الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

من التاريخ إلى فلسفة التاريخ

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أما «ابن الأثير» فيذكر فوائد «التاريخ» فيقول: إن الملوك ومن إليهم الأمر والنهى إذا وقفوا على ما فيها من سيرة أهل الجور والعدوان، ورأوها مدونة فى الكتب يتناقلها الناس فيرويها خلف عن سلف، ونظروا إلى ما أعقبت من سوء الذكر، وقبيح الأحدوثة، وخراب البلاد وهلاك العباد، وذهاب الأموال، وفساد الأحوال، استقبحوها وأعرضوا عنها وطرحوها. وإذا رأوا سيرة الولاة العادلين وحسنها، وما يتبعهم من الذكر الجميل..استحسنوا ذلك ورغبوا فيه وظهروا عليه وتركوا ما ينافيه، ومن فوائد التاريخ أيضًا: «ما يحصل للإنسان من التجارب والمعرفة بالحوادث، وما تصير إليه عواقبها».
أما «الجبرتى» فيقول: إن «التاريخ» «علم يبحث فيه عن معرفة أحوال الطوائف وبلدانهم ورسومهم وعاداتهم وصنائعهم وأنسابهم ووفياتهم».
ويقول «ابن خلدون» فى مقدمته: «فن التاريخ من الفنون التى تتداولها الأمم والأجيال، وتـُشَدّ إليه الركائب والرحَّال وتسمو إلى معرفته السَّوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال، ويتساوى فى فهمه العلماء والجهال؛ إذ هو فى ظاهره لا يزيد على إخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأولي، تنمو فيها الأقوال وتُضرب فيها الأمثال، وتُطرق بها الأندية إذا غصها الاحتفال، وتؤدى إلينا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول فيها النطاق والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وحان لهم الزوال. وفى باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل فى الحكمة عريق، وجدير بأن يعد فى علومها وخليق».
وهذه عبارة تدل على فهم لطبيعة «التاريخ» ووظيفته فهو «فى باطنه نظر وتحقيق» أى تفكير فى طبائع البشر وتكوين مجتمعاتهم، وبحث عن أسباب الحوادث وتحليل لنتائجها، فهو على هذا كما يقول ابن خلدون «أصيل فى الحكمة عريق، وجدير بأن يعد فى علومها خليق». لكن يستوقف النظر أن «ابن خلدون» ينظم «التاريخ» فى سلك الفنون لا العلوم، لكنه عاد فعقد فصلًا عن «فائدة التاريخ» سماه «فى فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه». والإلماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط والأوهام وذكر شىء من أسبابها ويبدأ هذا الفصل ذاته بقوله: «اعلم أن فن التاريخ فن عزيز المذهب جم الفوائد شريف الغاية، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضيين من الأمم فى أخلاقهم، والأنبياء فى سيرهم، والملوك فى دولهم وسياستهم، حتى تتم فائدة الاقتداء فى ذلك لمن يرومه فى أحوال الدين والدنيا، فهو محتاج إلى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة، وحسن نظر وتثبت يفضيان بصاحبهما إلى الحق، وينكبان به عن المزلات والمغالط».
ولخص «هرنشو»، أستاذ التاريخ بجامعة لندن، فى كتابه «علم التاريخ» معاني التاريخ على ثلاثة:
الـمعنى الأول: يُطْلَق لفظ «التاريخ» على «مجرى الحوادث الفعلى» وهو الاستعمال الذى يفضى إلى الحديث عن صانعى الأحداث التاريخية والرجال الذين غيروا بأعمالهم مجرى التاريخ وشئون العالم كــ«الإسكندر الأكبر»، و«قيصر»، و«نابليون»، كذلك الحديث عن سلطان «التاريخ» بمعنى سلطة الأحداث والظروف التى أدت إلى وقوعها.
والـمعنى الثانى للفظ «التاريخ»: هو «التدوين القصصى لمجرى شئون العالم كله أو بعضه «واستعمال» التاريخ «بهذا المعنى استعمال لا غبار عليه، وهو أهم استعمالاته. فلدينا «تاريخ إنجلترا» و«تاريخ فرنسا» و«تاريخ ألمانيا» ، كما لدينا أيضًا «تاريخ» الفن والعلم والأدب، كذلك لدينا «تاريخ» أى شىء أو كل شىء تطور على مر الزمن وخـَـلَّفَ وراءه آثار تطوره. وإن كان هذا الاستعمال - فيما يرى «هرنشو» - مستقيما وشائعا، إلا أنه يفضى إلى شىء من اللبس يمكن الالتفات إليه حينما يكون النقاش مثارًا حول: هل التاريخ علم أم فن؟ فإذا قلنا إن «التاريخ» قصة فهو أدخل فى باب الإنشاء الأدبى منه إلى باب التأريخ أو باب الكتابة العلمية للتاريخ.
أما الـمعنى الثالث: فيعود به «هرنشو» إلى الأصل الذى اشتق عنه لفظ «التاريخ»، وهو المعنى الذى يفيد «البحث» أو «التعلم بواسطة البحث» أو «المعرفة التى يتوصل إليها عن طريق البحث». فالمعنى المستتر هنا هو الاستقصاء والبحث، وطلب الحقيقة. وبهذا المعنى يكون «التاريخ» علمًا، وإلا فليس بشىء على الإطلاق.
وخلاصة القول، إن «التاريخ» ينفع فى العظة والعبرة، فنحن ندرس تاريخ الدول والملوك لنتعلم، وندرس سير الأنبياء لنتأسى بهم، وندرس تجارب الأمم ونرى ما وقعت فيه من الأخطاء لننجو بأنفسنا عند المزلات ومواطن الضرر، وهذه فى رأينا أعظم فوائد «التاريخ». ونستطيع أن نقول، إن «التاريخ» هو وعاء الخبرة البشرية، أو هو المحاولة التى تستهدف الإجابة عن الأسئلة التى تتعلق بجهود البشرية فى الماضى ونستشف منها جهود المستقبل، ولا شك أن « التاريخ « بهذا المعنى يتحول إلى «علم» له أصوله يقوم على البحث فى الوثائق التاريخية، واستخلاص أحكام عامة من مجموعها؛ تتعلق بحياة الكائنات البشرية التى خلقت تلك الوثائق.