الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

"ثقافة طلعت حرب" والصناعات الثقافية الإبداعية.. تاريخ من الإبداع

مركز طلعت حرب الثقافي
مركز طلعت حرب الثقافي - صورة أرشيفية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فيما تصافح "ثقافة طلعت حرب" عيون وقلوب المصريين عبر إعلانات مصرفية تبشرهم بتمويل مشاريعهم الصغيرة والمتوسطة، فإن الصناعات الثقافية الإبداعية بمقدورها أن تستفيد من هذا التوجه الحميد لإحياء أفكار ومفاهيم مفكر اقتصادي رائد ومثقف وطني مصري نبيل.
وبارتياح صافحت عيون المصريين اعلانات مصرفية انتشرت في الآونة الأخيرة تحمل عبارات دالة على توجهات تستعيد صفحات مضيئة في ثقافتهم الاقتصادية مثل عبارة: "طلعت حرب راجع"؛ في اشارة إلى أفكار ومفاهيم هذا الاقتصادي الوطني المصري الذي قضى في الثالث عشر من أغسطس عام 1941 لكنه باق بانجازاته وأفكاره ومفاهيمه ومبادراته الرائدة والتي تشكل ما يحق وصفه بـ"ثقافة طلعت حرب" في وجدان مصر.
وفيما دشن طلعت حرب أول بنك مصري قلبا وقالبا وأقام 17 شركة ناجحة تتضمن مشاريع صناعية مثل مصانع شركة المحلة للغزل والنسيج، فضلا عن اول شركة طيران وأول شركة تأمين، فإن هذا الاقتصادي المصري الرائد لم يغفل عن أهمية الصناعات الثقافية الإبداعية ومن بينها السينما أو "الفن السابع"، فقام بتأسيس "شركة مصر للتمثيل والسينما"، فضلا عن تأسيس شركة للسياحة وأول مطبعة يمتلكها مصريون وشركة مصرية لصناعة الورق.
وطلعت حرب الذي ولد في 25 نوفمبر عام 1867 وتخرج في "مدرسة الحقوق" عام 1889 كان في الواقع "مفكرا اقتصاديا يعبر عن المضمون الاقتصادي للوطنية المصرية"، حيث سعى لتحرير إقتصاد بلاده من التبعية الأجنبية.
ومن الكتب التي أصدرها طلعت حرب كتاب "مصر وقناة السويس" الذي تصدى فيه لمحاولات بذلت عام 1910 لتمديد امتياز الشركة الأجنبية المالكة للقناة لـ50 عاما أخرى، فيما خاض معترك حوار فكري مع المفكر قاسم أمين حول قضايا تحرير المرأة.
وواقع الحال أنه كان "من أصحاب الأقلام" ومن مؤلفاته كتاب "تاريخ دول العرب والإسلام"، بينما ينطوي كتابه "علاج مصر الاقتصادي وانشاء بنك للمصريين"، على مفاهيم أصيلة تربط ما بين الثورة الإقتصادية والثورة الثقافية لتغيير الواقع المصري للأفضل.
فهذا المثقف الوطني والمفكر الاقتصادي كان يؤمن بأن تطوير الاقتصاد يبقى رهنا بالتنوير الثقافي بقدر ما رأى أن الثقافة مجال رحب للاستثمارات الوطنية وهي رؤية تجلت عمليا في مشاريعه الثقافية وتأسيسه لأول استديو سينمائي مصري لخدمة ابداعات الفن السابع للمصريين، فضلا عن قيامه بإيفاد كوكبة من الشباب المصري لدراسة السينما في أوروبا ومن بينهم أحمد بدرخان ونيازي مصطفى.
وإضافة لعديد المقالات في الصحف كان لطلعت حرب صاحب كتاب "غاية الأدب في صناعات شعر العرب"، نصيبه في ابداعات القصيدة، كما كان عضوا بمنتديات وجمعيات ثقافية مثل الجمعية الجغرافية المصرية.
ولئن كانت صور وأفكار ومفاهيم طلعت حرب تبث الأمل في امكانية تطوير الصناعات الثقافية الإبداعية على مستوى المشاريع المتناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة ففي الوقت ذاته بمقدور الصناعات الإبداعية المتناهية الصغر الإستفادة من مبادرة أعلنها البنك المركزي مؤخرا وتقضي بتخصيص محفظة ائتمانية في كل بنك لتمويل المشاريع المتناهية الصغر بنسبة تصل إلى 20 في المئة من المحفظة الائتمانية لكل بنك.
وإذا كان خبراء وأساتذة إقتصاد مثل الدكتورة يمن الحماقي قد دعوا في تصريحات ومقابلات صحفية لتمويل المشاريع المتناهية الصغر التي تحظى بفرص نجاح في التصدير والوصول لأصحاب هذه المشاريع في القرى والنجوع، فلا ريب ان هذا المفهوم ينسحب على الصناعات الإبداعية للأفراد الذين ينتشرون على امتداد الخارطة المصرية.
وفيما استقبلت البنوك المصرية في الآونة الأخيرة الكثير من الأموال كمدخرات للمواطنين بصورة وصفت "بالطفرة في الودائع المصرفية" وحدت بمعلقين ومحللين للتساؤل عن الفرص الاستثمارية المتاحة لهذه الودائع الهائلة، فإن تمويل المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر للصناعات الابداعية قد يشكل إجابة ضمن عدة إجابات ناجحة لهذا السؤال:"ماذا ستفعل البنوك بكل هذه الأموال الهائلة".
وفي وقت ذهب فيه بعض المحللين الاقتصاديين لإمكانية استخدام تلك الأموال في إعادة تشغيل المصانع التي أغلقت أو تعثرت أنشطتها إلى حد كبير منذ يناير 2011 فإن هناك أيضا من أشار لإمكانية تمويل المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر بقروض مصرفية بسيطة ومتواضعة الفائدة وهو اقتراح يمكن ان تستفيد منه الصناعات الابداعية.
وإذ تتحرك مصر لدعم الصناعات الثقافية الإبداعية "كقطاع واعد وصاعد في الاقتصاد العالمي"، كانت الحكومة قد أعلنت في الصيف الماضي أنها تدرس تأسيس "شركة قابضة للصناعات الثقافية"، برأس مال يصل الى 250 مليون جنيه.
ومن نافلة القول إن دعم الصناعات الثقافية الإبداعية يعني دعم "القوة الناعمة لمصر"، بقدر ما ينطوي على مكاسب اقتصادية تحققها بالفعل الدول التي قطعت أشواطا بعيدة على هذا المضمار.
والصناعات الثقافية الإبداعية كقطاع في الاقتصاد تتضمن مجالات شتى مثل الفن التشكيلي والتصميمات والحرف اليدوية والعاديات والتحف والأزياء والأفلام والفيديو والتصوير الفوتوغرافي والألعاب التفاعلية والإعلانات والبرمجيات والموسيقى وتهتم في شكل جذري وحاسم بالابتكار خاصة ما يتعلق "بالأدوات والشبكات".
وقد يكتسب الأمر المزيد من الأهمية مع توالي طروحات ثقافية تتناول قضايا الاصلاح الاقتصادي وأهمية "تعظيم كفاءة استخدام وتخصيص الموارد الوطنية"، ومقارنات بين تجارب تنموية متعددة في العالم وبعضها يعمد للاستفادة القصوى من الصناعات الابداعية والحرف الجميلة، فضلا عن مراجعات لتجارب مصر التنموية التي لا يجوز التقليل من أهميتها.
وتوجيه الاهتمام نحو الصناعات الابداعية بمنظور ينطلق من "ثقافة طلعت حرب او أفكار ومفاهيم هذا المفكر الاقتصادي المصري الرائد"، يمكن أن يجعل من "مصر المبدعة"، مركزا أو محورا لمنطقة تشكل قلبا ثقافيا عالميا جنبا إلى جنب مع كونها قلبا صناعيا وتجاريا وسياحيا في عالم القرن الواحد والعشرين وبما يحقق العائد الأمثل من استغلال الموقع العبقري لمصر الخالدة.
وتلك الصناعات الإبداعية تتضمن طيفا واسعا من الأنشطة يدخل فيها ما يعرف "بالحرف الجميلة" مثل الحفر على الخشب والزجاج والفخار والمشغولات النحاسية والسجاد ومنتجات الكروشيه والقلائد والحلي والقناديل والمشكاوات وكلها منتجات أبدع فيها المصريون عبر تاريخهم المديد بتنوع يعبر بوضوح عن مدى ثراء الشخصية الابداعية المصرية.
ولا ريب أن الصناعات الإبداعية بقدر ما تعزز العلاقة بين الأجيال الشابة والتراث المصري المضيء تبرهن على قدرة المصري المعاصر في إبداع المزيد من الأفكار التي تتجلى في منتجات مبهجة وجدارة هذه الأفكار بالدعم والتمويل عبر قروض مصرفية صغيرة وبشروط ميسرة.
ومع نفحات رمضانية عطرة ينعم بها المصريون، فإن مشاريع صغيرة كصناعة الفوانيس الرمضانية ليست بعيدة عن الطيف الواسع للصناعات الإبداعية لشعب مؤمن ومحتفل بالحياة معا.
وهي مشاريع تحمل الكثير من الإشارات الدالة لحقيقة تنوع الصناعات الإبداعية وتطورها وامكانية أن تكون محفزا لمزيد من المشاريع الصغيرة التي تسهم في توفير فرص العمل للشباب على وجه الخصوص وتفرز منتجات مصرية تعبر عن النجاح في إدارة التنوع كما تعبر ببلاغة وبساطة عن "معنى لقاء الأصالة والمعاصرة في اطار الهوية المصرية التي كان طلعت حرب من أفضل المعبرين، عنها بعيدا عن تلك الصراعات المفتعلة والمعارك الوهمية بين التراث والعصرنة.
وإذا كنا نعيش في عصر تتضاعف فيه أعداد البشر ويتزايد عدد السكان في مصر بصورة مثيرة لقلق البعض وتساؤلات حول تأثير هذا التنامي السكاني على فرص العمل للشباب والأجيال الصاعدة والمقبلة، فإن ثمة طروحات توميء لأهمية الاستفادة من تجارب عالمية ناجحة للمشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر والقائمة على الأفكار الإبداعية كحل ناجع ضمن عدة حلول لإشكاليات النمو السكاني المتعاظم وانحسار فرص العمل التقليدية.
وكما تشير بعض هذه الطروحات، فإن المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر للصناعات الإبداعية بحاجة إلى آليات متناغمة بين الحكومة والبنوك ومؤسسات التمويل المختلفة وإمكانية استحداث صندوق لتمويل تلك المشاريع للصناعات الابداعية مع دعمها إعلاميا بالترويج لمنتجاتها وتشجيع صادراتها للخارج.
ولئن كانت منظمة اليونسكو المعنية عالميا بالثقافة قد اختارت ان تعرف الثقافة بأنها جماع السمات المادية والفكرية والإجتماعية وتشمل الفنون والآداب وطرق الحياة معتبرة أنها وسيلة الانسان للتعبير عن نفسه والتعرف على ذاته، فإن هذا التعريف يوميء لأهمية الثقافة ضمن اي مشروع للتقدم بقدر ما يشير لمعنى الإنتاج الثقافي وقد يحفز بلدا كمصر التي أنجبت طلعت حرب على تبني دعم الصناعات الثقافية الابداعية.
ونحن بحاجة في هذا السياق "لنموذج طلعت حرب" الحاضر في الذاكرة الثقافية والوطنية المصرية بمشاريع مثل "استديو مصر" السينمائي ودعمه للمسرح وهي مشاريع خدمت الثقافة دون أن تغفل عن عامل الربح المادي.
إن المشهد يؤشر بوضوح إلى إمكانية إن يتحول قطاع الصناعات الثقافية الابداعية المصرية إلى مصدر مهم للدخل القومي.. بقدر ما يشكل إضافة نوعية للرسالة الحضارية لمصر الخالدة.. ومصر التي أنجبت طلعت حرب هي مصر الملهمة التي تهوى صنع الأمجاد وإبداع العجائب والأشعار والجمال!