الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

"التكويش" بما لا يخالف شرع الله.. أردوغان يقسم تركيا

 الدكتور أحمد موسى
الدكتور أحمد موسى بدوي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الاستفتاء يرسخ لدولة «الرجل الواحد» ويضع جميع السلطات في يد «القامع بأمره»
المدن الكبرى قالت لا للتعديلات الدستورية.. والخطاب الدينى استقطب الأصوات فى القرى
تيار قوى يعارض الصوت الواحد فى دهاليز «العدالة والتنمية» بقيادة داود أوغلو 
المنظمات الحقوقية تتهم «الخليفة الموعود» بالعمل على إفساد الديمقراطية 


معركة حامية الوطيس، جرت بين مؤيدي التعديلات الدستورية ومعارضيها، وجاءت النتائج كسكين حاد قسم تركيا إلى شطرين، شطر قرر التعامل مع أردوغان بوصفه السلطان العثماني الجديد، وشطر حائر لم يستطع الحسم فى هذه الجولة ولا في الجولات السابقة (الانتخابات: البلدية، الرئاسية، البرلمانية الأولى والثانية) التى تمت في الأعوام الثلاثة الماضية، على الرغم من قوة المنافسة. 
ونقدم فى هذا المقال ملاحظات أولية على نتائج هذا الاستفتاء.

نظام دولة بلا مثيل:
دعاة الترويج للتعديلات على أنها تحول من النظام البرلمانى إلى الرئاسى، يغالطون الحقائق والوقائع، فالتعديلات الدستورية لا تمت للأنظمة الرئاسية المعروفة فى العالم بصلة، إنما هى تعديلات تؤسس لنموذج يمكن أن نطلق عليه من الآن وصاعدًا «النظام الرئاسى الأردوغانى». فالرئيس هو الذى سيعين نصف أعضاء المجلس الأعلى للقضاء، و٨٠٪ من أعضاء المحكمة الدستورية، أى أن السلطة القضائية ستصبح لعبة بيد الرئيس، ومن حقه أن يعين نوابا له، ضاربًا عرض الحائط بشرطى الجدارة والخبرة، متهاونًا فى شروط تولى هذا المنصب الرفيع، فجعل من حق التركى الذى أنهى دراسته الابتدائية وأتم الثامنة عشرة من عمره شغل هذا المنصب، وغيرها من التعديلات التى تركز السلطة في يد فرد واحد بلا قيود. 
وتكسبه صلاحيات لم يتمتع بها أى رئيس تركى منذ تأسيس الجمهورية فى عام ١٩٢٣. إنه باختصار نظام يضعف السلطتين التشريعية والقضائية لصالح سلطة تنفيذية يتحكم فيها شخص واحد.

أجواء الاستفتاء على التعديلات الدستورية:
لم يستطع حزب العدالة والتنمية أو أردوغان، تقديم تبريرات منطقية وواقعية تدفع لقبول هذه التعديلات، وعوضًا عن ذلك لم يتورع أردوغان عن المغالطة تلو الأخرى لحشد الأصوات، تارة بافتعال الأزمات مع الدول الأوروبية، وتارة بمهاجمة الكتلة العلمانية التركية والأكراد وشيطنة جماعة الخدمة. 
لقد لعب على وتر القومية التركية وأصوات الإسلاميين، محتكرًا الفضاء الإعلامى بصورة مطلقة... حتى أن رئيس الوزراء صرح أكثر من مرة بأن أردوغان هو الحاكم الفعلى، ويتمتع بكل الصلاحيات، والتعديل الدستورى يأتى لشرعنة الوضع القائم، وحتى يمكن للشعب أن يحاسب رئيس الجمهورية.
لم يجد رئيس الوزراء سوى هذا التبرير لكى يدفع الأتراك للتصويت بنعم للتعديلات. وهو تبرير يوضح بجلاء أن الجميع يدافعون عن هذه التعديلات دون اقتناع ودون وجود حاجة ماسة لها، وأن تأثيرها السلبى على مستقبل تركيا أكبر بكثير من الآثار الإيجابية.
ومع ذلك ورغمه، فإن المتابع للشأن التركى، على علم بأن الحزب الحاكم يملك القدرة على تقييد حرية المعارضين أثناء الحملات الانتخابية، ولكنه لا يملك القدرة على التلاعب بصناديق الاقتراع، فمن حق أكبر خمسة أحزاب فى تركيا مراقبة اللجان الفرعية وحضور عملية الفرز وإعلان النتيجة داخل اللجنة الفرعية قبل إرسالها إلى اللجان العامة. ومن ثم فإن أى حديث عن التشكيك فى نتائج الاستفتاء لا سند له على أرض الواقع.

عملية الاقتراع وأهم النتائج:
تركيا تمتلك كتلة تصويتية ضخمة قوامها أكثر من ٥٥.٣ مليون ناخب، موزعين على ١٦٧ ألف لجنة اقتراع فرعية، بدأ الاستفتاء من الساعة الثامنة صباح الأحد ١٦ إبريل وانتهى فى الخامسة من مساء نفس اليوم، فيما عدا جنوب شرق تركيا حيث بدأ الاقتراع فى السابعة صباحًا وانتهى فى الرابعة، جرت عملية الاستفتاء دون خروقات أمنية كبيرة، باستثناء الاشتباكات التى تمت في ديار بكر صباحًا، وأسفرت عن قتيلين وعدة مصابين.
وبصفة عامة فإن نسبة مشاركة الأتراك فى الفعاليات الانتخابية والاستفتاءات هى الأعلى على مستوى العالم، وتعد هذه النسبة المدهشة فى حد ذاتها ضمانًا أساسيًا لعدم العبث بالصناديق. وقد بلغت نسبة المشاركة فى استفتاء الأمس أكثر من ٨٨٪ ممن لهم حق التصويت، وعمليًا لا يستطيع أحد أن يزور إرادة هذا العدد الضخم من المشاركين.
ويبدو من تحليل نتائج المحافظات التركية الكبرى، التى تجاوزت المليون صوت، وعددها ٧ محافظات من ٨١ محافظة. أن معركة المدن الكبرى، حسمت لصالح معارضى التعديلات الدستورية بنسبة ٥١.٨٪ وأن العاصمة أنقرة وأربعا من المدن والمحافظات الكبيرة (إسطنبول، إزمير، أنطاكيا، أضنة)، صوتت ضد التعديلات، فى حين صوتت مدينتي بورصا وقونيا تأييدًا للتعديلات. 
وعلى مستوى المحافظات المتوسطة والصغيرة، فاز التحالف المؤيد للتعديلات بمعركة المدن والمحافظات الصغيرة فى وسط تركيا بنسبة عالية، بينما غالبية محافظات الشرق والجنوب الشرقى والغرب التركى صوتت ضد الدستور بنسبة عالية. وهذه النتائج لها دلالة عميقة تبرهن على الانشطار الذى أحدثه الاستفتاء.
ويبدو أن حملة أردوغان التى شنها على دول أوروبا، وخاصة ألمانيا قد أتت بثمار إيجابية، فارتفعت نسبة المشاركة لتقترب من ثلاثة ملايين ناخب فى الخارج، وجاءت النتائج غريبة، بارتفاع نسبة أصوات الخارج المؤيدة للتعديلات الدستورية عن النسبة العامة المؤيدة بأكثر من سبع نقاط مئوية كاملة، رغم أن غالبية أصوات الخارج تتركز في أوروبا وأمريكا، أى أنهم يعيشون في وسط ديمقراطي حر، ومع ذلك فضلوا التصويت بنعم للتعديلات التى تركز السلطة في يد شخص رئيس الدولة.

أزمة العدالة والتنمية:
الحزب الحاكم كان يطمح إلى فوز كبير في معركة الاستفتاء تمكنه من استعادة الثقة المفقودة الناجمة عن الإخفاقات العديدة في إدارة الملفات الداخلية والخارجية مع روسيا وأمريكا والاتحاد الأوروبى، وبعض دول إقليم الشرق الأوسط وعلى رأسها مصر، واندفاعه المستمر نحو التدخل السافر في الشأن العراقى والسورى، كل ذلك يضاف إلى الانقسام فى الشارع التركى حول الملف الاقتصادى والملف الكردى وحركة الخدمة. 
ويبدو أن العدالة والتنمية لم تعد لديه أوراق جديدة يلعب بها، وفوز هكذا بطعم الهزيمة يعنى أن تركيا فى أمس الحاجة الى فاعل سياسي جديد، ولا يبدو في الأفق ان حزب الشعب يستطيع أن يكون ذلك الفاعل.
ويجرى الحديث في الأروقة السياسية التركية حول الخروج من هذه الحالة السياسية العقيمة، متوقعين تأسيس حزب جديد من رحم العدالة والتنمية، كما حدث منذ سنوات بعد حل حزب الفضيلة، وانقسام أعضائه إلى فريقين، الأول سار على نهج نجم الدين أربكان، وأسس حزب السعادة، أما فريق الشباب فأسسوا حزب العدالة والتنمية في ٢٠٠١، واستطاع هذا الحزب حكم تركيا من ٢٠٠٢ حتى الآن. 
وهناك تيار معارض موجود بالفعل داخل الحزب، على رأسه أحمد داود أغلو، وعبدالله غول، وبولنت أرينك، وعلي بابا خان، وجميعهم تم اقصاؤهم بطريقة أو بأخرى من دوائر صنع القرار في الحزب. 
وبإمكان هذه النواة تقديم طرح جديد، يلقى قبولاً داخليًا وخارجيًا على السواء، خاصة في وجود داود أغلو فهو فيلسوف وعالم بارز في العلوم السياسية، ولديه الخبرة الكافية، ويتمتع بقبول شعبى، ويتميز بخصائص ليبرالية وإسلامية بينما تنقصه المبادرة، لكن إذا توافرت الشروط، يمكن لهذا الحزب الجديد أن يؤسس لعقد سياسي جديد، ويتبنى طرحًا مختلفًا فى كل الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية.
الخاسر الأكبر حزب الحركة القومية:
من لحظة تحالف حزب الحركة القومية مع العدالة والتنمية من أجل إقرار التعديلات الدستورية، بدا أنه سيكون الخاسر الأكبر في هذه المعركة، أيا كانت نتيجة الاستفتاء، فخلال تصويت الجمعية العامة للبرلمان، رفض ٤٥٪ من برلمانى الحركة القومية هذه التعديلات، ضاربين عرض الحائط بقرار رئيس الحزب الطامح فى منصب نائب رئيس الجمهورية، وتتمثل خسارة الحركة القومية وأزمتها القادمة فيما يلي:
(١) تأييد التعديلات الدستورية، سيؤدى إلى تآكل شعبية الحزب بين أوساط الكتلة التركية العلمانية والليبرالية. 
(٢) لن يجني حزب الحركة القومية شيئًا يذكر من تحالفه مع العدالة والتنمية في الانتخابات البلدية والبرلمانية القادمة، لأن العدالة والتنمية يدخل هذه الاستحقاقات كامل العدد فى كل المناطق، ولا يمكن أن يترك للحركة القومية مقاعد كمكافأة له على هذا التحالف، لسبب جوهرى، وهو أن تماسك العدالة والتنمية وقدرته العالية على الحشد، سببها التفاف القيادات المحلية (الطامحة في المناصب السياسية البلدية أو القومية)، والتحالف مع الحركة القومية في حال حدوثه، سيكون على حساب هذه القيادات المحلية، بمعنى آخر أن العدالة والتنمية في وضع لا يسمح له بالمغامرة، فيفقد تماسكه، من أجل ارضاء أو مكافأة حزب الحركة القومية. (٣) أقصى ما يمكن أن يقدمه العدالة والتنمية بعض المناصب الجديدة المترتبة على التغيير الدستورى، مثل منصب نائب رئيس الجمهورية.

دلالات النتيجة الانشطارية:
(١) أثبتت النتائج، أن حركة الخدمة لا تزال موجودة داخل الشارع التركى، ولكنها لا تملك القدرة على ترجيح الكفة في الفعاليات السياسية. 
(٢) استمرار الاحتقان والتوتر بين الأتراك من أصول كردية والحزب الحاكم، فقد أشارت النتائج إلى أن جميع المناطق التي يقطنها الأكراد قد صوتت ضد هذه التعديلات. 
(٣) تزايد شعبية حزب الشعب على حساب مغامرة حزب الحركة الوطنية بالتحالف مع العدالة والتنمية، وهذه المكاسب، لن تتضح بجلاء إلا مع الاستحقاقات القادمة. 
(٤) استمرار أزمة أنصار حقوق الانسان والحركات الاجتماعية الديمقراطية، وهي شريحة مهمة داخل الفضاء العام التركى، وتنتشر في أروقة الأحزاب السياسية جميعًا، حيث ترى هذه الشرائح أن أردوغان أفسد الحياة السياسية فى تركيا، وفرض نظام الحكم الرئاسى فى البلاد، دون الاستعانة أو الاسترشاد برأى مؤسسات المجتمع المدنى أو الجماعات الحقوقية.
وختامًا فإن التعديلات الدستورية، منحت أردوغان ما يريد بأغلبية هشة وضعيفة، وانشطرت تركيا شطرين لا ثالث بينهما، فهل يهدأ أردوغان بعد تمتعه بصلاحيات السلاطين العثمانية، ويراجع كل الملفات الداخلية والخارجية بطريقة جديدة، أم أن هذا النجاح المحدود سيجره إلى المزيد من الاندفاع؟ 
إجابات لن يتأخر أردوغان نفسه فى الإجابة عنها خلال الشهور القليلة المقبلة.