الأربعاء 01 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

وهمُ الإيديولوجيا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم يُهدد العالم سلاحٌ، كما تهدده الإيديولوجيا، ولم تُقتل أعداد من البشر كما يُقتل الآلاف كل يوم بسبب، الصِدام والوقوف فى تقاطع نيران الإيديولوجيات التى هى منظومة من الأفكار التى تنشد الكمال، وتسعى لتكون بديلاً ومحتوى فى عقول ونفوس الأفراد والحشود على حد سواء، وهى نظام أضحى عقائديًا كونه يتخطى منظومة الدولة الوطنية، بل يدعو الآخرين إلى التمرد على تلك الدولة وموجبات المسايرة والانصياع لتلك المنظومة فى الفكر والممارسات، بغض النظر عن شرعيتها ومحتواها ومدى الفائدة التى تعود بها تلك الأفكار التى يتلاقفها أولئك الأفراد، والجماعات ويتبنونها ويحولونها إلى خارطة طريق للعمل، حتى وإن تعارضت مع سياقات ومديات الدولة والحكومة الوطنية، لتكون فى الآخر مثل المورفين الذى يسرى فى أجساد البعض، ويمتثلون لما تريده دون تمحيص عقلى أو ضمير وطنى أو قراءة تحليلية، بل وحتى شخصيًا، لدى الكثير ممن يجهلون هويات ودوافع ومتبنيات تلك الإيديولوجيا، التى تقود حتمًا إلى صراع حضارات وشعوب من الخارج وأقوام من الداخل ومكونات مجتمعية، يدفع ثمنها كل ما هو وطنى ومؤسسى تقوم عليها الحكومات والدول.
وإذا كانت الشيوعية التى اجتاحت الجغرافيا السياسية فى العالم طيلة القرن الماضى، فى صراعها مع الإيديولوجيا الرأسمالية النقيضة لها، أبرز نموذج صارخ يمكن تقديمه للإيديولوجيا وتأثيرها؛ حيث أنتجت حروبًا ساخنة وباردة جعلت الإنسانية تدفع ضرائب هائلة، وضحايا من البشر بالملايين بعشرات الحروب الكبرى والصغرى والإقليمية، والهدر الهائل للثروة البشرية، وتخريب الكوكب، فإنها بعد قرن سلم أغلب متبنيها أنفسهم إلى ضرورات العيش والتملك ودعة الحياة، وتحولوا إلى رأسماليين ينادون بالاشتراكية، فى أحسن الأحوال، كما نرى فى انحسار اليسار الأوروبى الذى غيّر الكثير من أفكار مؤسس الإيديولوجيا الشيوعية كارل ماركس وتنميطها بالإطار الوطنى والقوانين ومنطق اقتصاد السوق الذى يعطى مواءمة مع النمط الرأسمالى الشريك فى الدولة والحكم، تبعًا للسياسات الواقعية التى تبنتها الأحزاب اليسارية هناك. 
ومع دخول العالم قرنا جديدا فقد انحسرت وانكشفت الإيديولوجيا القومية أيضا التى ظلت تنادى بجوهر الأعراق ونقائها وقيمتها، ووحدتها، خروجا من التحدى الاستعمارى بشقيه الكولونيالى والإمبريالى، وانحسر دورها أمام الفشل المتلاحق فى تطوير المجتمعات ونموها، والحروب التى خاضتها دفاعًا عن وجودها ورغبة فى التخلص من آثار المرحلة الاستعمارية، هذه الإيديولوجيا عاشت صِدامًا متواصلًا منذ مؤتمر «باندونغ» فى العام ١٩٥٥ لدول عدم الانحياز، التى أرادت أن تنأى بنفسها عن محورى الشر آنذاك بالنسبة لها فى الحرب الباردة، لكنها واجهت متحدين أقوياء يملكون المال والسلاح والقوة لتقويض الحلم القومى للدول التى تبنته وأعلنت حربها على من يخالفها.
حتى بروز الإيديولوجيا الدينية التى أرادت تحويل التدين إلى متبنى سياسى، وتحويل العقائد العبادية السلفية إلى حركة وشعار سياسى، وبالتالى إلى صراع مع أصحاب الديانات المختلفة ظاهره التدين، وباطنه كرسى الحكم بكل رمزيته، ومنافعه وتمثيله، وبالتالى ربط الدولة بمشروع كونى عقيدى دولى، يتبنى شعارات الجهاد، ونشر العقيدة وإشاعة حالة الاحتراب مع الآخر المختلف، وهذا ما تدعو إليه بعض المظاهر التنظيمية العقائدية التى لا ينحصر فكرها بإطار الدولة الوطنية إلى مشروع أوسع، لا يعترف بفكرة المواطنة، ولا بقانون الدولة ودستورها، مستغلاً أطرها السائدة لتنفيذ أجندتها كإيديولوجيا تتعدى حدود الدولة، للوصول حيث يكون هناك مماثل دينى بغض النظر عن طبيعة توجهاته، ومحاولة شدّ الناس إلى خبرة الماضى الذى لا يعود، وكان وليد لحظة تأريخية ممكنة فى دولة الخلافة، التى ذهبت كل رموزها، وصارت حالة تاريخية اعتبارية، ينهل منها المجتمع ومن قيمها ومدلولاتها، وهى لا علاقة لها بالصيرورة الحديثة للمجتمعات وقوانينها الدولية، وتشريعاتها وتشكيلاتها الأممية.
إن الإيديولوجيا أيًا كانت فكرة لا يمكن القفز عليها، ولا فرضها تظل حالة فكرية كأى فكرة يؤخذ منها ويتفاعل معها الناس، لكنها ليست الحقيقة كاملة فى دولة القانون والمواطنة، والهوية والثقافة والخيار المشترك للناس وعيشهم وتطلعاتهم وحريتهم فى المعتقد، وبذلك لا ينبغى ليّ عنق الحقائق المعاصرة لمجرد أنك تؤمن بفكرة تجدها صالحة، فى عالم ملىء بالأفكار، والاحتكام دومًا للقانون ومفاعيله كى تستمر الحياة بكرامة والعيش بمسئولية.