الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

شيء من "البوليتيكا"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الأفكار المبدعة وبعض الثوابت هى الأساس الذى تنطلق منه الحلول الناجزة للمشكلات في أى مجتمع، وغيابهما معًا يؤسس للاشيء أو لاقتصاديات الجهد الضائع، نحتاج إلى ثقافة إدارية ومجتمعية تحترم وتؤكد قيمة الطلب الاجتماعى على العلم والمعرفة لتشكل بنية وعصبًا لكل جهد مطور وناقل للأمام، نحتاج لذلك أيضا فى ثقافة حوارنا، أن تؤسس على معلومات ومعارف لتكون جزءا من أى حوار حقيقى يراد له أن يفضي إلى توافق ثم اتفاق ونتائج مهمة ذات أثر، وعندما يغيب اتفاق الحضور على معنى ثابت أو تاريخ جماعى متفق عليه أو ما يسمى بتعابير التفاوض نقطة بدء مناسبة، فلا أمل حينها وستمضى الحياة جدلا وتستمر المشكلات نزفا فى الاقتصاد والحياة والدور.
ما سبق يمكن أن يفسر كثيرا من الأشياء التى تحدث فى الحياة العامة فى مصر من أزمات الاقتصاد وحتى مشكلات الإعلام والإسكان والتموين والتعليم، ستلحظ شيئا من عدم التقدير للمعرفة أو غياب طلب مؤسسى على العلم فى حل المشكلات، هناك حالة إدمان للبدء من جديد فى كل شيء، عدم اعتناء بما تم أو ثبت أو ما هو محل توافق، نعيد دائما فض أختام المتفق عليه للانشغال به عن حل المعاصر فنغرق فى الماضوية سلوكا وممارسة ونستعذب البقاء فيها ونستمر.
سيكون هذا مدخلا لتفهم كيف تظل كل مشكلاتنا الحياتية مستمرة إلا قليلا، من دون أن ندرك أن طريقتنا فى التعامل معها على هذا النحو إنما يمد فى أعمارها كأننا نستهدف ذلك دون غيره، كل شيء يبدأ من جديد ويتوالى تضييع المسافات عبر الزمن.
لست من هواة استحضار الأمثلة بالقول أنظر هنا وهناك لتعرف كيف تقدمت دول ومجتمعات كنا نراها خلفنا بمئة عام أو تزيد، لكننى حريص على تأكيد النظر لفكرة بأن الخلل قائم فى رؤيتنا مجتمعا وأفرادا للقضايا والمشكلات وإدماننا العودة الى ملف الزمن السالف تأملا فنخصم من مساحة الرؤية الممتدة للأمام.
فى رأيى ترتبك المجتمعات بطريقتين، إدمان النظر فى التفاصيل أو إهمال النظر فيها تماما، كلاهما شبيهان ومؤديان الى طريق عدم الإنجاز، إدمان النظر فى التفاصيل فى إدارة مشكلات المجتمع فى الهيئات والإدارات وحتى فى حياتنا الشخصية، هو عائق عن التطوير سيستغرقك كل يوم فى العادى والمكرر يستنزف جهدك، وسيدخلك مساحة الألفة مع الروتين ولتصحو ذات يوم لتجد أنه ليس هناك فى العمر أو فى المنصب بقية للنظر فى شئ آخر فتستمر فى طريقتك حتى تطلق حكمتك : " خلى اللى جاى يبقى يفكر" وهكذا تلعب دورا فى مؤسستك أو إدارتك أو حتى مكتبك للثبات والجمود، لأنه وببساطة لن يأتى ولن يفكر لأنك ستمهد الطريق لشبيهك فى التفكير جريا على فكرة تواصل الأجيال ذات التماثل والألفة فتستمر طريقة النظر والإدارة والحياة ثباتا، لابد من تبنى إستراتيجية مجتمعية للإدارة تتخلص من كل هذا التراث المعوق لو أردنا تطويرا وحضورا معاصرا فاعلا ومضيفا فى خريطة العالم التى تتسع وتحتفى بالمبدعين.
أيضا فإن تجاهل التفاصيل يحرمك من واقعية الحلول وإدارة معوقاتها، شيء يشبه نظرة الشخص العشوائى للحياة، بالشطارة والفهلوة وبعض النصيب الذى قد يصيب - طبعا بنسبة واحد فى المليون - وفقط بفعل الصدفة التى لن تستمر كثيرا وطويلا .
ولعل النظر إلى قضية حياتية واجتماعية مهمة تلخص المسألة، وهى قضية التحرش والعنف وانتشار السلوك العدوانى فى الحياة العامة، حيث تكاد قضية التحرش أن تتحول إلى شيء لا حل له، وصمة سلوكية قومية قائمة، رغم تشديد التعامل القانونى معها فى التجريم وبناء توعية وحملات مناهضة تحرش وما زالت قائمة وتتوغل، القضية لم تحل نتيجة للاستغراق الكرنفالى فى تفاصيلها باعتبارها مجرد توحش بدائى عنيف من قبل فرد أو مجموعات من الناس، غياب دراسة البعد الاقتصادى والسياسى والمجتمعى لها يطيل من عمر المشكلة ويضخمها ويزيد من تبعاتها، هل قرأت مثلا دراسة علمية موسعة تشتمل على منظومة تحليلات متنوعة متكاملة تتأسس على دراسات ميدانية وسلوكية لدوافع وسلوك التحرش ونتائجه، قراءة متعمقة تبعد كثيرا عن التصريحات اليومية والتنويهات الإعلانية.
انتقل من التحرش إلى الثانوية العامة التى تهل علينا كل عام وكأنها مفاجأة، ولا أتحدث هنا عن الغش أو "شاومينج" وأخواته، فهذا عرض انشغل الكل به، وغابت الإجابة عن سؤال أخطر هو كيف يتحول نظام تعليمى يفترض أنه يمنح الطلاب ثمار بهجة المعرفة الى وحش مخيف تكون من نتائجه أمراض وانتحارات وارتباك أسرى ومجتمعى، كأنه مولد سنوى ننتظره ونعرف توقيته ونحرص على استيفاء كل طقوسه.
تحتاج الحياة الى رؤية أوسع كثيرا مما تعارفنا عليه فى تعاملنا مع مشكلاتها وأزماتها وأشجع كثيرا مما نلتزم به اعتيادا، هكذا ربما تأتى الحلول.