الأربعاء 01 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

لكي لا يغادرنا التاريخ حقًا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
وجهتا نظر فى التاريخ الأولى تقر بأنه حقائق ووقائع حدثت بالفعل، سجّلها المؤرخون المدونون الذين شاهدوها أو سمعوا بها وتيقنوا حدوثها، والثانية تقر بأن التاريخ وجهة نظر حول وقائع حدثت بالفعل وأخرى وُضعت، وصارت متداولة.
من يحتكم بين الاثنتين؟ 
هذا هو السؤال الذى يؤرق الباحثين والمحققين والمدققين فى تمحيص التاريخ واستخراج لآلئه وتثبيت وقائعه، والإقرار بها، فى وقت يجرى الجدل فى منطقة رمادية طاغية هى «فلسفة التاريخ» بعينه، التى تعطى خلفيات ومراجعات تخيلية عن الفكر والقيم التى أحاطت بتدوينه، وهى تحليق فى سماوات كتابته، وما أكثر المحلقين.
الأزمة أن ما يصلنا من التاريخ، كتب فى زمن الأقوياء، وسيوف السلطة، المُسلطة على رءوس ليس المؤرخين والكتاب والمدونين، فحسب، بل على التاريخ نفسه، ورواته والمشتغلين فيه، وكما يقول ستالين بعد إعدام المتجمهرين فى موسكو للحصول على بضاعة أبان الحرب الثانية، وهو يحرق ستالينجراد وقتها أمام زحف الجيش الألمانى «سأعلمهم النظام حتى لو اضطررت لقتلهم جميعًا»، وهو يسير فى شوارع العاصمة الحمراء، حسب الرواية التاريخية؛ فإن ذلك النظام الذى يفرض على المؤرخين والولاة من حكام بعض مراحل التاريخ أشبه بما فعله ستالين فى رواية مناهضيه من المؤرخين الذين عملوا على تشويه حقبته أو دونوها حقًا، بعد الحرب الباردة التى استمرت نصف قرن تقريبًا. 
واتخذها الناس مسلمات، وحقائق نهائية، شوهت صور عشرات القادة والزعماء الوطنيين بطرق شتى ودوافع ومسوغات مختلفة، لكنها تلتقى فى لى عنق التاريخ وتغيير مساره.
كذا الحال فى الكثير من الأحداث الجسام فى تأريخنا العربى الذى ظل نهب تصورات المستشرقين المقتربين حينا والمستغربين البعيدين أحيانًا، لا حقيقة واحدة نهائية فى ذلك، بل عليها عشرات الرواة والعنعنات، والأشخاص الذين قصّوا وروا وفسّروا وعلّقوا عليها، حتى تخال إنها مجرد حكاية لا يقبلها العقل والمنطق، لكن تقبلها صفحات التاريخ الصفراء، عن موضوعات شتى من بناء الدول وفتح الأمصار وثبت ملوكها وقادتها، حتى أفولها وسقوطها، ومن تحليل شخصيات الحكام ووقائع يوميات المحكومين الأثرياء والتعساء، والعابرين والماكثين، حتى سيّر الملوك والملكات والأميرات والجوارى والقيان فى بلاط الأمويين والعباسيين، ودويلات المدن فى الأندلس، ومن معاناة الزهاد إلى سفه المضحكين والندماء والمرافقين، والشعراء وأهل العلم والتقوى والناصحين والمورطين، والمتسببين بسقوط أعظم التجارب، هناك المحروقة قلوبهم والمتوقدة عقولهم، وأصحاب النوايا والمرامى والغايات.
كلهم فى مسرح التاريخ ولاعبيه حاكمين ومحكومين، رسمت لهم الأدوار أو رسموا هم أدوارهم. 
الرابح الأوطان حينًا والخاسرة أحيانًا، رحلة بدأت ولن تنتهى، كل فيها يغنى على ليلاه.
وبين القيم والمعايير والاعتبارات والدلالات من جهة ولغة المصالح التى لا تعرف إلا المردودات، تكمن معادلة ذلك التاريخ الخبيء الذى يكمن وراء قيمة المنتج ودلالة الموقف ومسار التدوين اللاحق لوقائع تجرى فى مسلسل الزمن الذى صار يعدو بلا رحمة للمتوانين عن اللحاق بقطاره السريع، الذى لا ينتظر طويلًا أولئك المتعبين فهو يسير بأمر النافذين الذين حددوا استراتيجيات رحلته مسبقًا.
نقف بكل ذهول أمام هذا الكم والكيف من الكتابات المُفسرة لما جرى ومن فعل ومن رحل قبل أوانه، صفحات صفراء، ونتأمل تماثيل الأباطرة والأكاسرة والملوك والملكات والمحظيات، ونتفحص اللُقى و«التابلويدات» بشتى الكتابات المسمارية والهيروغليفية، ونتحرى الجمل والمصفوفات التى خلفها الأسلاف، لنصل إلى الحقيقة أو محاولة ذلك، علينا ألا نسقط من اعتبارنا ما فعله الأعاجم بتاريخنا، وكيف تدخلوا بروايته، وكيف تسللوا إلى غرف الحاكمين، ونفذوا للمحكومين، ما من تأريخ مثل تاريخنا دسّ الأجانب أنوفهم فيه، حتى إنهم نقلوا مقتنياته فى متاحفهم، بل سرقوها لحظة غفلتنا، ونهبوا إرثًا لا يحق لهم ذلك، واتخذوه مزارًا فى بلدانهم وظلت متاحفنا تئن لأنها فقدته.
إنه العالم الظالم الذى لا يعرف وفق منطق التاريخ ومعاييره غير منطق نيتشه البقاء للأقوى، بعقلية روما التى حكمت البشرية ألف عام، وهى التى انداحت وفتحت العالم، لحين انقلب عليها مسار الزمن.
لا يكتب التاريخ اليوم إلا الفعل الوطنى، والمنتج الوطنى الذى يواصل لحمة مسيرته بين الأولين ومنجزهم، والحاليين وكفاحهم، والأجيال اللاحقة وتعليمها وتبصيرها بحجم ونوع التحديات، وهذا مفتاح الإبقاء والتوازن بين المتغير المحلى والدولى، الذى يطرق أبوابنا شئنا أم أبينا فلا بد من المواجهة، إذا أردنا أن نُسجل تاريخًا مشرقًا جديدًا، ولا نكتفى بمحاكاة الأطلال.