الجمعة 10 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

مارين لوبان تشغل بال مثقفي فرنسا

مارين لوبان
مارين لوبان
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إذ تجرى الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية غدا الأحد فإن الثقافة تبدو حاضرة بوضوح في قلب هذه المعركة التي وصفت بأنها "أخطر معركة للانتخابات الرئاسية" في هذه الدولة ذات الحضور الثقافي العالمي.
وهذه "الخطورة" التي وصف بها الكثير من المعلقين والمحللين الانتخابات الرئاسية الفرنسية الوشيكة ترتبط في المقام الأول بإمكانية فوز مارين لوبان مرشحة الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة بخطابها الشعبوي في هذه الانتخابات لتشكل بذلك انتصارا جديدا وكبيرا للصعود المثير للشعبوية في الغرب.
وضمن اهتمام لا ريب فيه من جانب المثقفين والأدباء في فرنسا بالانتخابات الرئاسية الوشيكة في بلادهم يقول الكاتب الشاب ادوارد لويس وصاحب رواية "نهاية ايدي" التي حققت مبيعات عالية إن مارين لوبان تحظى اليوم بتأييد كبير من فئات الفقراء والكادحين والمهمشين في المجتمع الفرنسي بعد أن أخفقت النخب التقليدية ومن بينها نخب اليسار في معالجة هموم تلك الفئات والشرائح الكبيرة.
وادوارد لويس الذي يعد من أهم الأصوات الأدبية الفرنسية الشابة ولد يوم الثلاثين من أكتوبر عام 1992 في بيكاردي يهوى في كتاباته الأدبية "اقتحام مناطق شائكة وتناول قضايا ضمن المسكوت عنه" فيما بات موضع اهتمام للصحافة الغربية حتى خارج بلاده ومن بينها صحف كبيرة كصحيفة الأوبزرفر البريطانية.
والطفل "ايدي" في عنوان رواية ادوارد لويس قد يكون الكاتب ذاته الذي عانى من حياة تحت خط الفقر في بلدته الريفية المعزولة والواقعة شمال فرنسا وعندما شب عن الطوق وجاء للعاصمة وجد "الطبقة البرجوازية الباريسية" مأزومة ولا تنتج سوى الأزمات لمجتمعها الذي يحق على كثير من افراده البؤساء التساؤل عما اذا كانوا "جناة ام ضحايا" ؟!.
وقد يعبر أدب ادوارد لويس وكتاباته عن "طفولة منزوعة البهجة والهروب من العنف" عن أزمة ثقافية وشعورية وحالة مزاجية سيئة في بلد عرف "ببراعته في فن الحياة" وكان يوصف من قبل "بأرض البهجة والمسرات" وعاصمته هي "مدينة النور" وتشكل ثقافته التنويرية وإبداعاته الأدبية مصدر متعة إلهام للعديد من المثقفين حول العالم.
وتوصف مارين لوبان بأنها من المرشحين الأوفر حظا للفوز في الانتخابات الرئاسية الفرنسية بعد ان وضعتها استطلاعات للرأي العام في صدارة المشهد الانتخابي وسط توقعات بامكانية خوض معركة الاعادة يوم السابع من شهر مايو المقبل امام ابرز المرشحين ايمانويل ماكرون البالغ من العمر 39 عاما والذي يتبنى افكارا جديدة لتيار الوسط.
وفي المقابل تشحب فرص المرشح الجمهوري فرانسوا فيون مرشح اليمين التقليدي وجان لوك ميلونشون مرشح اليسار المتطرف حسب استطلاعات للرأي العام الفرنسي وترجح أن تجرى هذه الجولة بين مارين لوبان وايمانويل ماكرون وإن كانت النتائج غير متوقعة لأن نسبة تصل إلى نحو ثلث الناخبين لم تحسم مواقفها بصورة واضحة.
وكانت مارين لوبان قد تعهدت خلال حملتها الانتخابية في سباق الانتخابات الرئاسية بتعليق الهجرة إلى فرنسا واستخدمت "مفردات خشنة" ضد المهاجرين ضمن "خطاب شعبوي" لارضاء قاعدتها الانتخابية المناهضة لتدفق المهاجرين على فرنسا.
وتعيد لغة الخطاب الانتخابي لمارين لوبان للأذهان بعض مفردات لغة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أثناء حملته الانتخابية من حيث التأكيد على "الوطنية" و"استعادة العظمة المفقودة" ومناهضة "العولمة الضارة بالدولة" فيما تركز مفردات الخطاب الانتخابي لماكرون على "أهمية التغيير" وانتقاد اليسار المتشدد بلغته "التي تعود بفرنسا الى فانتازيا الماضي".
واذا كانت اغلب "الميديا" الأمريكية بقوتها الضاربة من صحف ومجلات وشبكات تلفزيونية قد اخفقت في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة في اقناع الناخبين بعدم منح اصواتهم لدونالد ترامب كما تبين عدم دقة الكثير من نتائج استطلاعات الرأي العام فان انتخابات الغد في فرنسا تضع ايضا اغلب "الميديا الفرنسية" في اختبار عصيب فيما تبنت الكثير من الصحف ووسائل الاعلام الفرنسية توجها مضادا لمارين لوبين. 
ويمكن ملاحظة ان وسائل الاعلام والصحف الأمريكية التي اتخذت مواقف مناهضة لترامب اثناء حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية ومن بينها صحيفة نيويورك تايمز تتخذ الآن مواقف مناهضة ايضا لمارين لوبان التي ترى هذه الصحيفة في طروحات ومقالات لكبار كتابها مثل روجر كوهين ان" طريقها مفتوح للانتصار في الانتخابات الرئاسية الفرنسية".
وواقع الحال ان الانتخابات الفرنسية تكشف ضمنا عن استمرار ازمة اليسار الذي يعاني في فرنسا مما يصفه روجر كوهين من "حالة تشويش وفوضى" ولن تفلح مفرداته النضالية القديمة واناشيده الأممية العتيقة ورطانته المعتادة بشأن الصراع الطبقي في انقاذه من ازمته المستحكمة بينما لسان حال رجل الشارع الفرنسي يقول وسط الأزمات المتعددة:"كفى" !.
ولن تجدي كثيرا وسط هذه الأزمات المتعددة لغة الحنين لأيام اليسار كما يستعيدها الكاتب الفرنسي الشاب ادوارد لويس على لسان امه التي تكدح لتوفير الطعام لأفواه الأبناء في أسرة الأب فيه لا يعمل أما الأم فتتحدث بشجن عن الأيام الطيبة لقادة حكموا البلاد بصورة افضل عندما كان اليسار في مقاعد السلطة واللحم في اطباق طعامنا".
ويختلف ادوارد لويس صاحب "نهاية ايدي" الذي تجاوزت مبيعاته ال300 الف نسخة وينتمي لأدب السيرة الذاتية مع رؤية والدته معتبرا ان ممارسات نخب اليسار الثقافية والسياسية هي التي افضت لصعود اليمين المتطرف.
أما الدال حقا فهو ما يقوله ادوارد لويس حول اتجاه والدته ووالده ايضا اليوم لتأييد مارين لوبين والتصويت لها في انتخابات الغد مثل حشود من جماهير الناخبين التي تعاني من اوضاع معيشية صعبة.
ويفسر هذا الأديب الفرنسي الشاب والمحلق في سماء الشهرة الأدبية ببلاده والغرب سر التحول في مواقف والدته صاحبة الميول اليسارية القديمة بحدة المعاناة في الحياة اليومية بينما تقدم مرشحة الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة الوعود للناخبين "بمجتمع جديد للرخاء والوفرة" حتى أمست مارين لوبين "بطلة للفقراء في فرنسا". 
والأزمة لا تنحصر على أي حال في اليسار التقليدي وإنما تعاني منها أيضا أحزاب اليمين التقليدي والمعتدل بينما جاءت في صالح تيارات شعبوية قومية توصف باليمين المتطرف وتعبر عنه في فرنسا مارين لوبين وجبهتها الوطنية التي ترى أن المهاجرين سبب لاستشراء البطالة بين الفرنسيين كما تتحدث عن "الأضرار الثقافية التي يلحقها هؤلاء المهاجرون بفرنسا".
وهكذا يقول الكاتب الفرنسي الشاب ادوارد لويس" إن السياسة اليوم تعني الإجابة على السؤال الكبير: كيف تكون الحياة أفضل للسواد الأعظم من الشعب" وهو ما يفسر شعبية مارين لوبين التي تركز في خطابها السياسي على صنع حياة أفضل للفرنسيين.
أما الكاتب روجر كوهين في صحيفة نيويورك تايمز فيعرب عن القلق حيال ما وصفه بمد اليمين المتطرف في فرنسا التي تواجه أياما عصيبة معدا " أن هذا البلد لا يحب نفسه" بعد ان عانى من إذلال أثناء الحرب العالمية الثانية وخيبة أمل في عملية التكامل الأوروبي، كما اغتم بالعولمة ليقع في براري الكآبة والوحشة والعبوس. 
وإذا كان العصر الحالي الذي يوصف "بالعصر الرقمي" ينتج ثقافة تعرف في الغرب "بثقافة السرعة الفائقة" وهي ثقافة تتجلى في افكار وكتب جديدة مثل الكتاب الجديد للأمريكي توماس فريدمان فان روجر كوهين يشير في صحيفة نيويورك تايمز الى ان القطارات الفرنسية الفائقة السرعة باتت عنوانا "لفرنسا المتجهمة" بينما لم تنجح الأفكار الاشتراكية للرئيس فرانسوا هولاند في انتشال بلاده من مستنقع الأزمة.
واذ أحجم فرانسوا هولاند عن ترشيح نفسه لفترة رئاسية ثانية يقول روجر كوهين ان "التذمر والتشكي امسى اسلوب حياة فيما تبدو فرنسا الآن مستعدة لتنفيس غضبها الذي اختمر طويلا في انتخابات قد تفضي إلى عودة اليمين المتشدد للسلطة لأول مرة منذ أربعينيات القرن الماضي ولترتد أوروبا إلى حقبة من الاضطراب لم تعرفها منذ هاتيك الأيام البعيدة".
وفي "عصر السرعة الفائقة" المتغيرات سريعة ومتلاحقة من "البريكسيت" أو الاستفتاء الذي أسفر عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الى انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة ضمن تطورات افضت إلى شعور عام بالغموض والحيرة والتوجس على مستوى الغرب الذي لا يمكن وصفه بأنه الآن في أفضل أحواله تستعد اليمينية المتشددة مارين لوبان لرئاسة فرنسا فيما أعلنت اعتزامها في حالة الفوز الخروج بفرنسا من منطقة اليورو واستعادة الفرنك أو العملة الوطنية الفرنسية.
وهذا التوجه لمارين لوبان قد يفضي "لبريكسيت فرنسي" على غرار "البريكسيت البريطاني أي خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي فيما يعد الكاتب البريطاني روجر كوهين في صحيفة نيويورك تايمز أن "البريكسيت الفرنسي بانعكاساته وتداعياته السياسية والاقتصادية" سيكون اخطر كثيرا من "البريكسيت البريطاني" في ضوء العلاقات الوثيقة والروابط التاريخية المتعددة بين فرنسا واوروبا خلافا لحالة الجزيرة البريطانية التي كانت تاريخيا معزولة نسبيا عن القارة العجوز.
ومن هنا يرى مثقفون من بينهم بعض اصحاب الأقلام في مصر والعالم العربي ان الانتخابات الرئاسية الفرنسية المرتقبة قد تكون الأكثر تأثيرا على خرائط القوى السياسية والاجتماعية والتفاعلات الثقافية في اوروبا وبالتالي في الغرب والعالم ككل. 
فرجل الشارع او الناس في الغرب يشعرون بأنهم يعيشون في عالم يبتعد بسرعة عنهم وهو شعور مرير وان كانوا لا يفهمون تماما اسباب هذا التباعد الذي أفضى إلى هذا الشعور التعس..ثمة مشكلة في السرد والتوصيف والتفسير وقد يكون احد من سعى نحو حل هذه المشكلة المفكر المصري الراحل السيد ياسين.
فواقع الحال أن هذا المفكر والباحث المرموق الذي فقدته هذا العام الثقافة المصرية والعربية كان مهموما في سنواته الأخيرة بحزمة من الاسئلة الكبيرة والكونية وان اتصلت على نحو أو آخر بمستقبل مصر وأمتها العربية و"تأسيس عقل استراتيجي مصري" في عالم يواجه تحديات غير مسبوقة.
ولئن عد السيد ياسين" أنه لا يمكن الفصل التعسفي بين حال العالم وحال الأمة وحال مصر" رأى هذا المثقف الوطني المصري الكبير في كتابه "أزمة العولمة وانهيار الرأسمالية" ان الأزمات التي تعاني منها المجتمعات الغربية قد جعلت منها "مجتمعات مفعمة بالخطر".
ولم يخف الراحل الكريم السيد ياسين شعوره بالقلق حيال حالة الاضطراب التي يمر بها العالم المعاصر مع انتشار الارهاب وتعاظم نزعات التعصب وتصاعد الصراعات في سياق ماوصفه "بعصر الاضطراب العالمي" فيما لم يغفل عقله البحثي والنقدي اليقظ عن محاولات البحث عن اجابات لتجنيب ارض الكنانة مخاطر هذا الاضطراب العالمي.
وقد تكون تلك الحالة من الاضطراب العالمي سببًا من أهم أسباب صعود ساسة شعبويين باتوا يحظون بجاذبية لدى رجل الشارع الغربي المأزوم وهم يتحدثون له باللغة التي ترضيه غير ان المشكلة بالنسبة لعالم الجنوب قد تتمثل في أن هؤلاء القادة الشعبويين في عالم الشمال يقدمون لناخبيهم كبش الفداء أو القربان السهل مثل تعليق كل الأخطاء والخطايا على مشجب المهاجرين الأجانب القادمين في اغلبهم من الجنوب.
ويتفق العديد من المثقفين المصريين والعرب على وجه العموم في طروحات متوالية على أن المتغيرات في أوروبا والولايات المتحدة تؤثر بالضرورة على المشهد العربي ومن هنا تحظى الانتخابات الرئاسية الفرنسية الوشيكة وكذلك الانتخابات العامة الألمانية المقبلة باهتمام ملحوظ من جانب هؤلاء المثقفين الذين يرى أغلبهم عن حق أن التطورات الراهنة في الغرب وبعض الجوانب الغامضة في الصورة العامة تدعو بإلحاح إلى استجابة عربية ترتقي لمستوى التحديات العالمية وأن مثل هذه الاستجابة لا بد أن تتجسد في تبنّي "ثقافة الاصطفاف العربي".
ها هي الانتخابات الرئاسية الفرنسية الوشيكة تشعل معارك ثقافية جديدة وتثير المزيد من التحديات في لحظات كونية قلقة والكل في الشمال يحصي المكاسب والخسائر ويسعى إلى تعظيم مصالحه فماذا نحن فاعلون وبأي اتجاه نسير؟!!..من واجب الأمة أن تطفىء الحرائق وتخمد الفتن التي تتلبس وجه المكان.. من حق أمتنا أن تجد مكانًا تحت الشمس في عالم لا يحترم سوى الأقوياء!.