الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الذين صعدوا إلى السماء

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
استيقظت مصر الأحد الماضى على ذهاب الإخوة الأقباط إلى الكنائس احتفالًا بأحد الشعانين والمعروف بأحد السعف، وكلمة «شعانين» تأتى من الكلمة العبرانية «هو شيعه نان» والتى تعنى يارب خلص، ومنها اشتُقت الكلمة اليونانية «أوصنا»، وهى الكلمة التى استُخدمت فى الإنجيل من قِبَل الرُسل والمبشرين. وهى أيضًا الكلمة التى استخدمها أهالي أورشاليم عند استقبال المسيح فى ذلك اليوم؛ حيث دخل المسيح إلى القدس راكبًا على حمار تحقيقًا لنبوءة زكريا بن برخيا: «لا تخافى يا ابنة صهيون، فإن ملكك قادمٌ إليك راكبًا على جحشِ ابن أتان». وقد استقبله سكان المدينة والوافدون إليها للاحتفال بعيد الفصح بسَعف النخل، لتُظلله من أشعة الشمس، كما أن سعف النخل علامة الانتصار، وفرشوا ثيابهم على الأرض وأخذوا يهتفون، حسب رواية العهد الجديد: «هوشعنا! مبارك الآتى باسم الرب، هوشعنا فى الأعالى»، وتعنى هوشعنا «خلصنا»، ويشير باحثو الكتاب المقدس إلى معنى مُركب من استخدام «هوشعنا»، فهى فى مفهوم اليهود تشير إلى الخلاص من الاحتلال الرومانى، ووفقًا للمعانى الروحية والعقائد المسيحية تشير إلى الخلاص من الخطيئة، تحقيقًا لرسالة السيد المسيح القائمة فى سر الفداء.
وما هى إلا ساعاتٌ قليلة حتى استيقظ المصريون كلهم من طنطا إلى الإسكندرية إلى أسوان على تفجيريْن إرهابييْن آثميْن راح ضحيتهما العشرات من الإخوة الأقباط الذين فدوا مصر كلها بمسلميها ومسيحييها، برجالها ونسائها، بأطفالها وشبابها وشيوخها بوقوفهم بصدورٍ عارية أمام الإرهاب الأسود، ليتلطخ سعف النخيل رمز السلام بالدماء الطاهرة التى تظل تعكس معنى الفداء فى أسمى تجلياتِه، لتصعد هذه الأرواح إلى ملكوت السماء لتلقى الجزاء الأوفى من الرب نظير أعمالها الطيبة وتسامحها وفدائها لكل شعب مصر، الذى لن ينساهم وسيظل يذكرهم فى كل عيدٍ من أعياد الفداء.
لقد صعدت الأرواحُ الطاهرة إلى بارئها وتركت لنا الآلام؛ آلام الفراق والفقد لأُنَاسٍ نعتز بهم جميعًا كإخوة فى وطنٍ واحد يعيشون على أرضٍ واحدة وتظلهم سماءٌ واحدة، وآلامُ الفراق أصعبُ بكثير على ذويهم وأهلهم ومحبيهم ورفاقهم، وندعو لهؤلاء جميعًا بالصبر والسلوان، وبأن يربط على قلوبهم، وحسبنا جميعًا أنهم شهداءُ الوطن، وأنهم صعدوا إلى السماء إلى مَلَكُوتِ الرَب.
ولأننا جميعًا جنودٌ ندافع عن هذا الوطن بأرواحنا وأجسادنا ودمائنا؛ فإننا يوم «أحد الآلام» وجدنا أن الدم المسيحى يختلط مع الدم المسلم لتظل الذكرى والعبرة هى أن دماء الوطن كلها نذرناها للدفاع عنه لكى نخلصه من الإرهاب والإرهابيين، حتى لو أنفقنا دماءَنا جميعًا حتى آخر قطرة وصعدت أرواحنا جميعًا حتى آخر روح، فإننا لن نستسلم للإرهاب ولن نسلم الوطن الغالى لمجموعة من البُغَاة مهما كانت الآلام، ولنا فى السيد المسيح عليه السلام أُسوةٌ حسنة، ويوم انتصارنا على الإرهاب الأسود سوف نرفع سعف النخيل الأخضر فرحًا بالنصر على الإرهاب، وإحياءً لذكرى الشهداء الذين صعدوا إلى السماء.
إننا كمصريين تقربُنَا المحن ولا تفرقُنَا، وليعلم الإرهابيون ومَن وراءَهم أن مِصْرَ وطنٌ متماسكٌ متلاحمٌ، أهلُه فى رباطٍ إلى أن تقوم الساعة، ولن يستطيعَ أحدٌ تمزيقه واختراقه، لطبيعة أهله الذين ارتبطوا بهذه الأرض، وشربوا من هذا النيل عبر آلافِ السنين، وما دام أن النيل ما زال ُ يجرى، وما دام أن الدماء تجرى فى عروقنا فإننا سنظلُ أوفياءً لهذا الوطن ندافعُ عنه، لأنه هو المصيرُ والملاذُ والسكن لنا ولأولادنا وأحفادنا ولكل من سيأتى بعدنا.. سنضحى بأنفسنا.. ولكننا أبدًا لن نضحى بالوطن مهما كانت الآلام.
والدليلُ على ذلك هو ما شهدناه يوم «أحد الآلام» من لوحاتٍ رائعة تجسدُ معنى التضحية والفِداء والمواطنة؛ فقد اختلط دمُ المسلم مع دمِ المسيحى، فسيداتُ ورجالُ الشرطة المسلمين هم من كانوا يحمون الكنائس ويؤمنون إخوانهم المسيحيين وهم يدخلون بيوتَ الله لأداء الصلاة والاحتفال بالعيد، وعندما وقعت التفجيرات اختطلت دماءُ الشهداء الطاهرة، ولم نستطع أن نميز بين دماء المسلمين والأقباط. ولأولِ مرة تصعدُ أرواحُ ثلاثِ سيداتٍ من الشرطة المصرية الباسلة فى حربها ضد الإرهاب، لتسطر المرأة المصرية تاريخًا مجيدًا من النضال دفاعًا عن ترابِ هذا الوطن.
وشهدنا فى هذا اليوم أيضًا بطولةً نادرة تجسد أرقى معانى التضحية والفِداء عندما اكتشف العميد الشهيد البطل العقيد عماد محمد لطفى الركايبى أن ما يواجهه هو إرهابى يريد أن يخترق البوابة الإلكترونية لكنيسة الإسكندرية، فقام باحتضانه لإيقاف تقدمه إلى داخل الكنيسة حتى لا تحدث الكارثة فى وجود مئات المصلين من الإخوة الأقباط، ليفجر الإرهابى نفسه فيه، ويقدم روحه ودمه فِدَاءً للوطن، وفِدَاءً لإخوانه وأخواته وأبنائه من الأقباط الموجودين داخل الكنيسة.
وفى أسمى تجسيد للُحْمَة الوطنية، وجدنا المساجدَ تدعو من خلال مكبرات الصوت إلى التبرع بالدم للإخوة الأقباط، وتحولت المساجد إلى مراكز للتبرع بالدم، ولاقت الدعوة استجابةً غير مسبوقة، لدرجة أنه تم ملء كل أكياس الدم المتاحة، وما زالت طوابير المتبرعين تنتظر دورها فى تلبية نداء الوطن. لقد أصبحت دماءُ المسلمين تجرى فى عروق إخوانهم وأخواتهم الأقباط، ليصبحَ الدمُ واحدًا والمصيرُ مشتركًا واليدُ واحدةً فى مواجهة الإرهابيين الذين لا دينَ لهم ولا وطن.
لقد آلمنى أشدَ الألم مشاهدة مولانا قداسة البابا تواضروس وهو يتكأ على عصاه وتبدو عليه أمَارات الحزن والجزع عقب تفجير كنيسة الإسكندرية، وهو ما حاول أن يخفيه عقب تفجير كنيسة طنطا، وذهب وفقًا لجدوله المعلن ليؤم الصلاةَ فى الإسكندرية فى رسالة طمأنة لكل أقباطِ مصر، ولم يكن يعلم أن الإرهابيين يكيدون لمصر كلَ هذه المكائد ويحملون بين صدورهم للمصريين كلَ هذه الضغائن.. وأقول لقداسة البابا: لا تحزن يا مولانا.. إن الله معنا.. وسوف ينصرنا على أهل الشر نصرًا موزرًا بفضل دعواتك ودعوات كل المصريين.
إن الوطن ليس حفنة من ترابٍ عفن.. إن ترابَ هذا الوطن اختلطَ بدماءِ المصريين الطاهرة التى سالت أمام أعدائه الخارجيين من الهكسوس والرومان والفرس والفرنسيين والإنجليز واليهود، وأمام أعدائه من الداخل المدفوعين ممن لا يريدون خيرًا لمصر وممن ينتمون لجماعات الغدر والإرهاب.
وقد علمنا التاريخُ درسًا حفظناه منذ آلاف السنين على ضفتيْ نيل مصر العظيم: مصرُ باقيةٌ وأعداؤها إلى زَوال.. حمى الله مصر.. حمى الله الجيش.. حمى الله الشرطة.. حمى الله المساجد والكنائس.. وانتظروا إنا منتظرون.