الثلاثاء 21 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

وداعا أيها "الأبّ المبجّل"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
في الثامن عشر من يوليو 1918 أتى إلى الحياة، وفي الخامس من ديسمبر 2013 ذهب عنها، ذهب بعد حياة حافلة بالنضال من أجل الحرية ومناهضة العنصرية والمطالبة بالحق في العدل والمساواة، حياة متقلّبة بين مطاردات وتخفٍّ واعتقالات وسجن أخذ ثلث حياته، ثم حرية  وزعامة وتكريم من العالم، وتبجيل عظيم من وطنه، وتلقيبه بـ "الرجل المبجّل"، و"أبو الأمة"، وسعادة بدستور يُعدّ من أهم وأفضل دساتير العالم، حياة فيها أيضا الكثير من العصف الإنساني، والمآسي الشخصية والمرض والشيخوخة، والصلابة والصمود والوقوف على الأقدام حتى اللحظات الأخيرة، ثم الموت، كما الأشجار التي لا تموت إلا واقفة.
* يقال إن لكلٍّ من اسمه نصيب، وكان اسم ميلاده هو "روليهلاهلا"، ومعناه "المشاغب"، وأيضا معناه  "الرجل الذي يهزّ الأشجار"، وهو حقا عاش حياته كاسمه "مشاغبا مشاكسا، مناضلا مقاتلا مغامرا، وهو - وكاسمه أيضاً - الرجل الذي يهزّ الأشجار، ورغم الانتكاسات الشخصية، من خيانة زوجته ورفيقة دربه، إلى مقاضاة بناته له وأخذ حكم بالوصاية على صندوق أمواله، إلى موت ابنه مصابا بالإيدز، ورغم المرض والشيخوخة والعمر المتقدّم الذي أنهاه عند الخامسة والتسعين، إلا أنه - وكالأشجار - مات واقفا.
رحلة حياة طويلة فريدة في كل شئ، انتهت عند الخامس من ديسمبر2013، عندما أعلن  الرئيس الجنوب إفريقي "جاكوب زوما"، رحيل الزعيم نيلسون مانديلا عن 95 عاما، رحلة طويلة ممتدة إلى مايقرب من القرن، قضاها "المشاكس" - الذي كان اسما على مسمّى - تاركا وراءه سيرة ومسيرة لن تنساها البشرية مهما مرت السنوات ومهما تقلبت الأزمنة، رحلة لشخصية فريدة نادرة ويصعب تكرارها في حياة البشرية.
* منذ البداية وحياة "نيلسون مانديلا" كلها محطات تتميز بالفرادة والغرابة والتميّز الذي يصعب تكراره: 
فقد خرج "روليهلاهلا" إلى النور وهو ابن لزعيم هو "ثيمبو" زعيم قبيلة "الكوسا"، التي منها عائلته التي تحمل لقب  "مانديلا"، ثم نُزِعت الزعامة عن والده بسبب خلاف مع الوالي المحلي، بعدها يذهب "روليهلاهلا" ليعيش مع والدته حياة فقيرة، ويشب في قرية عائلة والدته يرعى قطعان الماشية، ثم ألحقته أمه - التي اعتنقت المسيحية - بمدرسة مسيحية محلية في سن السابعة، وفيها وكما جرت العادة يمنحه معلّمه الإنجليزى اسما إنجليزيّاً هو "نيلسون"، ليصبح اسمه "نيلسون مانديلا"، هذا الاسم الذي أصبح عنوانا ورمزا للنضال والإصرار على كسر الأسوار المقيتة لحكم التمييز العنصري، والنجاح في الوصول ببلد كان مختنقا بالعبودية والقهر والتمييز، إلى أن يصبح بلداً ديموقراطيّاً متعدِّد الأعراق، بلداً يُعدّ دستوره من أفضل وأهم دساتير العالم، وشارك في صياغته الشعب بأكمله.
* وتلعب المقادير أدوارها، ففي عام 1941 - وهروبا من زواج رتّب له -  فرّ "نيلسون" إلى جوهانسبرج، يرافقه ابن عمه، وهناك كان على موعد مع بداية رحلته في النضال السياسي الذي أصبح قدره واختياره، وفي جوهانسبرج يبدأ دراسته للقانون في جامعة "ويتواترسراند"، وهناك يواجه المعنى الحقيقي والبشع للتمييز العنصري، وفي عام 1944 يؤسس ورفاق له "رابطة الشبيبة للمؤتمر الوطني الإفريقي"، وفى نفس العام يتزوج مانديلا للمرة الأولى من "إيفلين نتوكو"، والتي كانت عضوة في حزب "المؤتمر الوطنى الإفريقي"، والذي رفض مانديلا في البداية الانضمام له، ودام زواجه بها 12 عاما وأثمر أربعة أطفال ثم طلاقاً، ثم في عام 1947 انتخب عضوا في اللجنة التنفيذية لحزب "المؤتمر الوطني الإفريقي"، وأصبح رئيسا له عام 1950، ليواصل - تحت مظلة حزب المؤتمر - سنوات نضال ومناهضة للعنصرية، مع الوصول إلى يقين بأنه لا بديل للحزب عن اختيار المقاومة المسلحة والعنيفة ضد النظام العنصري، وبين كرّ وفرّ واعتقالات وحبس وإفراج ومحاولات لاعتقالات وهروب وتخفٍّ، تستمر رحلة النضال المتواصل والمتصاعد لسنوات. 
وفي الخامس من أغسطس 1962 اعتقلت الشرطة "مانديلا" مع رفيقه "سيسيل ويليامز" ورفاق آخرين، واتهم مانديلا ورفاقه بعدّة تهم، هي: التخريب والتآمر للإطاحة بالحكومة واستخدام العنف المسلح، وطالب الادّعاء بإعدامهم، وبعد محاكمة استمرت أربع سنوات ونصف السنة، تم الحكم عليه بالسجن مدى الحياة. 
* ومن المواقف العظيمة التي لا تنسى لـ "مانديلا" أنه -  وأثناء حبسه ورغم تدهور حالته الصحية - قد عرض عليه رئيس جنوب إفريقيا آنذاك "بوتا"، وذلك في فبراير 1985، الإفراج عنه بشرط التخلي عن العنف كسلاح سياسي دون قيد، رفض "مانديلا" العرض، وأصدر بيانا عبر ابنته قائلا فيه: "ما هذه الحرية المعروضة، في حين أن منظمة الشعب لا تزال محظورة؟، فقط الرجال الأحرار هم من يمكنهم التفاوض، لا يمكن للسجين أن يتدخل في وضع قيد"، وبعد 27 عاما قضاها "مانديلا" في غياهب السجن، خرج ليصبح أول رئيس أسود لجنوب إفريقيا، "رئيس لحكومة الوحدة الوطنية التي هيمن عليها حزب المؤتمر الوطني الإفريقي"، وذلك فى 10 مايو 1994 وحتى 14 يونيو 1995، بعدها تنازل "مانديلا" عن منصبه كرئيس لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي، وانتخب المؤتمر الوطني الإفريقي "ثابو مبيكي" للمنصب، ليصبح "مبيكي" - بحكم الأمر الواقع - رئيسا للبلاد خلفا لـ "مانديلا". 
ويقرر "مانديلا" الابتعاد عن السياسة واعتزال الحياة العامة، معلنا حبه وقرار زواجه من صديقته المقربة  "جراسا ماشيل"، أرملة رئيس موزمبيق الراحل، مصرحا - بطفولية محببة وهو من تعدّى الثمانين من العمر - بالقول: "أنا أحب هذه السيدة الرائعة، ومداعبا الصحفيين بقوله: "لا تتصلوا بي بعد الآن". 

* ولا يمكن لنا أن نختم الحديث عن نيلسون مانديلا - الزعيم والمناضل و"الأب المبجّل" - دون الحديث عن مصر ونيلسون مانديلا: 
في زيارته لمصر عام 1995 قال نيلسون مانديلا: "أعتذر عن تأخري لأكثر من ربع قرن عن موعد ولقاء مع رجل رفعت رأسي من بعيد كي أراه، ثم حالت ظروف قاهرة بيننا، وكان من سوء حظي حين جئت إلى مصر أن جمال عبد الناصر لم يعد هناك، سأزور في مصر ثلاثة أماكن: الأهرامات والنيل العظيم وضريح جمال عبد الناصر"، ولهذا القول قصة: 
ففي عام 1961 جاء "مانديلا" إلى مصر - التي كان يعرف عنها آنذاك أنها داعمة لحركات التحرر في إفريقيا وسائر أرجاء العالم  - جاء طالبا دعم مصر لحركتهم في نضالها ضد النظام العنصري، والتقى "مانديلا" الوزير محمد فائق، الذي كان مسؤولا عن ملف القارة الإفريقية، وكانت محل رعاية وأهمية كبيرة من قبل الرئيس جمال عبد الناصر، وفي مقدمة الأولويات لديه، وطلب مانديلا من فائق ترتيب مقابلة مع الرئيس جمال عبد الناصر، ولكن كان من الصعب إتمام هذا لوجود الرئيس اليوغوسلافى "تيتو" في مصر في نفس الوقت، وسافر "مانديلا" على أن يعود من جديد بعد سفر "تيتو" للقاء الرئيس جمال عبد الناصر، لكنه لم يتمكن من العودة إلى مصر، ففور وصوله قبضت عليه سلطات الاحتلال العنصري، وقضى فى غياهب السجن ما يزيد عن ربع قرن، ثم - وعندما أتيح له أن يأتى إلى مصر - كان عبد الناصر قد ذهب عنها منذ ربع قرن أيضاً.