الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

من التاريخ إلى فلسفة التاريخ «3»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
حينما أخذ الإنسان البدائى منذ فجر المدنية يقص على أبنائه قصص أسلافه ممتزجة بأساطيره ومعتقداته، بدأ «التاريخ» يظهر إلى حيز الوجود فى صورة بدائية أولية، وبدأ الإحساس به يتكون فى ذهن الإنسان منذ أقدم العصور؛ وتدرَّج التعبير عن «التاريخ» مختلطًا أولًا بعناصر من الفن كالرسم والنقش على الحجر. وعندما سارت البشرية قدمًا فى مضمار الحضارة فى شتى أساليبها وصورها، رويدًا رويدًا، أخذ «التاريخ» يشكل أساسًا جوهريًا فى تسجيل موكب البشرية الحافل الدؤوب، إذ هو المرآة أو السجل أو الكتاب الشامل الذى يقدم لنا ألوانًا من الأحداث وفنونًا من الأفكار وصنوفًا من الأعمال والآثار.
و«التاريخ» يتخذ مجراه على يد الإنسان بطريق مباشر، وفى ظروف معينة، فالإنسان ابن الماضى، بل هو ثمرة الخلق كله منذ أزمان سحيقة. ويذهب بعض المفكرين إلى اعتبار «التاريخ» كله تاريخًا معاصرًا، ولا يستطيع الإنسان أن يفهم نفسه وحاضره دون أن يفهم الماضى؛ بمعنى أن «التاريخ» يتألف بصورة أساسية من رؤية الماضى من خلال عيون الحاضر وعلى ضوء مشكلاته. ومعرفة الماضى تكسب الإنسان خبرة السنين الطويلة، والتأمل فيه يبعد الإنسان عن ذاته، فيرى ما لا يراه فى نفسه بسهولة من مزايا الغير وأخطائه، ويجعله ذلك أقدر على فهم نفسه، وأقدر على حُسْن التصرف فى الحاضر والمستقبل.
وعلى هذا الأساس، اختلف بعض رجال «العلم» و«التاريخ« و«الأدب»، فى وصف «التاريخ» بصفة العلم. فها هو «كولنجوود» أحد الفلاسفة الإنجليز البارزين فى القرن العشرين يقول: «فى اعتقادى أن كل مؤرخ سيتفق معى فى أن التاريخ نوع من أنواع البحث العلمى. ولست أسأل الآن أى نوع من أنواع البحث هو، وإنما المهم هو أن التاريخ من حيث الأصل، يندرج تحت ما نسميه العلوم، وهى التى نقصد بها ألوانًا من التفكير تبعث فينا أسئلة معينة نحاول الإجابة عنها، ومن المهم أن ندرك أن العلم بصفة عامة لا يتألف من جميع ألوان المعرفة التى اكتسبناها ثم أخضعناها لتنظيم أو ترتيب معين، وإنما هو يتألف من تركيز الجهد فى شىء لا نعرفه لنحاول أن نتعرف حقيقته. إن قيمة التاريخ العلمية مشروطة بقدرته على تنظيم الأشياء تنظيمًا جديدًا، وهذا هو السبب فى أن العلم كله يبتدئ بالمرحلة التى نوقن عندها بأننا جهلاء، ولا أقصد هنا جهلنا بكل شىء وإنما أقصد جهلنا بشىء معين بالذات، إن العلم هو الكشف عن حقيقة الأشياء، وهذا هو المعنى الذى نقصده من قولنا إن التاريخ علم.
وذهب إلى هذا الرأى المؤرخ الكبير «بيورى» أشهر مؤرخى إنجلترا فى الربع الأول من القرن العشرين حيث قال: «التاريخ علم لا أكثر ولا أقل، وأن وقائعه يمكن أن تـُـدْرَس موضوعيًا كوقائع «الجيولوجيا» و«الفلك»، أى أن تــُـدْرَس على أنها أشياء خارج الذات، إذ لا يتسنى قيام علم على أساس ذاتى، والوقائع التاريخية يمكن أن تــُـجْمَع وتــُـصَنــَّف وتــُـفسر كما هو الحال فى أى علم. 
لكن البعض الآخر يحتج على وصف «التاريخ» بصفة العلم وهم أصحاب المذهب الطبيعى، الذين يرون أن مادة «التاريخ» تختلف عن مادة «العلوم»، من حيث كونها غير ثابتة ولا قابلة للتحديد. وأنه ليس من الميسور أن نعاين وقائع «التاريخ» معاينة مباشرة، وأن الاختبار والتجربة أمران غير ممكنين فى الدراسة التاريخية، كذلك كل واقعة من وقائع «التاريخ» المسلم بها قائمة بذاتها؛ وليس فى الإمكان تصور ظروف يتكرر فيها وقوعها. 
ولا يمكن أن نصل فى «التاريخ» إلى قوانين علمية ثابت، على نحو ما هو موجود بالنسبة لعلم الطبيعة أو علم الكيمياء مثلًا ـ 
حيث إن مادته مركبة تركيبًا لا نهاية له، وأنه ليس ثمة اتفاق بين المؤرخين على ما هو مهم من الوقائع التاريخية وما ليس بها منها. 
والذى يُبعد بــ «التاريخ» عن صفة العلم، فى نظرهم، قيام عنصر المصادفة الذى يهدم كل تقدير سابق، ويحبط كل محاولة ترمى إلى تكهن الحوادث، والأخبار بها قبل وقوعها. 
وفوق كل ذلك، فإن قيام عنصر الشخصية وحرية الإرادة يجعل كل مجهود يرمى إلى إقامة «التاريخ» على أسس علمية مجهودًا ضائعًا.
ويرى بعض رجال «الأدب» أنه سواء أكان «التاريخ» علمًا أم لم يكن، فهو ـ بلا ريب ـ فن من الفنون، وأن العلم لا يمكنه أن يعطينا عن الماضى سوى العظام المعروقة اليابسة؛ وأنه لا بد من الاستعانة بالخيال لكى تــُـنْشَر تلك العظام وتــُـبْعَث فيها الحياة، ثم هى بحاجة كذلك إلى براعة الكاتب حتى تبرز فى الثوب اللائق بها. وهم يقولون فوق ذلك: «إن ما يتصف به رجل العلم، من حياد جاف لا محل له، ولا يمكن أن يقاس بمقام المؤرخ المعنىِ بشئون النفوس الحساسة».
وعلى الرغم من أنه لا يمكن أن نستخلص من دراسة «التاريخ» قوانين علمية ثابتة على غرار ما هو كائن فى العلوم الطبيعية، فإن هذا لا يجوز أن يجرده من صفة العلم. 
ويكفي فى إسناد صفة العلم إلى موضوع ما، أن يمضى الباحث فى دراسته مع سعيه إلى توخى الحقيقة، وأن يؤسس بحثه على حكم ناقد أطرح منه هوى النفس وكل افتراض سابق؛ مع إمكان الرجوع إلى «التصنيف» و«التبويب» و«التقنين».