السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

من التاريخ إلى فلسفة التاريخ "4"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«التاريخ» علم ما في ذلك ريب، لأننا نستطيع أن نطلق كلمة «علم» على كل مجموعة من المعارف المحصلة عن طريق منهج وثيق للبحث فى نوع واحد معين من الوقائع، فهو علم الوقائع التى تتصل بالأحياء من الناس فى مجتمع ما من المجتمعات خلال توالى الأزمنة في الماضى، ويدخل في عداد العلوم الوصفية التى تختلف عن العلوم العامة اختلافًا بينًا.
فهذه العلوم مثل «علم الميكانيكا»، و«علم الفيزياء»، و«علم الكيمياء»، و«علم الأحياء»، تعمل لاكتشاف القوانين التى تتصل بالظواهر والأحوال الواقعية الزمانية والمكانية، وهدفها ليس تقرير الواقع؛ بل التنبؤ بما سيكون في أحوال معلومة. والعلوم الوصفية تسعى لمعرفة الوقائع الجزئية إما فى المكان وحده «كعلم الكون»، و«علم الجغرافيا»، و«علم المعادن»، و«علم النبات»، و«علم الحيوان»، أو فى المكان وتوالى الأزمنة معًا؛ وإلى هذا النوع الأخير ينتسب «التاريخ».
وجميع العلوم لا تعمل إلا فى نوع واحد من الظواهر، لكن «التاريخ» يدرس فى آن واحد نوعين من الوقائع المختلفة كل الاختلاف. 
النوع الأول: الوقائع المادية التى تــُـعْرَف بالحواس مثل الأحوال المادية والأفعال الخاصة بالإنسان، النوع الثانى: الوقائع التى هى من طبيعة سيكولوجية مثل العواطف والأفكار والدوافع، والتى لا يدركها إلا الشعور، ولا سبيل إلى الإعراب عنها لأنها مرتبطة بالأفعال السلوكية.
لكن ما منهج البحث الواجب اتباعه فى دراسة «التاريخ» بوصفه علمًا؟
منهج البحث التاريخى هو المراحل التى يسير خلالها المؤرخ حتى يبلغ «الحقيقة التاريخية»، ويمكن تحديد ثلاث مراحل أساسية لمنهج البحث التاريخى:
الـمرحلة الأولى: مرحلة «التجميع»، أى جمع مواد المعرفة التاريخية وهى الوثائق بالمعنى الواسع للكلمة، وقد بدأ التاريخ - شأنه شأن العلوم الوصفية (مثل علم الحيوان، وعلم الجيولوجيا) بتجميع الوثائق، ويقوم بهذا العمل مختصون يديرون الحفائر، ويحررون الفهارس والأثبات، وينشرون كتب المراجع. وتعد الوثائق الخطية أعظم المصادر، وهناك مصادر أخرى على شكل عدد، ومبان، وحصون، وصور، ونقوش، بل وعلى شكل رواية شفوية أيضًا.
الـمرحلة الثانية: وهى مرحلة «النقد»، فلا يجوز أن يقبل المؤرخ كل كلام أو يصدق كل وثيقة أو مصدر بغير الدرس والفحص والاستقراء، فيأخذ الصدق أو أقرب ما يكون إليه، ويطرح جانبًا ما ليس كذلك. ينبغى أن يناقش كل هذه الأشياء، خاصّة الوثائق الخطية من حيث صحة أصلها، ودقة روايتها، وكون عبارتها فى ذاتها قابلة للتصديق، وكذلك من حيث المستوى العقلى والخلقى لكتابتها، وإذا أعوزت المؤرخ ملكة «النقد» سقطت عنه صفته، وأصبح مجرد شخص يحكى كل ما يبلغه على أنه حقيقة واقعة، وليس بهذا يُدْرَس أو يُكْتَب «التاريخ».
الـمرحلة الثالثة: مرحلة «التأويل»، وهى أصعب المراحل الثلاث، وفيها ينبغى على المؤرخ أن يكون صاحب إحساس وذوق وعاطفة وتسامح وخيال بالقدر الذى يتيح له أن يدرك آراء الغير ونوازع الآخرين. وبذلك يمكنه أن يتلمس مثلًا أخبار «الإسكندر»، و«قيصر»، و«صلاح الدين الأيوبى»، و«ابن رشد»، و«باخ»، و«لويس الرابع عشر»، و«نابليون»..... إلخ، ويحس ما جاش بصدورهم من شتى العواطف، ويفهم -بقدر المستطاع- الدوافع التى حركتهم لاتخاذ سلوك معين فى الزمان الماضى.
لكن يبقى سؤال لمن يُكتب «التاريخ»؟ هل يُكْتَب من أجل المتخصصين فى هذا العلم؟ أم يُكْتَب من أجل أن تتعرف الشعوب على تاريخها؟ نقول، إننا نصادف -فى الحقيقة- هذين النوعين من «التاريخ». فالأول، هو «التاريخ» الذى يُكْتَب بأسلوب علمى خالص. والثانى، هو «التاريخ» الذى يُكْتَب بطريقة فنية وأدبية، وهو «التاريخ» القومى للشعوب والأمم.
وتتحدد قيمة «التاريخ» المكتوب بناءً على بعض الأسس الجوهرية. فأولًا: يجب أن يُفْحَص نوع المادة التى استقى منها المؤرخ معلوماته، هل هى نقوش أو آثار قديمة معاصرة ثــُبتت صحتها وصحة معلوماتها؟ هل هى أصول ووثائق ومراسلات مستخرجة من دور الأرشيف التاريخية وثبت أنها غير مزيفة، وأن معلوماتها صحيحة وأنه لم يسبق نشرها؛ أو على الأقل لم يسبق استخدامها بدرجة كافية؟ هل المادة التى اعتمد عليها المؤرخ هى مجرد مراجع ثانوية ليست ذات قيمة علمية؟
ثانيًا: تتحدد قيمة «التاريخ» المكتوب بناءً على قدرة المؤرخ على الدرس والبحث، وقدرته على النقد، وطريقته فى استخلاص الحقائق وتنظيمها وتفسيرها وعرضها، ويختلف المؤرخون فى مسألة النقد وفى استخلاص الحقائق بحسب اختلافهم فى الفهم والتفسير والاستنباط. وأحيانًا يختلفون فى تقدير معنى الحوادث من ناحية الدين أو السياسة أو الاقتصاد، وبذلك تأتى كتاباتهم متفاوتة أو مختلفة. كل هذه الأمور تعطى لــ «التاريخ» الحركة والحياة، وتجعل البحث فيه مستمرًا على الدوام.
وثالثًا: تتحدد قيمة «التاريخ» المكتوب بناءً على بُعد المؤرخ عن التحيز والأهواء، ومطابقته للواقع بقدر المستطاع. لكن أحيانًا يتأثر المؤرخ بروح عصر معين، مثل عصر الحروب الصليبية أو عصر الانقلاب الصناعى أو نمو الديمقراطية أو ظهور الاشتراكية... إلخ. فيكتب وهو يحاول إخضاع الموضوع المعيَّن لرأيه وفكره. ومثل هذه الكتابات تــُعد تاريخًا لنوع من التفكير خاص بالنزعات الإنسانية الجديرة بالدراسة، ولكن لا يمكن أن يُعد ما جاء بها معبرًا عن الحقيقة التاريخية، بالنسبة لما تناولته من الموضوعات. وبمعنى آخر يمكننا أن نقول، إن قيمة «التاريخ» المكتوب تتحدد بناءً على ثقافة المؤرخ، وإلمامه بطريقة البحث التاريخى، وبناءً على استعداده الشخصى ومكانته.