الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

التقدم الحضاري.. عربيًا وغربيًا «2»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
القول بالتقدم هو خاصية فلسفية توافق على الحركة وتقبلها كقيمة إيجابية، كما أنه من خاصية الفلسفة التى ترفض وجود اليقين المطلوب فى المعرفة أو الوجود الكامل فى التجربة الإنسانية. بعبارة أخرى، إن القول بالتقدم هو من شأن الفلسفة التى تقول بأن العالم ناقص غير مكتمل. ومن خلال هذا المفهوم، قدمت فلسفة «أفلاطون» Plato (٤٢٧ ـ ٣٤٧ B.C) نموذجًا لفلسفة لا تقبل مفهوم «التقدم»، لأنها ترفض «التغير» أساسًا؛ فالمدينة الفاضلة ينبغى أن تبقى إلى الأبد، لأنها هى ذاتها تجسيد لأقصى كمال للإنسان، بوصفها الصورة الإنسانية لعالم المثل. كذلك فالديانات السامية تعتبر أن التطورات التى حدثت للإنسان ليست «تقدمًا»، بل هى «تأخر» بالنسبة إلى حال السعادة الكاملة التى عاشها «آدم» و«حواء».
ومن السهل إدراك أن كل حضارة خبرت مفهوم «التقدم»، لكن الحضارة الغربية هى التى اعتبرت هذا المفهوم الركيزة الأساسية للمنظومة المعرفية، ففى أواخر القرن السابع عشر وطوال القرن الثامن عشر، أخذ الفكر الحديث يؤكد ثقته بالأسس العقلية والمنهجية التى عمل على إرسائها خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، وتزايد وعيه باختلافه عن الفكر القديم وبقوته وسلطته فى مواجهة القيم التى ظلت حية عبر القرون. وارتفعت الأنساق الفلسفية والرياضية التى تطمح للكمال، وراح كل فيلسوف يبنى مذهبًا يزيح المذهب السابق عليه ليحتل مكانه، وشعر أقطاب العلم الجديد بتفوق معرفتهم على معرفة القرون السابقة. حيث أكدوا اختلاف العقل عن الوحى والعلم عن الإيمان، وظهر الاعتزاز بالتقدم والتطور. كل هذه الاتجاهات المتعددة اندرجت تحت عنوان «التنوير»، وهى الصياغة الاجتماعية للنور الفطرى الذى تحدث عنه «ديكارت» Descartes (١٥٩٦ ـ ١٦٥٠ ) و«اسبينوزا» Spinoza (١٦٣٢ ـ ١٦٧٧) من قبل. وقد احتشد عصر «التنوير» بالعديد من فلاسفة «التقدم» أمثال «تورجو» Turgot «١٧٢٧ ـ ١٧٨١» الذى حاول تتبع مصير الجنس البشرى على ضوء فكرة «التقدم»، وعالج هذه الفكرة فى كتابه «مقال فى التاريخ العالمى» الذى ظهر عام ١٧٥٠، وتتلخص هذه الفكرة فى أن الجنس البشرى بوصفه مجتمعًا واحدًا وجسمًا واحدًا يسير دائمًا إلى الأمام ونحو الكمال والرقى المضطرد، ولكنه فى هذا السير ينحو إلى التأنى لا إلى العجلة والارتجال؛ ووسيلته فى ذلك العمل والإنتاج فى هدوء أحيانًا وثورة ووثبة أحيانًا أخرى. بناء على ذلك، يرى «تورجو» أن هناك قانونًا عامًا لتطور الإنسانية يمثل سيرها الدائم إلى الأمام وارتقاءها وتطورها من الحدة والشدة إلى التحضر والتقدم، ومن هنا يقول: «إن التجارب تعلم الناس كيف يرقون دائمًا فى نفوسهم المعنى الإنسانى، ومن العهود الأخيرة عمت بينهم محبة الخير والمشاعر النبيلة، وهذا ما أضعف الميل الشديد إلى الانتقام بين الأفراد والأمم». أما «كوندرسيه» Condorcet (١٧٤٣ ـ ١٧٩٤ ) فقد وضع تصميمًا لتاريخ الحضارة على ضوء فكرة «التقدم» وألف صورة تاريخية لتقدم العقل الإنسانى، وركز على تأكيد الوحدة التى لا تنفصم بين التقدم الفكرى والحرية والفضيلة، واحترام الحقوق الطبيعية؛ وتأثير العلم فى القضاء على التزمت، وذكر أن كل أخطاء السياسة والأخلاق، قد نبعت من المعتقدات الزائفة الوثيقة الصلة بأخطاء الفيزياء والجهل بقوانين الطبيعة، ورأى فى المذهب الجديد للتقدم أداة للتنوير وضربة قاضية لصرح التزمت المتداعى. ومضى يثبت اعتمادًا على وقائع التاريخ أن الطبيعة لا تتقيد فى عملية ارتقاء الملكات الإنسانية بأية شروط، والحد الوحيد أمام بلوغ الكمال هو مدى بقاء الأرض. وقد فسَر «أوجست كونت» Conte Auguste «١٨٢٠ ـ ١٩٠٣» تقدم المجتمعات البشرية على خط صاعد إلى أعلى، بمعنى أن هذه المجتمعات تسير سيرًا تلقائيًا، وتخضع لقوانين ضرورية تحكمها وتنظمها. هذا بالإضافة إلى ظهور «الموسوعة الفرنسية» تحت إشراف «ديدور» Diderot (١٧١٣ ـ ١٧٨٤ ) و«دالمبرت» Dalembert «١٧١٣ ـ ١٧٨٤»، فجمعت بين دفتيها مفكرين وكتابًا يمجدون العقل وينظرون إلى «التقدم» فى المعرفة كمسلمة بديهية مثل «فونتنل» Fontenelle «١٦٢٧ ـ١٧٥٧» الذى نادى بتقدم المعرفة الجديدة ومحاربة المعارف القديمة ورفع رايات التقدم والإيمان بالعقل الشامل. والجدير بالذكر، أن هذه النظرة المتفائلة التى سادت عصر «التنوير»، تمركزت فى المجتمع الفرنسى وتغنى بها فلاسفة التنوير الفرنسيون إبان حكم الملك لويس الرابع عشر، حيث الحياة الرغدة والاستغراق فى الترف. ومع ذلك فقد ارتفعت بعض الأصوات المحتجة على فكرة «التقدم»، فرجال الدين لا يخفون سخطهم على العقل ولا يعترف «بسكال» Pascal «١٦٢٣ ـ ١٦٦٢» بسلطته، وقد حكم عليه «لوثر» Luther حكمه القاسى حينما قال : «إن العقل الذى أصابه مس من الشيطان يؤذى الأمور الإلهية أعظم أذى، وكلما ازداد حظه من العلم والبراعة ازداد ضرره». وحاول «روسو» Rousseau (١٧١٢ ـ ١٧٧٨ ) أن يثبت حدوث نكوص فى التاريخ عندما أعلن أن أرواحنا «تتعرض للفساد فى الوقت نفسه الذى تتقدم فيه علومنا وفنوننا تجاه الكمال». ولم يتحمس الفكر الإنجليزى لفكرة «التقدم» ربما لاستقرار الأوضاع السياسية والاجتماعية والرغبة فى الحفاظ على هذا الاستقرار، مما جعل المفكرين حذرين فى الأخذ بالتقدم. فنجد «هيوم» Hume «١٧١١ ـ ١٧٧٦» يؤكد أن العالم يجب أن يمر بمراحل مختلفة من الطفولة والنضج ثم الكهولة والشيخوخة، ويشارك الإنسان فى كل هذه الأطوار، وتزدهر العلوم والفنون من حين لآخر ثم تتعرض مرة أخرى للذبول.
وعلى الرغم من كل المحاذير والتحفظات والانتقادات التى أبداها البعض لفكرة «التقدم»، فإن الاكتشافات والاختراعات العلمية الكبرى التى تمت فى القرنين السابع عشر والثامن عشر، جعلت الثقة فى قدرات العقل البشرى مطلقة لا رجوع عنها. فالتقدم العلمى الهائل جعل الفلاسفة ينظرون إلى فكرة «التقدم» كضرورة حتمية فى «التاريخ»، وتخيلوا أن بوسعهم أن يحققوا تقدمًا لا نهائيًا فى الحضارة، وبالتالى بدأوا بالتخلى عن فكرة الفساد والتدهور. وتمخض عن هذا التقدم تاريخ تخمينى افتراضى ساد القرن الثامن عشر، يبحث من خلال العقل عن القوانين الطبيعية لتطور وتقدم الجنس البشرى ككل. واعتقد مفكرو ذلك العصر أن «التقدم» ليس شيئًا عرضيًا، ولكنه ضرورة تاريخية، «تقدم» لا يعتمد على سجلات الأحداث الفعلية فى التاريخ، ولكن على استعمال العقل.