الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

"البوابة نيوز" ترصد حكايات الموت على طريق "دير المنيا"

صورة ارشيفية
صورة ارشيفية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بعد مذبحة المنيا، والتى قطع فيها الإرهابيون الطريق أمام أتوبيس يقل عائلة فى طريقها للصلاة بدير الأنبا صموئيل المعترف بمحافظة المنيا فى صعيد مصر؛ حيث يبعد الدير عن مدينة مغاغة حوالى 60 كم على الطريق الصحراوى الغربى بمغاغة، فأصابوا شجرة العائلة الواحدة بسقوط رجالها وترمل سيداتها وتيتم أولادها أيتام؛ حيث راح ضحية الحادث الإرهابى 29 شهيدًا.
قامت «البوابة» بزيارة معهد ناصر، وتحديدًا الغرفة 252؛ حيث ترقد السيدة المكلومة «سامية عدلى إبراهيم»، وقد زيّن فراشها بصورة للسيدة العذراء مريم وهى تحمل السيد المسيح، تراقب عينها الزوار وتتمتم بأقل الكلمات طوال الوقت، وتردد «الحمد لله» ممتزجة بآهات مكتومة يسمعها من يقترب منها.
كبير العائلة جاء لجمع شمل أسرته فاستشهد معهم زوجة شهيد: هاروح أزور مين ولا مين مصابة: كانوا عاوزين يحرقونا بعد ما ضربونا بالنار حنان فقدت صغيرتها وزوجها ووالدها: مش هاغسل إيدى لأن عليها دم بنتي أم صموئيل: عمرنا ما هانبطل صلاة وهانزور الدير تاني
تروى الأرملة التى جاءت خصيصًا من أمريكا هى وزوجها «محسن فهمي» كبير العائلة، بعد ثمانى سنوات من الغربة فى إجازة لمدة عشرين يومًا، لتوفى بنذرها الذى قطعته «للقديس صموئيل المعترف» بعد أن شفا زوجها من مرض خطير.
وتروى «سامية»: «أصر زوجى الشهيد أن يجمع العائلة الكبيرة لنزور الأنبا صموئيل، وقمنا بالترتيبات، وبدأت الرحلة بتحرك الأتوبيس من قرية عزبة حنا فى مركز الفشن، ليقل الجزء الأول من العائلة، وانضممنا إليهم من بنى مزار، يرافقنا أقاربنا من الجيزة، لنتوجه جميعًا فى الأتوبيس نفسه أولادى وأحفادي، إلى مغاغة لزيارة الدير..
وقاطعنى أحد أقاربها من الخارج بإشارة لأستمع إليه، وتنزل كلماته على كالصاعقة، إنها لا تعلم أن زوجها وابنيها وحفيدتها من الشهداء، فهى ترقد فى سلام تتأوه وتبتسم وتردد «الحمد لله»، تتلقى العلاج بعد أن تم استخراج الطلقات النارية من جسدها.
وبينما يشيع جثمان ابنها «سامح محسن» ترقد زوجته «مريم عادل» فى الغرفة المجاورة ٢٥٣، والتى أصيبت بشظية فى الساق اليسرى وكدمات متفرقة بالجسد، تصرخ وتهدأ لتقول «هروح أزور الدير»، وتصرخ «مش هزور الأنبا صموئيل بس»، وتغلبها الدموع وتقول «هاروح أزور مين ولا مين» «جوزى ولا أبويا ولا عمي»؛ حيث تم دفن جثامين الشهداء بالدير فى مقبرة مجمعة لثمانية شهداء.
وتمسك مريم بتليفونها المحمول وتقبله، وتبكى حبيب عمرها بعد أن فتحت صورته، وتعود فتصرخ والدموع تبلل وجنتيها فتقول: «هما عايزين مننا إيه، إحنا هنعيش ونموت مسيحيين مش هننكر إيمانا مهما عملوا فينا».
وفور رؤيتها للقس سامح موريس، راعى كنيسة قصر الدوبارة الإنجيلية، والذى حضر مع مجموعة من شباب الكنيسة لمؤازرة المصابين وتقديم العون والمساعدة لهم، تعالت صرخاتها وأغلقت الأبواب بعد أن انتابتها حالة من الانهيار الشديد، وتصرخ بصوت هز أرجاء الحجرة لتقول: «بيعلموا كده ليه بيكرهونا ليه»، ولم يملك راعى الكنيسة الإنجيلية أمام صراخها ودموعها، سوى أن تذرف دموعه ويعلو صراخه لله طالبًا منه أن يتولى الإناء الذى يكسره الحزن ويعزى مريم، وبعد دقائق من الصلوات التى رفعها القس على صوت نحيب مريم، هدأت قليلًا، وأخذ يعزيها بكلمات من الإنجيل يشد بها من أزرها.
وترجع مريم بذاكرتها إلى يوم الحادث فتقول: «لم يكتفوا بإطلاق النيران علينا داخل الأتوبيس، بل بعد نزولهم استمروا فى عملية إطلاق النيران على أمل اشتعال الأتوبيس وإحراق من يعيش منا حيًا.. كانوا عايزين يحرقونا، ولكن ربنا بدد خطتهم»- على حد تعبيرها.
والحزن فى قلب مريم الذى لا يحتمل على أحباء استشهدوا، وطفلها الحى المصاب «جون» أربع سنوات، والذى يرقد بالعناية المركزة، ويفصل بينه وبينها ثلاثة أدوار، فقد أصيب بشظية فى اليد اليسرى، وتجمع دموى فى الطحال.
ويكسر الطبيب حزنها ليطمئنها أن حالة طفلها قد تحسنت وفى القريب سيكون شريكها فى الغرفة، وتثلج تلك الكلمات قلبها المجروح، فالخطر زال عن فلذة كبدها، وأخرج من حجرتها وأنا أعلم أن هناك خبرًا مفجعًا لم تعرفه بعد أن همس به أحدهم فى أذنى قائلا: «أختها هبة ٣٠ سنة من الشهداء، بس مريم لسه متعرفش».
ويصل خبر تحسن الطفل جون إلى أخت مريم «حنان عادل»، والتى ترقد فى الغرفة ٢٥٩، والتى تعانى صدمة عصبية ونفسية، وفى حجرة مريم تسمع الأقارب يرددون «أختها حنان بطلة»، ويأخذنى فضولى لأستمع إلى بطولات حنان التى فقدت فى غضون لحظات، زوجها، ووالدها، ووالد زوجها وصغيرتها «مارفى» وعمرها عام ونصف العام.
تسلقى على فراشها وآثار الدماء على يدها، تنظر إليها وترفض أن تغسلها، وتغلبها دموعها فتبكى طفلتها، وتقول: «دم بنتى.. دم بنتي، مش عايزة يروح مني»، وبالرغم من انهيارها؛ فإن الأحداث ما زالت فى ذاكرتها مثل شريط فيديو معروض على شاشة لا تراها سوى عينيها، وتردد «ربنا يسامحهم أعمياء».
وتقول حنان: «عند نص المسافة تقريبًا فجأة ٤ عربيات جيب «بيج» نزل منها ملثمون كتير، وفى جبهتهم العلامة، شعار «لا إله إلا الله»، وقاموا بضرب نار فى كل الأتوبيس ليتوقف، وبعد أن توقفنا بسبب الأعيرة النارية، فتحوا الباب وضربوا السواق، وكان أول واحد استشهد والد زوجى محسن».
وتضيف حنان: «دخلوا الأتوبيس وابتدوا يضربوا كل الرجال، وفى نفس اللحظات تزامن قدوم عربيتين -ربع نقل تويوتا- من الناحية المقابلة -يعنى جايين من الدير- ونزّلوا العمال اللى فيهم وضربوهم بالنار كلهم، ورجعوا تانى للأتوبيس، وقالوا: «هاتوا الغنيمة»، بعدها قالوا لنا قولوا: «لا إله إلا الله.. اتشاهدى يا ست ومش عايزين نسمع صوت». وأضافت، «كنت أحتضن ابنى عنده سبع شهور، فى صدرى كأنى أرضعه لأغلق فمه»، وتقول: «كنت خايفة أحسن يسمعوه ويجوله، لكن الحمد لله سابوا الأتوبيس، بعد ما تعطلت عربية من عربياتهم قاموا حرقوها، ومشيوا بعربياتهم الجيب ناحية الجبل فى الرمل تجاه المنيا». 
وتعود حنان، فترفع يدها وتنظر إليها، وتقول: «مش هغسل أيدى؛ لأن دم «مارفى» عليها، قتلوها وهى على إيدى، ربنا نجانى علشان أرضع ابنى بس خدوا من بنتى وتجهش فى البكاء من جديد».
وتضيف حنان: «بعد ما هربوا نزلت من الأتوبيس بدوس على دم الشهداء وأجسادهم، بدور على النجدة، وكل السيدات لاقيتهم مصابين فى رجليهم، وقعدت أجرى وأشوف الجثامين كتير على الأرض والدم مغرق كل حتة وأصرخ، لاقيت موبايل السواق بس مفيش شبكة، قعدت أجرى فى الصحرا لغاية ما لاقيت عربية، ركبت فيها لغاية ما لاقيت شبكة كلمت قريبى صموئيل ابن عمتي علشان يجي».
فى الحجرة ٢٦١، ترقد أم صموئيل الذى هرول لينقذ أمه بدرية عبدالشهيد، والتى أصيبت بشظايا فى الساقين، وكسور فى الرجل اليمنى، وترقد مبتسمة هادئة مطمئنة.
«أم صموئيل» كما يطلق عليها أقاربها قالت: «أول ما شفت الإرهابيين افتكرت ما حدث لشهداء ليبيا، فى نفس المنظر والملابس المتشابهة»، مضيفة: «الإرهابين أخدوا مننا كل شيء وقاموا بإطلاق النيران علينا بس الحمد لله»، وتكمل: «هزور الدير بعد ما اشفى، وهافضل أزوره مفيش حاجة هتمنعني».
وعن قصتها مع القديس صموئيل المعترف، قالت: «أنا ليا حكاية طويلة معاه، كنت فى زيارة مع زوجى للدير، وقتها كنت حامل ولم يكن اختراع الأشعة ومعرفة نوع الجنين، فنادانى أحد الرهبان وقالى أنتى فى بطنك صموئيل، وبعد ما وضعت كان ذكر بس للأسف مسميناهوش صموئيل فمات بعد شهور قليلة، وعدت فحملت مرة تانية وكنا بنزور الدير، وللمرة الثانية يقولى الراهب إنه فى بطنى صموئيل، وفى تلك المرة أطلقت على ابنى صموئيل تيمنًا بالقديس الأنبا صموئيل»، وهى تشير بإصبعها إلى ابنها الذى يقف بجوار سريرها.
وبينما تقاوم الحزن والألم بابتسامتها، قالت «أم صموئيل»: «هما مفكرين باللى عملوه إننا هانتوقف عن الصلاة؟ أبدًا هنصلى وهنروح الكنيسة وهنتمسك بالمسيحية أكثر ونزور الدير». 
فى الحجرة ٢٥٥، استمعت إلى رواية «سهام عادل رزق»، والمصابة بطلق نارى فى ساقها وكتفها، وتذهلنى بأولى كلماتها، فتقول: «ربنا كرمنى بإرهابى طيب»، وتوضح فتقول: «شفت زوجى ووالد زوجى قتلوا قدمى، وابن اختى كان فى حضنى شفت مخه بيطلع قدام عيني، وفى الآخر كان الدور على ابنى «فام» سبع سنوات، وكانوا اتنين إرهابيين، قعدت أصرخ وأقول له سيبهولي، فواحد منهم قال للتانى سبهولها، مع إنه مصاب بس حالته كويسة وفى المستشفى».
فى المشهد الأخير فى الحجرة ٢٦٠، ترقد «مارينا عياد عزيز» ابنة «نورا» التى ترقد فى الحجرة ٢٥١، وتصر أختها «بسنت عياد» ١٣ عاما على رؤيتها، ولكنها ما زالت فى مرحلة الإفاقة عقب إجرائها عملية جراحية لإصابتها بطلقات نارية فى منطقة الحوض، فما كان من أهلها إلا اصطحابها وهى راقدة على سريرها إلى غرفة أختها لتراها.
«بسنت»، والتى أصيبت فى الحادث بطلق نارى فى القدم، ومعها أختها «مارينا» ووالدتها «نورا»، وتوفى شقيقهم الوحيد «بيشوى- ١٥ عامًا»، بدأت فى البكاء عندما رأت أختها تتألم على السرير، بينما حاول من حولها إثنائها عن البكاء وهم يعدونها بالبقاء بجانب أختها فى الغرفة نفسها، وهى طالبة فى الصف السادس الابتدائي، وبينما ترقد على سرير المستشفى تتساءل عن نتيجتها فى الدراسة، وتبتسم لمن حولها قائلة: «لم أجب بالشكل الجيد فى الامتحانات».