الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بروفايل

جمال الغيطاني.. تجليات المريد

جمال الغيطاني
جمال الغيطاني
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الـ"كوميديا" كلمة لا تعني السخرية؛ بل تعني السعادة؛ لذلك لصقها الشاعر الإيطالي دانتي أليجري بكلمة الإلهية؛ فعَنْوَن ملحمته باسم الكوميديا الإلهية، ذهب بخياله الجامح إلى حياة الإنسان بعد مماته؛ وخوضه صراع الجحيم والمطهر والجنة ليصل إلى معنى السعادة الإلهية.
يشرد دانتي بخياله بعيدًا فيتخيل نفسه في العالم الآخر التي كانت تأتي بعدها؛ ولقد قسّم رسالته الشعرية السماوية، إلى ثلاث مجموعات غنائية: فصل في الجحيم، وثان في المطهر، وثالث في الفردوس. وجاءت كل مجموعة مشتملة على ثلاثة وثلاثين نشيدًا، باستثناء مجموعة الجحيم التي استهلت بنشيد استفتاحي إضافي رمزًا للواحد المطلق، ولقد جاء تصور هذه الكوميديا على شكل هندسي حيث صور مركز الأرض الثابت في وسط الكون، ومن حوله تدور السماوات السبع، منها سماء النجوم الثابتة.. المتحرك الأول، ومن دونه يوجد موطن الآلهة؛ ويتواجد الشيطان الأكبر في وسط الأرض، تحت مدينة القدس، حيث يتمركز الجحيم. وتتفرع عن هذا الجحيم خمس دوائر تتواجد عند مدخل المدينة الإلهية، وأربع أخرى تقع خارجها. وثمة طرق تقود من مقام الشيطان، بشكل معاكس، لمدينة القدس حيث يرتفع المطهر، الذي يشتمل على شط الجزيرة وما قبل المطهر؛ والسطوح السبعة؛ وعلى قمة المطهر تتواجد جنة عدن.
وهذا المطهر يمثل مسرحًا رهيبًا لكل من المتكبرين والحاسدين وأصحاب الشره والنهم. لكن من أجل البلوغ إلى رؤية الإشعاع الإلهي، عليه أولًا أن يتجاوز نهر النسيان رفقة المرشدة "بياتريس"، وهكذا يصعد معها متجاوزًا تسعة أفلاك، وهذه الأفلاك تأتي بعد: القمر، عطارد، الزهرة، الشمس، المريخ، المشترى، زحل، النجوم الثابتة، فالمقام الإلهي، أو سدرة المنتهى، حيث الإشعاع الإلهي. ومراتب هذه السماوات هي في الواقع الدانتي تمثيل للمراتب البشرية: أرواح بارّة، أرواح خيرة، أرواح زاهدة، أرواح ذكية، أرواح شهيدة، أرواح عادلة، أرواح متصوفة، فمقام المسيح، ثم أخيرًا، الإشعاع الإلهي.
تتناسخ روح دانتي أليجري لتصل إلى ما بعد الألفية الثالثة في مصر حين أصدر الكاتب الراحل جمال الغيطاني كتابه "التجليات- الأسفار الثلاثة" الذي جمح فيه بخياله فتخيَّل عدة مقابلاتٍ بينه وبين الإمام محيي الدين بن عربي وبين الإمام الحسين وأشخاص آخرين من بينهم الزعيم عبدالناصر؛ وبدأ معهم مناجاة صوفية من خلال نص أدبي بديع لا يستطيع القارئ تصنيفه إن كان رواية أو ملحمة شعرية أو غيرها، لكنها نص أدبي خالص تتجلى فيه قدرة كاتبه على استلهام التراث ومزجه مزجًا فريدًا بأحداث واقعية وتاريخية كان مصدرها جولاته في الأماكن الأثرية ونبشه الدائم في تراث هذه الأمة وثقافته الموسوعية.
نجحت التجليات في إيصال الحديث بالقديم فكرًا وفنًّا وأدبًا ولغة وأحداثًا، ليس للكتاب بناء خطيّ ولكنه بناء غير نمطي يستطيع القارئ أن يفتح الكتاب في أى صفحة ويشرع في القراءة، حتى ينخرط فيها وكأنها الصفحة الأولى يتعرف من خلالها على الأحداث التي لا تبدأ ولا تنتهي ويشعر في الوقت نفسه بأنه في قلب الكتاب ومستغرقًا فيه منذ أمد.
وعلى حسب آراء نقاد عديدين أن هذه رواية بطلتها اللغة والكلمات؛ والقارئ في التجليات يقع بين صدق التجربة وصدق الحقيقة والتاريخ وصوت الماضي البعيد والقريب ووحدة الأحياء والأموات معًا في نسيج الإنسانية المتصل وأسرار الكون العميقة بين الزمان والمكان الثابت منهما والمتغير، المساير والمغاير؛ في منزل صوفية الكلمات وفلسفة الصوفية والحيرة الفلسفية والثابت الإيماني، في نسيج كلمات صيغت من صوت النداء الداخلي العميق بين سبحة التجلي والضمير المستقر في قاع سحيقة في مسافة ما بين الروح والعقل والقلب والنفس، تلك الكيانات العجيبة التي لا نراها ولكننا ندركها وننصاع لها لأنها ذاتنا التي لا ندركها إلا بكلمات مثل كلمات "التجليات".
وقد فاز جمال الغيطاني بجائزة لوربتايو عن هذا العمل إذ اعتبرته الجائزة أهم رواية في الأدب المترجم في العام الذي فازت فيه بفرنسا من بين ثمانمائة رواية، تبدو وكأنها التاج القشيب والمستحق عن مسيرة واسعة الخطى وعميقة الأثر بدأت منذ خمسينيات القرن الماضي وما زالت مستمرة حتي يومنا هذا.
التجليات هي إحدى أهم روايات الغيطاني التي تستشرف العديد من العوالم وتقرع كثيرًا من الأشكال الكتابية، وأجزاء الرواية الثلاثة تسير في أفق يتراوح بين الحلم والواقع، حيث تعتمد القيمة الروائية على استدعاء رموز غائبة وحاضرة في نفس الوقت، ينطبق ذلك على كل الشخصيات المؤثرة في حياة الكاتب وحياة ناسه.
وقد مكنت هذه التقنية المفتوحة والفضفاضة كاتب الرواية من سبر أغوار أفكار كانت تبدو من التابوهات، وإعادة الاعتبار لرموز في الفكر والسياسة والثقافة من بين الأسماء التي تم إقصاؤها، وقد كان لاستخدام الغيطاني الأقانيم الصوفية دور في منحه الحرية الواسعة في التأويل، حيث استطاع استنطاق شخوصه وأبطاله، وهو ما أضفى بعدًا عميقًا على مفهوم الزمنية، ولا سيما في مفهومه عن حلول الماضي في الحاضر.
أما أهم ما يميز هذه الرواية فهو أنها أولى الروايات التي أصدرها الغيطاني بالمخالفة شبه القطعية للتقنية الغربية للرواية حتى في أكثر أشكالها حداثة، على العكس تمامًا جاءت الرواية من حيث الشكل أكثر إخلاصًا للشكل العربي في السرد وخلق الأبطال عبر الحكاية كما في ألف ليلة وليلة خاصة وبعض المرجعيات السردية مثل كليلة ودمنة.