الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الديمقراطية... أقنعة وقناعات

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أحد السيناريوهات المطروحة فى انتخابات فرنسا الرئاسية الأسبوع المقبل، هو فوز «جان ليك مالانشون»، المرشح «اليسارى الراديكالي»، واليمينيّة المتطرفة «مارين لوبن» فى الشوط الأول من الانتخابات، فى الوقت الذى انهارت الأحزاب التقليدية الكبرى، التى تقاسمت النفوذ والسلطة فى فرنسا منذ بدايات القرن العشرين.
ليست الظاهرة خاصة بفرنسا، بل هى ملاحظة فى كل البلدان الغربية التى تعيش أزمة تحول ديمقراطى فى مستويات عدة، سواء تعلق الأمر بطبيعة المسار الانتخابى، أو تركيبة الأحزاب السياسية، أو نمط العلاقة بين الحقل السياسى والحركية الاجتماعية العامة. لقد لخص «بيار روزنفالون» هذا الواقع بقوله: «إننا نعيش فى بلدان ديمقراطية، لكننا لا نعيش تحت الديمقراطية»، وهو يعنى بهذه المقولة، الانزياح المتزايد بين الأشكال الإجرائية للتنظيم والانتخاب ونمط الممارسة السياسية العملية، أى نظام الحكم الذى لم يعد يخضع فى أدائه للمبادئ الديمقراطية.
والواقع أن سحر الديمقراطية، من حيث هى مثال الحرية والمساواة، قد غطى دومًا على الإشكالات العويصة التى تطرحها نظريًا وعمليًا، بحيث نادرًا ما يتم الوقوف عند أسباب تفرد المجتمعات الأمريكية الشمالية والأوروبية الغربية بهذا النموذج فى نسخته المكتملة، والوقوف فى ما وراء هذا الإشكال عند قدرة هذا النموذج فى سياقه الأصلى على الاستمرار. صحيح أن النظرة الليبرالية الكلاسيكية واكبها دومًا إيمان قوى بأن الديمقراطية التعددية هى مصير البشرية التاريخى، وهى التعبير الموضوعى عن قيم الحداثة والعقلانية والتحرر الإنسانى، بيد أن الفكر الليبرالى ذاته انتبه مبكرًا إلى التعارض شبه الثابت بين مثال الديمقراطية التحررى، وقدرتها على التجسد فى هياكل مؤسسية تضمن المساواة الاجتماعية، وتلغى الهيمنة والتحكم الفردى. ولقد كان عالم الاجتماع الألمانى «ماكس فيبر»، يقول إن الديمقراطية هى فى آنٍ واحد نظام عقلانى حر ومنظومة لشرعنة الهيمنة.
فى مقولة الديمقراطية معنيان متعايشان، وليسا متلازمين بالضرورة: معنى المشاركة الذى هو من آليات التنظيم السياسى، ومعنى الحرية الذى لا ينحصر بالضرورة فى الحرية السياسية بمعناها التمثيلى الانتخابى، أما الامتزاج بين القيم الليبرالية ونظام المشاركة التعددى، فهو الخصوصية الكبرى للتجربة الغربية الحديثة والتساؤل مطروح حول استمراريته.
فى كتابه المهم «حياة وموت الديمقراطية»، يذهب الفيلسوف الأسترالى «جون ماكين» إلى أن الديمقراطية من حيث هى نظام سياسى ليست جديدة، ولا هى إنتاج غربى، فلقد نشأت فى شكلها المباشر (المجالس التداولية) فى الهلال الخصيب، كما أنها ظهرت فى شكلها التمثيلى فى شبه الجزيرة الأيبيرية فى القرن ١٢ «هبة إسلامية للعالم الحديث»، وما نشهده اليوم هو انتهاء الديمقراطية التمثيلية التى ارتبطت بعصر المطبعة، أى الكتاب والجريدة والبريد، وانبثاق «ديمقراطية الرقابة»، التى تتناسب مع المجتمعات المتشبعة إعلاميًا، حيث تزعزعت كل الهياكل السياسية التقليدية. ما يبينه «ماكين» هو أن الديمقراطية الليبرالية ليست الشكل الوحيد الممكن لربط الحرية بالمشاركة، فثمة اليوم ديمقراطيات تمثيلية تنتفى فيها الحريات السياسية (روسيا، تركيا)، وثمة ديمقراطيات تتحقق فيها أعلى نسب المشاركة، دون نظام انتخابى تعددى (الصين مثلًا)، وهناك ديمقراطيات ليبرالية من حيث طبيعة النظام السياسى، وإن كانت بنياتها الاجتماعية تراتبية تنعدم فيها المساواة الاجتماعية (الهند مثلًا).
ما تتميز فيه الديمقراطيات الغربية ليس إذن نمط المشاركة وحجمها، فكل الدراسات الاجتماعية أثبتت أن الكفاءة الإدماجية فى الديمقراطية التعددية لا تختلف كميًا ولا نوعيًا عن الأنظمة السياسية الأخرى، وإن اختلفت قواعد وهياكل تدوير النخب السياسية والبيروقراطية، كما أن منظومة الحرية ليست متجانسة موحدة، فلا علاقة مباشرة بين الحريات الفردية، التى لا تتحدد إلا بالسلب والنفى وحرية المشاركة فى طابعها المؤسسى الإيجابى، بل إن خصوصية النموذج الغربى تكمن فى تجربة السلم الأهلى المستقر المتولدة عن نجاعة آليات التداول العمومى، وآليات التداول السلمى على السلطة.
المفارقة الكبرى التى نعيشها راهنًا هى أن الثورة المعلوماتية الجديدة بدلًا من أن توطد حركيّة التداول الجماعى الحر، أفضت إلى تقويض شفافية وموضوعية الحقيقة العمومية (حقبة ما بعد الحقيقة)، وبدلًا من أن تعزز أطر المشاركة أضعفت كل الوسائط التنظيمية فى الحقل السياسى، والخوف كله يتمحور راهنًا حول رصيد السلم الأهلى المهدد بالنزعات الشعبوية واليمينيّة المتطرفة الصاعدة وخطر الإرهاب الزاحف.
نقلا عن «الاتحاد» الإماراتية