشًا في حال الطلاق أو فقد العائل.
وقال بقوة:
- الاشتراكية والوطنية والحضارة الأوروبية خبائث علينا أن نجتثها من نفوسنا.
وحمل على العلم حملة شعواء حتى ذهلت فسألته:
- حتى العلم؟!
- نعم لن نتميز به نحن مسبوقون فيه وسنظل مسبوقين مهما بذلنا، لا رسالة علمية لدينا نقدمها للعالم، ولكن لدينا رسالة الإسلام وعبادة الله وحده لا رأس المال ولا المادية الجدلية.
استمعت إليه طويلًا ضاغطًا على انفعالاتي حتى لا أخل بواجب المجاملة ثم قمت للانصراف وأنا أسأله:
- ماذا عن المستقبل؟
- هل لديك اقتراح؟
- لدي اقتراح ولكني أخشى أن يكون جاهليا هو أن تعود إلى النقد الأدبي!
فقال بهدوء:
- تلقيت دعوة للعمل في الخارج.
- وعلام عولت؟
- إني أفكر.
وودعته وانصرفت وبعد انقضاء عام على المقابلة طلعت علينا الصحف بأنباء مؤامرة جديدة للإخوان ولم أعرف وقتها شيئًا عن مصير عبد الوهاب إسماعيل الذي رجحت أنه غادر الوطن للعمل في الخارج غير أن الصديق قدري رزق أكد لي أنه كان ضمن المؤامرة وأنه قاوم القوة التي ذهبت للقبض عليه حتى أصيب بطلقة قاتلة فسقط جثة هامدة.

أحلام صاحب نوبل

"أسير في الشارع وأنا على بينة من كل مكان فيه، فهو عملي ونزهتي، وأصحابي وأحبائي، أحيي هذا وأصافح ذاك، غير أنى لاحظت أن رجلًا يتعداني بمسافة غير طويلة وغير قصيرة، وبين كل حين وآخر يلتفت وراءه كأنما ليطمئن إلى أني أتقدم وراءه.
لعلي لم أكن أراه لأول مرة ولكن على وجه اليقين لا تربطني به معرفة أو مودة وضايقني أمره فاستفزني إلى التحدي.. أوسعت الخطى فأوسع خطاه، أدركت أنه يبيت أمرًا فازددت تحديا ولكن دعاني صديق إلى شأن من شئوننا فملت إلى دكانه وانهمكت في الحديث فنسيت الرجل وانتهيت مهمتي بعد الأصيل فودعته ومضيت في طريق سكني وتذكرت الرجل فالتفت خلفي فرأيته يتبعني على نفس طبيعته.. تملكني الانفعال وكان بوسعي أن أقف لأرى ماذا يفعل ولكني بالعكس وجدت نفسي أسرع وكأني أهرب منه وأخذ يساورني القلق وأتساءل عما يريد.
ولما لاح لي مسكني شعرت بالارتياح وفتحته ودخلت دون أن أنظر خلفي ووجدت البيت خاليًا فاتجهت نحو غرفة نومي ولكني توقفت بإزاء شعور غريب يوحي إلى بأن الرجل في داخل الحجرة".
في هذا الحلم يدين نجيب محفوظ كل أشكال الرقابة والمراقبة والتطرف التي حاولت من خلالها بعض الجماعات والتنظيمات قمعه طوال رحلته الإبداعية.
وقد وصف أو رمز محفوظ لإبداعه بالشارع الذي يسير فيه "فهو عمله ونزهته" الذي رأى فيه كل شخوص رواياته وهم كما يصفهم في حلمه "أصحابي وأحبائي".
ومن خلال النص السابق نستطيع أن نستنتج مدى الحب والاحترام الذي يجده محفوظ من رجل الشارع العادي لأنه ظل طوال حياته دمث الأخلاق محبًّا للعالم وللناس، إذ يسير في الشارع يصافح هذا ويحي ذاك كما يقول، في النص السابق.
حيث عاش سنوات عمره بسيطًا يجلس بالمقاهي ويلتقي أصدقائه وتلاميذه ومريديه، حتى قامت الدنيا ولم تقعد عندما نشرت له "أولاد حارتنا" والتي تمت محاولة اغتياله بسببها، في "حلمه" شعر أن هناك شخصا ما يراقبه ويفتش في نيته وضميره وعقله عله يجد ما يبيح به دمه أو على الأقل يمنع النور عن أعماله الأدبية.
يصف محفوظ في حلمه الشخص الذي يراقبه ويتبعه أينما ذهب أنه في البدء لم يرهبه بل زاده تحديًا، لكن صديق دعا محفوظ إلى دكانه فدخل معه ونسى أمر الرجل وفات وقت حتى ترك محفوظ مكانه وصديقه ليعود إلى طريقه فإذا بنفس الشخص الغريب يتبعه، هنا يريد نجيب محفوظ أن يخبرنا أن المراقبة والرقابة والقمع لم يرهبوه ولكن ازداد تحديًا ورمز للصديق الذي دعاه في الحلم ربما بالعقل الذي جلس إليه متجاهلًا كل الأفكار والدعاوى الظلامية لينشر النور بين دفات كتبه وأعماله الروائية.
محفوظ كان يدرك دائما أن مخالطة كل أنواع البشر ضرورة حتمية لأي كاتب يريد أن تكون شخوص رواياته وقصصه من "لحم ودم" وليس من حروف وكلمات فقط.
ولهذا لبّى دعوة صديقه كما يقول في حلمه واستأنف السير في الشارع حتى شعر بأن الأفكار الظلامية والظلاميين يراقبونه وهو يؤكد في حلمه أنه لا يعرفهم ولا يعرفونه وكان محقًا في ذلك، فعندما سئل الذي حاول قتله ماذا قرأت لأديب نوبل قال لا شيء حتى "أولاد حارتنا" التي أغضبت الظلاميين لم يقرؤها.
وفي حلمه أيضا يقول محفوظ إنه عندما تأكد أن الرجل يترصده كان يوسع خطواته محاولا الهرب منه ولم يرتح إلا عندما وجد بيته أمامه فدخله واطمأن عندما شعر أنه في مأمن من رقابة الرجل الغريب ولكن نجيب يكمل حلمه بأن إحساسا بالخوف صاحبه حتى بعدما دلف إلى البيت لأن ثمة شعور بوجود الرجل الغريب داخل بيته.
وهنا يوضح محفوظ أن هؤلاء المتطرفين يقتحمون نفوسنا ويفتشون في نوايانا وحتى تجاهلهم لا يفي بالخلاص منهم والسلامة من إيذائهم.
في حلم بسيط جسد نجيب محفوظ معاناة الكتاب والفنانين من سطوة المتطرفين ومحاولاتهم المستميتة لفرض سلطانهم بالترهيب والترويع، ولم ينس أن يرصد إصرار التيارات المتطرفة على كبح جماح المبدعين وتعامله المثالي معهم والمتمثل في عدم الالتفات إليهم أو الانشغال بهم، ولم يغفل كذلك الشعور الإنساني بالخوف والرهبة في أحيان أخرى من تلك المحاولات عندما قال "وأخذ يساورني القلق" وهو أمر يدل على مدى صدقه مع نفسه.
"عندما تتسع الرؤية تضيق العبارة"، كلمات للنفري تليق بكل ما كتبه نجيب محفوظ، خاصة في كتابه البديع "أحلام فترة النقاهة" فيها يلخص العالم وأحوال البشر دون تنظير ولكن ببساطة كعادته لكنها البساطة التي لا تخلو من اتساع رؤية وفلسفة عميقة. وهنا نتناول بعض أحلام صاحب نوبل:

الذكرى
"في يوم السوق بحارتنا اخترقت الجموع امرأة عارية تتهادى. تسير في ترفع وتذيب مفاتنها الصخور. كف الناس عن البيع والشراء ووقفوا ينظرون بأعين ذاهلة، كذلك مضت حتى غيبها المنعطف الأخير، وأفاق الناس من ذهولهم فركبتهم حال جنون، واندفعوا نحو المنعطف. فتشوا في كل مكان ولكنهم لم يعثروا لها على أثر. كلما خطرت ذكراها على القلوب أكلتها الحسرة".

الرمز في هذا المشهد يتجسد في امرأة عارية تتهادى، تسير في ترفع وتذيب مفاتنها الصخور، ويفسر د.يحيى الرخاوي هذا الرمز في تساؤل مؤداه: "هل هي الحقيقة البسيطة المجردة المليئة بالوعد والتكامل؟".
أما الدبلوماسي والأديب عبد السميع عمر زين الدين فيفسر هذا الرمز في شكل تقريري بقوله: "أما الفاتنة التي غيبها المنعطف فهي الديمقراطية".
ورغم اقتراب التفسيرين، تظل مساحة من الخلاف تعطى لكل قارئ الحق في أن يفسر الرمز وفقا لقراءته ورؤيته، ونتوقع أن تتعدد القراءات بتعدد القراء.
ونستطيع أن نتوسع في تفسير الرمز هنا بحيث لا يقتصر على الحقيقة، ولا على الديمقراطية ولكنه يمكن أن يشمل كل القيم النبيلة التي اختفت من حياتنا وأصبحت مجرد "ذكرى" وبلغة المشهد هي: القيم النبيلة التي غابت من حياتنا في المنعطفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي مررنا بها؛ قد تكون هي قيمة العدالة، أو قيمة الصدق، أو قيمة الحرية... وغياب هذه القيم هو الذي أصاب الناس بالذهول؛ الذهول عن أعمالهم؛ بيعهم وشرائهم، وركبتهم حال جنون اندفعوا بعدها يفتشون عنها ولكنهم لم يعثروا لها على أثر، لكنها خلفت حسرة كانت تأكل قلوبهم كلما خطرت بها.
وكانت المرأة هي الرمز الأثير الذي يتكئ عليه نجيب محفوظ في بث أفكاره ورؤاه، وها هي "ليلى" تذكرنا بمصر الستينيات؛ مصر النضال والأفكار والمشروعات القوية:

"ليلى"
"في أيام النضال والأفكار والشمس المشرقة تألقت ليلى في هالة من الجمال والإغراء.
قال أناس: إنها رائدة متحررة.
وقال أناس: ما هي إلا داعرة.
ولما غربت الشمس وتوارى النضال والأفكار في الظل هاجر من هاجر إلى دنيا الله الواسعة.
وبعد سنين رجعوا، وكل يتأبط جرة من الذهب وحمولة من سوء السمعة.
وضحكت ليلى طويلا وتساءلت ساخرة: ترى ما قولكم اليوم عن الدعارة؟"

يكتفي يحيى الرخاوي في تعليقه على هذا المشهد بأنه يذكره بـ"الماسة" في طقوس الإشارات والتحولات لسعد الله ونوس.
أما عبد السميع عمر زين الدين فيرى أن "ليلى" هي الحرية؛ حرية الرأي والفكر والكلمة.
وهنا لا بد كما سبق أن نوسع مساحة هذا الرمز، لنرى أن "ليلى" ما هي إلا رمز لمصر؛ تلك التي تألقت في هالة من الجمال والإغراء، وذلك في أيام النضال والأفكار والشمس المشرقة، والإشارة هنا إلى الفترة الناصرية التي احتلت فيها مصر مكانة مرموقة بين الدول، وكانت حقا قلب العروبة النابض تصدر الأفكار والثورات، وتتخذ من المواقف ما رفع مكانتها وسما بهامتها بين دول العالم، ولعل هذه المكانة هي التي جعلت الآراء تختلف حولها؛ فمن الناس من رآها رائدة متحررة، ومنهم من قال: إنها داعرة، ربما بدافع الحسد والحقد، وربما بسبب الجهل بحقيقة الدور الذي مارسته.
غير أن الزمن قد دار دورته، وأفلت الشمس وانحسر دور الريادة، وتوارى النضال، وانحسرت الأفكار، وأصبح الجو مسموما طاردا للقلوب المناضلة والعقول المفكرة وتحولوا جميعا إلى طيور مهاجرة؛ هجرت الوطن إلى دنيا الله الواسعة شرقا وغربا.
ومن هؤلاء المهاجرين فريق ظل ينفث حقده على مصر من الخارج من خلال ما كُتب وقيل في وسائل الإعلام شاهرين أسلحتهم في وجه مصر مشككين في عروبتها، وقد قبض هؤلاء الثمن، لكنهم عادوا بعد حين إلى مصر يحملون معهم ذهبهم الذي قبضوه ثمنا للدعارة الفكرية.
وهنا أطلت ليلى التي كانوا قد اتهموها بالدعارة تسألهم.. "ما قولكم اليوم عن الدعارة؟".

ولئن كانت سهام الغدر قد وجهت إلى صدر "ليلى" من الخارج فإن الإرهاب كان قد توغل واستفحل داخل البلاد، يعيث فيها فسادا، وهذا هو ما يجسده مشهد "الأشباح":

"الأشباح"
عقب الفراغ من صلاة الفجر، رحت أتجول في الشوارع الخالية، جميل المشي في الهدوء والنقاء بصحبة نسائم الخريف. ولما بلغت مشارف الصحراء المسربلة بالظلمة الرقيقة. وسرعان ما خيل إلى أن أشباحا تتحرك نحو المدينة. قلت: لعلهم من رجال الأمن. ولكن مر أمامي أولهم فتبين فيه هيكلا عظميا يتطاير شرر من محجريه.
واجتاحني الرعب فوق الصخرة. وتسللت الأشباح واحدا في إثر آخر.
تساءلت وأنا ارتجف عما يخبئه النهار لمدينتي النائمة"
هذه الأشباح التي تسللت إلى المدينة، ربما عبر الصحراء الشرقية، وفدت من جزيرة العرب مع العائدين من بلاد النفط محملين هم أيضا بالأموال والأفكار؛ الأموال التي بنوا بها عمارات حولوا بدروماتها إلى مساجد، اتخذت مراكز لنشر أفكار التطرف والتعصب والتدين الشكلي، والتدين المغشوش، وكذا الإلحاح على نشر ثقافة الحجاب والنقاب؛ نقاب العقل ونقاب الجسد، وهكذا تحولت مدينة النور والحضارة إلى مدينة أخرى يجتاحها الظلام، وينتشر في ربوعها الأشباح.
وتسلسل الهياكل العظمية الخارجة من كهوفها أو من جحورها أو من قبورها أن هي إلا رمز لانتشار ثقافة ماضوية، هي الوجه الآخر لانحسار ثقافة الحاضر، فأصبح حاضرنا بل مستقبلنا وراءنا، وليس أمامنا سوى الفراغ والسراب، وأصبح الأمر والنهي بيد الجماجم والهياكل العظمية تحركنا وتتحكم في مصائرنا. إنه حين يجثم الماضي بكلكله على الحاضر فإنه يغيب هذا الحاضر ويصبح الحضور المطلق للماضي، وكما يقول أدونيس: "إن هذا الحضور الذي يتغطي بأسلافنا ليس إلا غيابًا".
وحضورنا الآن قد تغطى بالهياكل العظمية التي يتطاير من عيونها الشرر، فتثير الرعب في المدينة النائمة. ولئن كان هذا هو حال المدينة في وقت السحر، وعقب صلاة الفجر، فكيف سيكون حالها حين يطلع عليها النهار؟
ومع النهار، سيستيقظ ضمير هذه الأمة، متمثلا في أحد أبنائها المخلصين لها، الذي يرى ببصيرته الخطر المحدق بها، وهو لا يفتأ يحذر قومه من الخطر القادم، نرى هذا في المشهد التالي:

سر الرجل

كان يمر بمجالسنا وهو يصيح:
- إنها آتية لا ريب فيها.
ثم يمضي مهرولًا فلا يبقى منه إلا منظر ثيابه المهلهلة ونظرته الشاردة.
ووقعت الكارثة..
قوم قالوا: إنه ولى من الأولياء.
وقوم قالوا: ما هو إلا عميل من العملاء.
والسر يعرفه هذا الرجل دون سواه؛ إذ يخترق حجب الغيب ويرى مالا يُرى؛ يرى الخطر قبل وقوعه، ويحذر قومه، إنه باختصار زرقاء اليمامة التي حذرت قومها من الأعداء القادمين غير أن جزاءها كان فقء عينيها، جاءت نبوءة الرجل بالكارثة قبل وقوعها على هذا النحو:

إنها آتية لا ريب فيها
وبدلا من أن ينشغل القوم بكيفية تفادي الكارثة، فإنهم ينشغلون بأمر هذا الرجل وينقسمون إلى فريقين متناقضين: فريق يذهب إلى أنه ولي من الأولياء، والآخر يراه عميلا من العملاء، وهو افتراق يذكرنا بالقوم في مقطوعة "ليلى" حين يصفها بعضهم بأنها مناضلة، ويصفها آخرون بأنها داعرة، وتهدر طاقتنا في تصنيف الناس بدلا من توصيف أحوالنا واتقاء المخاطر المحيطة بنا. إن أسوأ ما يتعرض له المناهضون للفساد هو عدم دعم الناس لهم، رغم أنهم يحاربون من أجلهم، وهو أيضا لا مبالاة الآخرين بهم رغم أن هؤلاء الآخرين هم مصدر همهم.. وهذا ما نطالعه في مشهد "العزلة":

العزلة
قال الشيخ عبد ربه التائه:
كنت أعبر ميدانا غاصا بالخلق فرأيت مجذوبا يضرب بعصاه في جميع الجهات كأنما يقاتل كائنات غير منظورة، حتى خارت قواه، فجلس على الطوار، وراح يجفف عرقه. وطيلة الوقت لم يبال به أحد، فاقتربت منه وسألته:
- ماذا كنت تفعل يا عبد الله؟
فأجاب بحنق:
- كنت أقاتل قوة جاءت تروم القضاء على الناس ولكن لم يفهم عملي أحد ولم يعاوني أحد.
إنها السلبية التي تجعل الناس يتقاعسون عن شد أزر المناضلين من أجلهم، والذائدين عن حياضهم، والمدافعين عن شرفهم وكرامتهم. يبدو الأمر كما لو كانت عقول الناس قد أصابها الخلل، وقلوبها قد أصابها العطب، فلم يعودوا قادرين على تمييز الطيب من الخبيث، ولا الصالح من الطالح، يختلط في عيونهم الأنبياء مع العملاء، عاجزون عن التمييز بين المناضلة والداعرة، وفي ظل هذا المناخ ينتشر الفساد والعهر، وينحسر الطهر، وهذا ما نشهده في مشهد: " التحدي"

التحدي
في غمار جدل سياسي سأل أحد النواب وزيرًا:
- هل تستطيع أن تدلني على شخص طاهر لم يلوث؟
فأجاب الوزير متحديا:
- إليك –على سبيل المثال لا الحصر– الأطفال والمعتوهين والمجانين، فالدنيا ما زالت بخير..
المكان مجلس نيابي، والسؤال موجه من أحد النواب إلى أحد الوزراء:
"هل تستطيع أن تدلني على شخص طاهر لم يلوث؟"
وحين يصدر هذا السؤال مر نائب في مجلس نيابي، فالمعنى أن النائب نفسه -ولعله من الحزب الوطني- أصبح عاجزا عن العثور عن شخص واحد طاهر.. فشبهة الفساد تحيط بالجميع، ولئن كان هذا هو حال نواب الشعب، فما بالك بالشعب نفسه؟ غير أن إجابة الوزير تكشف عن أن الفساد قد طاله هو الآخر، إذ إن إجابته تدافع عن الفساد والفاسدين، وذلك حين يرى أن الأطهار كثيرون؛ الأطفال والمعتوهون والمجانين، وهو يؤكد -طبقا لهذه الإجابة– أن الدنيا ما زالت بخير، وهنا نتيقن من ظننا، حين ظننا هذا الوزير وقد تربى وترعرع في حظيرة الحزب الوطني. فالدنيا –في رأيه– ما زالت بخير رغم كل هذا الخراب.
ما زال الأطفال والمعتوهون والمجانين أطهارا.. وهل يملك هؤلاء أن يكونوا فاسدين؟ إنهم أطهار بالقوة لا بالفعل. والمعنى أن فيروس الفساد قد صادف كل العقول والأجساد، فاخترقها وافترسها.
وتأتي المفارقة صادمة في السطر الأخير إذ "الدنيا ما زالت بخير!!".
وحين يصر الفاسدون على أن "الدنيا ما زالت بخير"، فالمعنى أنهمُ هُمُ بخير. وليس مهما بعد ذلك ما يحيق بالناس من كوارث، ومن تبعات استشراء الفساد.
يعيد هذا المشهد إلى الأذهان ما ورد في قصة "الجريمة" وذلك حين حدثت جريمة قتل غامضة في إحدى الضواحي، وبدلًا من أن ينشط جهاز الأمن في كشف القاتل ليحقق العدالة، نجده يتواطأ مع الناس أغنياءهم وفقراءهم للتمويه على القاتل، وطمس معالم الجريمة، ولما كان الراوي مكلفًا بأن يكتب تقريرا عن سبب غموض الحادث، وعن الأسباب الحقيقية لطمس معالم الجرائم في الضحية، وعن المصلحة المشتركة التي تشد الناس إلى ذلك؛ الفقراء والأغنياء ورجال الأمن، نفاجأ بجهاز الأمن يغض الطرف عن الجريمة ويقتفى أثر الراوي متتبعا إياه في كل الأماكن التي يذهب إليها بهدف إجباره على كتابة القرير الذي يروق لهم، وحين يفاجئه ضابط الأمن في إحدى المرات التي يتتبعه فيها يدور هذا الحوار بين الضابط والراوي:
- ترى ما الملاحظات التي تمضى بها؟
- أنكم لا تؤدون واجبكم!
- الناس لا يتكلمون
- أعلم أن أرزاق البعض بيد البعض الآخر، ولكن الغضب يتجمع في الأعماق وللصبر حدود.
- ما واجبنا في رأيك؟
- أن تحققوا العدالة.
- واجبنا هو المحافظة على الأمن
- وهل يحفظ الأمن بإهدار العدالة؟
- وربما بإهدار جميع القيم!
- تفكيرك هو اللعنة.
- هل تخيلت ما يمكن أن يقع لو حققنا العدالة؟
- سيقع عاجلا أو آجلا.
- فكر طويلا، بلا مثالية كاذبة قبل أن تكتب تقريرك، ماذا ستكتب؟
فقلت بامتعاض:
- سأكتب أن جميع القيم مهدرة ولكن الأمن مستتب!
وهي إجابة تذكرنا بإجابة الوزير في المشهد السابق "التحدي" والإجابتان تكشفان عن مفارقة بين المعلن والمسكوت عنه في "التحدي" أن الفساد قد طال كل الأيدي والمعلن هو أن الأطهار كثيرون. وأن الدنيا ما زالت بخير. والمسكوت نه في الجريمة هو التغطية على القاتل وتوظيف كل الأساليب لطمس معالم الجريمة وإثباتها ضد مجهول، وأن كل القيم مهدرة، أما المعلن فهو أن الأمن مستتب، وهكذا يكشف نجيب محفوظ من خلال هذه المفارقات أزمة قيم الحق والعدل والحرية، وهى القيم التي ظل يبحث عنها طيلة حياته في كل صور إبداعه.
ويذهب محفوظ أبعد من ذلك، حين يصور الفاسدين من السادة في حالة ضجر حين يروا الناس وهم يقاومون الأفعال الخسيسة ويشمئزون من الروائح المنكرة.. لنتأمل مقطوعة:

الشكوى
"كان الكهف عامرا بالخلان، والنشوة تذيب الأحجار.
ونفخ نافخ فأطفأ الشموع، وترددت الأنفاس في ظلام دامس
وتهادى صوت إليهم يقول: (في السماء ضجروا من الأفعال الخسيسة والروائح المنكرة).
- إنها رسالة.
فقال آخر:
- بل هو أمر.
وانطلقوا في الأسواق يحملون على كل خسيس ومنكر.
وغضب السادة فزمجروا بالغضب، ولوحوا بالعصي".
ظهر الفساد في الأرض، انتشر واستشرى، باض وأفرخ، نما وترعرع، حتى أن السماء قد أعلنت احتجاجها على ما يحدث في الأرض من انتهاكات:
"في السماء ضجروا من الأفعال الخسيسة، والروائح المنكرة".

غير أن المفارقة تبدو في موقف السادة، وفي رد فعلهم وذلك حين يغضبون ويلوحون بالعصي حين يروا الناس وقد انطلقوا في الأسواق يحملون على كل خسيس ومنكر. وكان أولى بالسادة أن يكونوا في مقدمة صفوف المناهضين للمنكر والخسيس، لكنهم لم يتقاعسوا فحسب بل قاوموا هؤلاء المناهضين ملوحين لهم بعصيهم. هل هذا يؤكد العلاقة الوثيقة بين السادة والفساد؟ وأنه إذا وُجد فساد، فابحث عن السادة، وهو ما يؤكد المثل القائل: "إن السمكة تفسد – أول ما تفسد – من رأسها".
والدكتاتورية هي الجذر الذي ينبت منه كل فروع الفساد، وتمتد –بعدئذ– أذرعه إلى سائر الأجهزة والمؤسسات لتفعل فعلها فيها. وتعكس المقطوعة التالية الآثار المدمرة للديكتاتورية ونبذ الآخر وعدم الاعتراف به، وعدم السماح له بالاشتراك لا في اللعبة السياسية، ولا في أي لعبة أخرى:

البلياردو
"جلست في ركن المقهى الذي تقوم فيه مائدة البلياردو،
وجاء رجل نشيط وراح يلاعب نفسه فيرمي الكرة مرة ويرد في الأخرى.
وقلت له بأدب:
- هل تسمح لي أن ألاعبك فهو أجلب للمتعة.
فقال دون أن ينظر إليّ:
- بل المتعة أن ألعب وحدي وأن يتفرج الآخرون.
ونظرت حولي فرأيت جميع الزبائن يغطون في النوم".

إنها مشكلة الحاكم الفرد، الذي لا يرى إلا نفسه، نافيا كل ما عداه، متصورا أنه يحتكر المتعة لنفسه، حين يحرم الآخرين من المشاركة، حتى اللعبة التي يقضى قانونها ونظامها أن يمارسها لاعبان، تأبى عليه نفسه إلا أن يمارسها وحده، وحين يطلب منه الآخر أن يسمح له بمشاركته لعبته، لأن هذا ادعى للمتعة، فيرد بأن متعته أن يلعب وحده، وأن يكتفى الآخرون بالفرجة عليه، وفي ذات الوقت يخلد هؤلاء الآخرون إلى النوم، لأن اللعبة لا تستثيرهم ولا تستحثهم.
هل يشير محفوظ إلى مشكلتنا مع الحزب الواحد الذي يصر على أن ينزل الملعب وحده؟ أم يشير إلى الحاكم الفرد الذي ينفى أيا من هؤلاء الذين يفكرون في أن يدخلوا الحلبة معه؟ أم يشير إلى توابع ذلك حين تسرب فيروس الدوجما إلى عقول أفراد الشعب فأصبح كل منهم لا يرى إلا نفسه، ولا يتحاور إلا مع نفسه ولا يمارس اللعب إلا مع نفسه أيضا. وهو الأمر الذي انعكس على إشاعة حالة الفوضى والبلطجة في الشارع المصري.
متعة المستبد، الديكتاتور، أن يلعب وحده، وأن يتفرج الآخرون، غير أن الآخرين يعاقبونه حين يرفضون أن يكونوا مجرد متفرجين غير مشاركين.. وعندئذ تتأكد وحدته، لكن الآخرين ليسوا رهن إشارته، وهو يرفض أن يلعب معهم، وفي الوقت نفسه يطلب أن يروه، يشوفوه، يعترفوا به، فجاء رفضهم بأنهم ناموا، انسحبوا، رفضوا التوقيع على عقد تعيينهم شوافين محترفين مهمتهم أن يؤكدوا وجود لاعب ذاتوي منغلق، في الملعب الذاتي المنغلق، والنتيجة هي أن يخسر اللاعبان في النهاية، لأنهما واحد لا أكثر.
لقد أراد الديكتاتور أن يقلص مساحة الحرية التي يتحرك فيها الناس، فيجعلها تقف عند حرية الفرجة عليه، ليتأكد وجوده من ناحية، ويلغي وجودهم من ناحية أخرى. غير أننا نواجه بالشيخ عبد ربه التائه يساوي بين الحرية والعبادة، الحرية والصلاة، الحرية والسجود، وذلك حين يتناص مع حديث نبوي مشهور، إذ يقول "أقرب ما يكون الإنسان إلى ربه، وهو يمارس حريته بالحق".

والأحرار وحدهم هم الذين يدركون العواقب الوخيمة للجبن، وهذا ما تشير إليه هذه اللقطة:

"سألت الشيخ عبد ربه التائه:
- متى يصلح حال البلد؟
فأجاب:
- عندما يؤمن أهلها بأن عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة".

وهو في هذه العبارة المركزة يكاد يلخص ما قاله صلاح عبد الصبور على لسان سعيد مخاطبا أهل مدينته:
" يا أهل مدينتنا
يا أهل مدينتنا
هذا قولي:
انفجروا أو موتوا
رعب أكبر من هذا سوف يجيء
لن ينجيكم أن تعتصموا منه بأعالي جبل الصمت
أو ببطون الغابات
لن ينجيكم أن تختبئوا في حجراتكم
أو تحت وسائدكم، أو في بالوعات الحمامات
لن ينجيكم أن تلتصقوا بالجدران، إلى أن يصبح..
كل منكم ظلا مشبوحا عانق ظلا
لن ينجيكم أن ترتدوا أطفالا
لن ينجيكم أن تقصر هاماتكمو حتى تلتصقوا بالأرض
أو أن تنكمشوا حتى يدخل أحدكمو في سَم الإبرة
لن ينجيكم أن تضعوا أقنعة القردة
لن ينجيكم أن تندمجوا أو تندغموا حتى تتكون..
من أجسادكم المرتعدة
كومة قاذورات
فانفجروا أو موتوا
انفجروا أو موتوا".

إنه يقول باختصار: إن عاقبة الاعتصام بأعالي الجبال أو ببطون الغابات، والاختباء في الحجرات، أو تحت الوسائد، أو في بالوعات الحمامات.. أن عاقبة الالتصاق بالجدران، والتمسح بالسفوح.. أن عاقبة الاندماج والاندغام... كل هذا سيكون أوخم من عاقبة الانفجار.. أن عاقبة الجبن هو الموت.. أما الانفجار فيفضى حتما إلى الحياة والتجدد والبعث.

هنا نستعيد إجابة الشيخ عبد ربه التائه على سائله: متى يصلح حال هذا البلد؟
"عندما يؤمن أهلها بأن عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة"
ورغم اقتراب التفسيرين، تظل مساحة من الخلاف تعطي لكل قارئ الحق في أن يفسر الرمز وفقا لقراءته ورؤيته، ونتوقع أن تتعدد القراءات بتعدد القراء.
ونستطيع أن نتوسع في تفسير الرمز هنا ونقول: أنه لا يقتصر على الحقيقة، ولا على الديمقراطية ولكنه يمكن أن يكون كل القيم النبيلة التي اختفت من حياتنا وأصبحت مجرد "ذكرى" وبلغة المشهد هي: القيم النبيلة التي غابت من حياتنا في المنعطفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي مررنا بها؛ قد تكون هي قيمة العدالة، أو قيمة الصدق، أو قيمة الحرية.. وغياب هذه القيم هو الذي أصاب الناس بالذهول؛ الذهول عن أعمالهم؛ بيعهم وشرائهم، وركبتهم حال جنون اندفعوا بعدها يفتشون عنها ولكنهم لم يعثروا لها على أثر، لكنها خلفت حسرة كانت تأكل قلوبهم كلما خطرت بها.

التسامح والمواطنة في أدب محفوظ
في دراسة للدكتور جابر عصفور عن محفوظ، بعنوان "نجيب محفوظ.. الرمز والقيمة وذلك منذ أن تفتحت عيناه وسمع شعار ثورة 1919" (الدين لله والوطن للجميع)، فأصبح الشعار واحدًا من المبادئ التي لم يتخل عنها قط، وظل منطويًا على شعاراتها ابتداء من وحدة الهلال والصليب، وانتهاء بحق المواطنة الذي لا يعرف التمييز على أساس الدين أو الجنس أو الوضع الاجتماعى.

فكان نجيب محفوظ أول الروائيين المصرين الذين جعلوا الشخصية المسيحية موجودة في رواياتهم بوصفها شخصية لها حضورها الموازي للشخصية الإسلامية كشخصية رياض قلدس صديق كمال في "السكرية".
وكانت هاتان الصفتان هما الوجه الآخر لرفض التطرف والتعصب والإرهاب المترتب عليهما في مجال العقيدة الإسلامية، التي استخدمها دعاه الإرهاب لتبرير موقفهم، أو الدفاع عنها بما لا أصل له في الدين الإسلامي.
ولا شك أن شخصية حسين التي رسمها محفوظ في رواية "بداية ونهاية" يمثل الشاب الذي قرأ وتأكد أنه لا تناقض بين الاشتراكية والإسلام، وأن العدل الاجتماعي هو الجامع بين دعوات الاشتراكية وما هو ثابت في الإسلام.
وإذا تأملنا كتابات محفوظ، خاصة رواية "ثرثرة فوق النيل"، نكتشف أنه تنبأ بثورة على النظام السياسي، بل وحذرنا من اغتصابها، فهو لخص المستقبل في جملته "أن الثورات يخطط لها العقلاء، وينفذها الشجعان، ويجني ثمارها الجبناء".
ولا يكتمل الحديث عن صفتي التسامح والاعتدال اللتين تتخللان أعمال محفوظ، إلا إذا نظرنا للوجه الآخر لرفض التطرف والتعصب، والإرهاب المترتب عليهما في العقيدة الإسلامية، وتأويلاتها التي استخدمها دعاه الإرهاب لتبرير مواقفهم، أو الدفاع عنها، فنجده أيضا نبهنا لذلك، وحذرنا من التطرف والتعصب، وإذا نظرنا إلى الشخصية الإخوانية مأمون رضوان، ونقيضه علىّ، والإخواني عبد المنعم شوكت، ونقيضه أحمد في "الثلاثية"، وجدنا بدايات رفض الآخر، والضيق بمبدأ الحوار، والجنوح إلى تكفير النقيض الفكري، ولو حتى على سبيل الإلماح الذي يحمل العلامة الأولى لرفض الآخر.
وإذا نظرنا لرواية "أولاد حارتنا" نجد أن الصراع الذي كانت تصوغه الرواية هذه المرة، رمزًا وتمثيلا، هو الصراع بين المقموعين والقامعين، سواء في المدى الاعتقادي المرتبط بالمغزى الاجتماعي، أو المعنى السياسي المرتبط بالتسلط.
وهنا يمكننا القول بأن محفوظ كان يرصد الواقع بحرفية، ويقرأ المستقبل ويتنبأ به بدقة شديدة، فهو رسم برواياته مستقبلًا رآه بعينه، وعشناه بتفاصيله، وربما لو كانت السلطات الحاكمة قرأت مؤلفاته، لتعلمت، وتجنب العديد من الصراعات.

نساء نجيب محفوظ

نجد في أعمال محفوظ الروائية أن النساء مقهورة أو سلبية أو فتاة ليل، نجيب محفوظ قدم نماذج نسائية ملوثة دومًا بالسقوط الأخلاقي، فالنموذج السوي للنساء لا يمكن أن تجده في نصوص محفوظ سوى في رواياته الأولى وربما يرجع ذلك إلى غلبة تأثير النموذج القريب منه وهو الأم المحبة الحنونة العفيفة والمثقفة الأمية، مشيرة إلى أن السيدة "أمينة" في الثلاثية لم يسقط لأن ما حماها من السقوط هو تربيتها الإسلامية الأصلية، التي حصلت عليها في بيت الشيخ الأزهري والذي علمها أصول وقيم الدين الإسلامي، لقد جسدت أمينة صور الزوجة المسلمة، كما يجب أن تكون فأمينة تجسيد في أعمال نجيب محفوظ للمرأة المسلمة المتدينة الأمية التي تخاف العفاريت.. وهي نموذج للمرأة الملائكية.

الإيمان والثقافة عند والدة نجيب
وتعد المرأة من أهم المؤثرات، التي أسهمت في تشكيل أدب نجيب محفوظ، فعلي مدى مراحل عمره المختلفة أسهمت بقدر كبير في بلورة نظرته إليها، وهو ما انعكس في الشكل الذي ظهرت به فكرًا وموقفًا وسلوكًا عند تناوله لها في أعماله الإبداعية المختلفة. فتأتي والدته على رأس المؤثرات، فهي أول من وضع وترك بصمات لقيم نجيب محفوظ طفلا صغيرًا، فنجدها على الرغم من أميتها كانت حريصة دائمًا على تزويده بالكتب النادرة ليقرأ ويتمتع بخير جليس وأنيس له، كانت امرأة متفتحة ومنفتحة في آن واحد على الآخرين حريصة دائمًا على إكساب طفلها حب الثقافة بمختلف صنوفها، تصحبه إلى المكتبات والمتاحف الإسلامية والمسيحية في أن واحد ليس هذا فحسب بل عرف عنها من خلال حديثه أنها كانت كارهة للاستبداد بالرأي- أكسبته الطباع الليبرالية، التي تمجد الحرية المنضبطة بحدود مصلحة الآخرين.
فنجيب كان مرتبطًا بوالدته بشكل كبير تلك السيدة التي كانت تعشق سيدنا الحسين، وأنها على الرغم من انتقالها إلى الحلمية والعباسية وبلوغها سن التسعين من عمرها، لم تكف عن زيارة ضريح الحسين للتبرك به، وكان يرافقها محفوظ في كل زياراتها حبا في مرافقتها ورغبة في زيارة هذا المكان الشريف الطاهر، وكان يحرص دائمًا خلال هذه الزيارات على قراءة الفاتحة عند دخول المسجد بناء على طلب والدته.

علاقة نجيب بوالدته

وجاءت هذه العلاقة الحميمة بين محفوظ ووالدته لتكون سببًا في احتفاظه بقدر كبير من الاحترام لكل النساء على الرغم من اعترافه المتكرر بأنه عاش قبل زواجه حياة العربدة، وأنه كان ينظر في هذا الوقت إلى المرأة نظرة جنسية بحتة وليس فيها أي دور للعواطف أو المشاعر، تلك المشاعر التي أهملها أو التي لم توجد أصلا عندما قرر الزواج من السيدة "عطية الله" التي عاشت معه أكثر من نصف قرن من الزمان، حيث كان زواجه عمليا على حد وصفه، وكان زواجه سعيدًا مستقرًا، ولولاه -كما يؤكد محفوظ في بعض كتابًاته- لما حاز على مكانته الثقافية والتي ترتب على جزء منها فوزه بجائزة نوبل.

زوجة نجيب ذكية مثقفة
وعن زوجة نجيب محفوظ أن كل الذين عرفوا السيدة "عطية الله" رأوا أنها زوجة ذكية ومثقفة وتتمتع بفراسة لافتة، لم تكن امرأة منصرفة إلى الاهتمام بشئون منزلها فقط بل شاركت زوجها في تحليل الكثير من الأحداث التي كانت تمر بها مصر.

زهرة في ميرامار رمز لنساء مصر بعد التحول
ومن كتابات نجيب يظهر أن المرأة عنده ليست ساقطة أو فاضلة رغمًا عنها، بل إنها في المقام الأول إنسانة تؤثر وتتأثر بالظروف المحيطة بها، فمنها الواثقة من نفسها، التي تواجه الرجال والمجتمع في تحد وجرأة، فزهرة بطلة رواية "ميرامار" تلك التي قاومت كل الإغراءات التي تواجهها في حياتها، استطاعت أن تفلت من كل الفخاخ التي نصبت لها في حياتها، وهي في ذلك ترمز إلى كل نساء المجتمع المصري بعد تحولاته، تلك المرأة تعتمد على نفسها في الحياة وتخترق بعزمها كل الحواجز وتفلت من كل الشهوات التي تواجهها، ينتظر المحيطون باتجاهها في تحويلها إلى سيدة منحرفة.

إحسان في القاهرة 30 رمز للمرأة في الثلاثينيات

استطاع نجيب بجرأة وجدارة غير مسبوقة أن يظهر شخصية المرأة في أعماله بكل صورها، حيث جاءت الأم والزوجة الوفية المتمسكة بعادات وتقاليد مجتمعها وقيمه في قصته "حياة للغير" وهي أيضا الأم والزوجة المتحررة في "قوس قزح" والعمة العانس "جوار الله" والأرملة الثرية أم عباس في قصة "حلم نصف الليل" وهي الخادمة التي باعت جسدها بسبب الفقر والعوز كشخصية إحسان بطلة رواية "القاهرة 30" تلك المرأة التي حاول نجيب محفوظ أن يظهرها كرمز للمرأة المصرية في فترة الثلاثينيات من القرن الماضي.
هذه المرأة المغلوبة على أمرها، والمرغمة على بيع شرفها للحصول على لقمة العيش وكأن الحياة عندها بغير شرف بديل للموت جوعًا والمرأة عندها أيضا ربما تسقط في الرذيلة رغبة منها في كشف الرجال الذين يسعون وراء البغاء تحت ستار العفة والاحترام كنور في رواية "اللص والكلاب".

العاهرات في أعماله ذات نفوس عامرة بالخير

حاول نجيب محفوظ أن يصب اهتمامه بالنساء المومسات في أعماله رغبة منه في تصويرهن على صور مختلفة ليقارن بشكل يدعو إلى السخرية بينهن وبين المنحرفين من رجال المجتمع، الذي لا ينتظر منهم الانحراف، وجاء استخدامه للمرأة المومس في رواياته ليكشف بها خبايا نفس البطل، ولكشف الرياء والغش الغالب على الشخصيات التي تحيط بالمومسات من النساء، ولذلك جاءت مومسات أعماله ذوات قلوب عامرة بالخير ومليئة بالعواطف النبيلة، ونفوس طاهرة مطمئنة، ويتسمن دائمًا بالنبل والكرم وتجلى ذلك واضحًا في أعمال عدة له، كشخصية "نور" في "اللص والكلاب".

نجيب محفوظ..والمهمشون

رغم وجوده بقوة في متن الثقافة المصرية والعربية والعالمية، إلا أنه انحاز منذ بداياته الأولى إلى الهامش والمهمشين..عاش بينهم ومنهم ولهم.
اهتم صاحب نوبل طوال حياته، بالكادحين والمنبوذين والمقهورين، وكتب عنهم غالبية أعماله ليس بفوقية، وإنما كواحد منهم، جسد معاناة كل فئات الطبقة المتوسطة، وانحاز لقضاياهم وانكساراتهم وطموحاتهم وأحلامهم، وكان كغيره من الكتاب العالميين الذين أثبتوا أن المنبوذين في أي مجتمع كالراقصة واللص أشخاص ربما يكونوا أسوياء أكثر من غيرهم.
فالقاسم المشترك الذي يجمع بين أغلب روايات الكاتب الكبير نجيب محفوظ، هو "الحارة" مما جعل محاور رواياته متشابهة، لأنها تعادل في أي بلد في العالم الحياة اليومية للحرافيش "الناس البسطاء"، وهم الوجه الآخر للفتوّات "الزعماء" الذين يمثلون الوجهاء "الطبقة العليا من الناس"، أنها الحياة التي عهدها محفوظ في بداية حياته، في حي الجمالية بمنطقة الحسين.
فباستعراض أسماء رواياته، يتضح لنا بسهولة مدى اهتمام محفوظ بالمهمشين، وهم الذين جعلهم في صدارة اهتماماته فحاز على العالمية لأنه غاص في أعماق المحلية.
ومن أشهر أعماله "خان الخليلي" و"الثلاثية" و"زقاق المدق" و"بين القصرين" و"السكرية" و"قصر الشوق" و"الشحاذ" وتظل الرواية الأهم في مشواره وفي اهتمامه بالناس البسطاء هي "الحرافيش"، التي نشرت عام 1977 وحُولت إلى فيلم سينمائي بعنوان "التوت والنبوت" عام 1986.
تعد "الحرافيش" ملحمة الحياة والأمل، والحياة بأحلامها وبطموحها، بأخطائها وزلاتها، وفيها يدخلك محفوظ ببراعته وعالمه الساحر داخل عشر حكايات لعشرة أجيال متتابعة، ويعرض من خلالها علاقة المال بالسلطة بالقوة وسعي الناس الدائم وطلبهم للعدل والحرية.
وقراءة الحرافيش أشبه بقراءة حال المصريين قبل الثورة وحتى الآن ورغبتهم في العدل والحرية والمساواة، حيث تمثل سلالة "آل الناجي" إسقاطا على حياة الكثير من المهمشين في مصر على مدى عصور متتالية تقع أحداثها في كل حارات مصر.
ويستطيع أي متابع لأعمال محفوظ أن يلاحظ دفاعه، في أدبه عن البسطاء والمهمشين، لأنه وضعهم تحت بؤرة الضوء محللًا مشكلاتهم في محاولة جادة لرصد مشكلات المجتمع العربي، من خلال رصده إشكالية الطالب المغترب الذي بلا مأوى في روايته الرائعة "اللص والكلاب"، ومرة أخرى ينتصر لحميدة الراقصة في ملهى ليلي في رواية "زقاق المدق"، ومع أنها راقصة تبيع جسدها لجنود الاحتلال الإنجليزي قبل ثورة يوليو 1952، إذا به ينتصر للإنسانة الضعيفة والفقيرة التي تضطر أن تبيع جسدها مقابل أن تعيش حياة ولو بالكاد، وذلك على اعتبار أن الاعتداء عليها يمثل صرخة من الفقر الذي يقهر الكثير من البنات أمثال حميدة.
ولذا فقد مثلت أعمال نجيب محفوظ منذ ستينيات القرن الماضي علامة فارقة في تاريخ الأدب العربي، وحظيت باهتمام النقاد، سواء في مصر أو العالم العربي ككل، الذين لم يكتفوا بدراسة التجارب السردية المتلاحقة التي قدمها محفوظ، بل أيضا حثت البعض منهم على إعادة قراءة أعماله التاريخية والروايات التي تم تصنيفها باعتبارها مرحلة الواقعية الاجتماعية.
وإذا ما توقفنا أمام أهم عمل أثار الجدل في حياة محفوظ وكاد يودي به إلى القتل وهو "أولاد حارتنا" فإنه يعتبر استقراء لتاريخ البشرية بثوراته الدينية والصراع ضد التخلف والقهر، ومن هذا المنظور يمكن أن نتصور أن الكاتب وأن كان اختار لعمله زمنًا ممتدًا ومكانًا غير محدد، فإن الشخصيات والأحداث يمكن أن تكون تجسيدًا للواقع المصري وموقف أولاد الحارة المهمشين.
ويمكن في هذا الإطار أن نلمح على خلفية أعمال محفوظ انشغاله بقضية السلطة وجموع الشعب أو الحرافيش كما أطلق عليهم، لأن أعماله في مجملها تشكل ملحمة زمن يوازى الواقع أحيانا ويتخطاه في أحيان أكثر ليصبح أشبه بالنبوءة، التي تحققت مع ربيع الثورات العربية التي بات الصوت فيها للشعوب وليس للأنظمة الحاكمة أو للاستبداد.
ومع انتصار أديب نوبل للمهمشين إلا أنه أبدع في تحليلهم النفسي حين قال "و من عجبٍ أن أهل حارتنا يضحكون، علام يضحكون؟!.. إنهم يهتفون للمنتصر أيا كان المنتصر، ويهللون للقوي أيا كان القوي، ويسجدون أمام النبابيت يداوون بذلك كله الرعب الكامن في أعماقهم".

نجيب محفوظ الذي رحل فلم يجد من الشعب مَن يكتب عنه

"بكل مشاعري أودع نجيب محفوظ.. تركنا أكبر رمز للأدب العالمي والمدافعين عن السلام التسامح والحوار، استطاع من خلال كتاباته النابعة من قلبه أن ينقل بدقة الصورة الواقعية للمجتمع المصري. محفوظ، أول أديب عربي حصل على جائزة نوبل، استطاع أن يجعل الأدب المصري ضمن الأدب العالمي" الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك في عزائه لوفاة نجيب محفوظ 2006.
تناولت العديد من الكتابات الأوجه المختلفة لأدب نجيب محفوظ إلا أن الكلمة الأخيرة التي من الممكن أن تنهي أو تكمل شرح هذا الأدب لم تُكتب بعد، وستظل أعمال محفوظ كتابًا مفتوحًا للعديد من القراءات والتفسيرات المستقبلية المختلفة.
"الهرم الرابع في مصر" بهذه التسمية عنونت جميع الصحف الفرنسية مقالاتها عن نجيب محفوظ، فهو في وجهة نظرهم مؤسس وبطل الرواية العربية المعاصرة، بل وجعل للعالم الغربي يعترف بهذه الرواية وإسهامها في الأدب العالمي.
كتبت المجلة الفرنسية "لاكسبرس" في مقال في مستهل نوفمبر 2011، تحت عنوان "رحل الهرم الرابع لمصر": إنه في 30 أغسطس الماضي طار نجيب محفوظ وترك الشعب المصري يتيما لا يجد من يعبّر عنه، بعد أن استطاع أن يدخل حياة الشعب المصري خلال القرن الماضي ضمن الأدب العالمي.
عاشق القاهرة، استلهم أدبه من حواري ومقاهي القاهرة مثل الكاتب الفرنسي بلزاك الذي عمد إلى نقل الحياة الباريسية بكل تفاصيلها في أعمال عديدة ليصل إلى هذه المرتبة العالية.
أول أديب عربي يحصل على جائزة نوبل في الأدب والوحيد حتى الآن، نجيب محفوظ يعتبر من أعمدة التسامح والاعتدال في كتاباته، فحرية رأيه واستقلالية تفكيره كلفته الكثير خلال معيشته بدءا بمنع نشر بعض روايته ثم تعرضه للطعن من أحد المتطرفين عام 1994.
وكتب الموقع الإفريقي الشهير "أفريك. كوم" أن التطرف الداخلي في مصر حرم الأدب العالمي من روائع للأديب نجيب محفوظ كان من الممكن أن يكتبها إذا لم يجد هذا العنف ضد أدبه، فعلى الرغم من كونه متصوفًا وهو القائل "حينما يكون لديك إيمان، فيكفي أن تترك نفسك للقلب كي يرشدك"، إلا أنه تعرض للاغتيال على يد أحد المتطرفين يدعى محمد ناجي مصطفى وهو في سن يناهز 83 عاما، بعدها كتب رواية "أبناء المدينة" التي تم حظر نشرها من قبل الإسلاميين، لذا اضطر محفوظ آسفًا إلى التوقف عن الكتابة.
وعلى الرغم من اتهامه من قبل الإسلاميين بأنه باع القضية الفلسطينية وذلك بسبب ترحيبه باتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، فإنه لم يتردد عن تقسيم جائزة نوبل إلى أربعة أقسام، أول ربع لزوجته عطية الله، وربعين لبناته، والربع الأخير منحه للشعب الفلسطيني!
"إيميل زولا الشرق" استطاع أن ينقل صورة الطبقة الكادحة في مصر وأن يكون الشاهد على عصره، بحيث أصبحت الحواري القاهرية العنصر الأساسي في كتاباته والمكان الرئيسي لغالبية أعماله، فحب محفوظ للشعب المصري والطبقات الكادحة جعلت منه "إيميل زولا القاهرة".
كما رأت "لاكسبرس" الفرنسية أنه خلف نجيب محفوظ الأديب، يوجد نجيب محفوظ المواطن الليبرالي استقى تكوينه الثقافي من الصوفية، وجعل من التسامح هدفه الأسمى محاولًا أن يكرس كتابًاته لمعالجة انحرافات وطنه في بعض الأحيان عن طريق السخرية على هذه الانحرافات، ظل طوال عمره يستنكر انحرافات عبد الناصر في أثناء حكمه، والموقف المتخاذل للأزهر، وكذلك الفساد الذي شهده عصر السادات على الرغم من تدعيمه علنيا لاتفاقية كامب ديفد مع إسرائيل. هذا الكفاح على مدى تاريخه جعل منه السبب في إصدار العديد من الفتاوى من قبل المؤسسسات الدينية دفع ثمنها غاليًا خلال حياته.
عند وفاته نعاه قادة العالم أجمع، فبالإضافة إلى الرئيس الفرنسي جاك شيراك: "جعل الأدب العالمي يعترف بالثقافة والأدب العربي"، كما قال الرئيس المصري السابق حسني مبارك "كتاباته نقلت صورة مصر التي أحبها إلى الأجيال الأمريكية والقراء حول العالم وجعلهم يعرفونها جيدًا".
أما الرئيس الأمريكي جورج بوش، فقد قال عنه "فقدنا أديبا وفنانا فوق العادة استطاع أن يبين للعالم الثراء التاريخي للمجتمع المصري".
"مثل بلزاك وزولا وتلوستوي وفولكنار، محفوظ كان شاهدًا على عصره، استطاع أن يفهم المجتمع المصري جيدًا من خلال حديثه عن الشارع المصري والمقاهي. كان شرفًا ليس فقط للأدب العربي بل للأدب العالمي كافّةً"، هذا ما نعاه به الأديب المغربي طاهر بن جالون.
كل قادة العالم قدموا لعائلته وللرئيس المصري السابق حسني مبارك، التعازي، معبرين عن حزنهم لفقدان أديب ركّز في أعماله على التسامح والسلام.

نجيب محفوظ في عيون الغرب
اجتذبت قدرة نجيب محفوظ الهائلة على تصوير المجتمع المصري، الباحثين في مجالات الأدب والترجمة واللغة والدراسات الإعلامية، ويمكن رؤية أعماله كفسيفساء من التجربة الإنسانية التي تعالج بجرأة الفساد الأخلاقي والتفكك الأسري، والتناقض بين المظاهر والواقع والنفاق الاجتماعي والديني وعدم التسامح.
بعد أن كاد نجيب محفوظ يفقد حياته بسبب تصور خاطئ اعتبر تجديفا، اعتقد أن الكاتب يؤكد حقيقة أن كل واحد منا خاطئ بطبعه. هذا يطابق صورة (لايتمان) عن الله، الذي قال إنه يرى ويعرف كل شيء لكنه أصبح غير مبال للتعاملات اليومية للبشر (تمامًا كما فعل الجبلاوي في أولاد حارتنا).

كانت هذه بداية دراسة كتبها ماثيو مادونف عام 2012 حول ظهور الله في الأدب؛ واسترشد بأدب نجيب محفوظ كمثال عن التسامح.
يتميز أدب نجيب محفوظ بعدة سمات كان أهمها التسامح ليس فقط مع الآخر بل مع النفس أيضا، ففي أعماله لم يكن رافضًا للإله أو الإيمان بل كل ما طرحه هو مناقشة دور مؤسسات من صنع الإنسان ورؤيته للدين. كما اعتمد على التحليل النقدي الذي أشار إلى النفاق والتناقضات الدينية.
فمحفوظ يزيل التصوف من الدين لحظة واحدة، ويقول للقارئ إن البشر مختلفون فقط في ممارساتهم لا أهدافهم، فهم جميعا يسعون للخلاص، والجميع يميل إلى التماهي مع جماعة ما، و"حكايات" البشر من جميع الأديان تختلف اختلافا قليلا جدا.
محفوظ في أولاد حارتنا، يرفض المفهوم القديم المتعارف عليه للنظام الديني بل يساعد القارئ على معرفة المشكلات التي تواجه الجميع في المجتمع. ويشير محفوظ إلى أن بعض العداء هو من صنع الإنسان.
لأدب محفوظ مآثر أخرى لا يمكن حصرها، حيث اتسم أيضا بانه بدلا من تقديم صورة مثالية للمجتمع، صور الأمراض الاجتماعية، فوفقا لعادل عطا الياس "لم يكن محفوظ واحدا من أولئك الذين طوروا الرواية العربية، بل أيضا ساعدوا على نشرها خارج مجتمعها الأصلي إلى حد ما". كما لا يمكن إغفال مهارة محفوظ في التفاصيل الدقيقة التي تصف المظاهر المادية، كما تصف جوانب السلوك البشري وكذلك طريقة عمل أذهان الناس. أضف على نجاحه في التعامل مع الاحتياجات الشخصية والاجتماعية والبشرية، فليس من المستغرب أن تقرأ أعماله على نطاق واسع وتترجم بشكل أوسع.
قال عنه الكاتب روجر ألن عام 2003 إن نطاق كتابًات محفوظ أن معارفه وخبراته لم تقتصر على الكتب وعالم الكلمة المكتوبة فقط، بل خاض في حياة الناس الحقيقية ومخاوفهم اليومية. الذي يرى أن إنجاز محفوظ الحقيقي ككاتب؛ هو إحياء الاهتمام بالأدب العربي الذي "لن يعود ألغازا كما كان" هذا التغيير الإيجابي في الموقف يساعد في تحسين التواصل بين الثقافات المختلفة.
محفوظ هل كان فيلسوفا، أو نصف نبي، أم مصلحا اجتماعيا بجوار كونه أديبًا؟.. لا يستطيع أي شخص أن يجزم.. لكن الأكيد أنه لم يكتب إلا نفسه.. ورؤيته للعالم دون البحث عن مجد أو شهرة، لذا استحوذ بهدوء على مكانة خاصة به في ذاكرة التاريخ الأدبي العالمي والمصري.