الأربعاء 01 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

أزمة الثورات العربية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ببساطة فإن الثورة، غير الانقلاب، هى حالة تصلها البلدان التى لا تتمكن من أن تستمر مع نظامها السياسى، وهى فى الغالب نتيجة اجتماعية أكثر منها سياسية. وفى جل التجارب التى مرت بها الشعوب، ظل ما هو سياسى فى الثورات يصنف فى الغالب على أنه انقلاب فى بعض الحالات، بمعنى مسعى للتغيير من خلال المشتغلين بحقل السياسة، وليس بالضرورة أن يحدث تغيير جذرى فى بنية الدولة، كما تُحدثه الثورة التى تأتى على بنية الدولة برمتها، وتعيد مسارات منهجها كما يحدث فى التغيير من الملكية إلى الجمهورية، أو من النظام الرأسمالى إلى الاشتراكى، كما فى الثورة البلشفية فى روسيا أو العكس، كما حدث فى ثورة البلدان الخاضعة للمنظومة الشيوعية فى أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفياتى، إذ تغيرت بالكامل نحو الرأسمالية، أو تاريخيًا ما حدث فى الثورة الفرنسية التى تمثل فيها تناغم الحاجة إلى الخبز والحرية معًا. 
الثورات العربية محرّكها الرئيسى هو الفقر، فهو أبو الثورات، فى كل عصر وزمان، ترافقه الحاجة إلى الحرية التى تصطدم فى الغالب بنظام، يظن أن القمع ومصادرة حقوق الناس، للمطالبة بالتغيير غير شرعى، أو هو بفعل محرك خارجى، أو أنه بدافع التحريض من جهات مناوئة للسائد، كما تظل الرغبة المجتمعية فى تداول السلطة، ومجىء قيادات جديدة مطلب مشروع.
وتعزى الثورات فى غالب الأمر، إلى تحاشى النظام السياسى سماع مطالب الشعب الملحّة إلى ضرورات التغيير، نتيجة تفاعلهم ومعاناتهم للسلوك اليومى مع أجهزة الحكومة المختلفة، التى عوضًا عن تحسين أداء مهمتها فى تطبيق القانون تنحرف إلى اختراق ذلك القانون، وتتخطى منطق العدالة، حينها لا مناص من أن يدافع عامة الناس ومنظومات الدولة الأخرى الساندة من خارج الحكومة عن حقوق الشعب بالعيش والمطالبة بالكرامة، وبتوقف عصا القمع، ملوّحة بعصا الحشود الوطنية التى تعلن رفضها لما يحدث فى تلك اللحظة التاريخية الفارقة، وهنا يحدث الصدام وتفكك منظومة التناغم بين تشكيلات الدولة وبنيتها، مع مركب الحكومات التى لم تعد تسمع الناس الذين تحكمهم، فيشقون عصا الطاعة عليها، ويطالبون بإسقاطها.
والمفارقة أن بعض الأنظمة العربية، عوضًا عن أن تستوعب تلك المطالب وتراجع منهجها وتغيير الوجوه المتصدية لواجهة المشهد الحكومى، وتزيل قبحها، تدافع عن هولاء وأولئك المقربين من السلطة دون إحساس بمسئولية الخطر المحدق بها، والسيل الجارف الذى يجتاحها.
التاريخ المعاصر يخبرنا بأن هناك نوعين من الثورات العربية التى خضنا تجربتهاالقاسية، إحداهما عاقلة فاعلة إيجابية، قامت بهدف الإصلاح، كما فى ثورة ٣٠ يونيو فى مصر، وأخرى مجنونة مدمرة كما فى ليبيا، وثالثة انقلابية كما تونس، والرابعة مشتبكة مع متغير الاحتلال الخارجى كما فى الحالة العراقية.
الثورة المصرية حدثت بمطلب اجتماعى واعٍ لضرورات الإصلاح والاستجابة لصوت الشعب الذى ملّ الصراخ على سلوكيات أفراد بعينهم، من جهة، والحئول دون محاولة التوريث السياسى، الذى لم يحدث طيلة العهد الجمهورى الذى تلا ثورة ١٩٥٢، وأن الناس الذين خرجوا فيها ظلوا محافظين على مؤسسات الدولة الشرعية، وفى مقدمتها جيش مصر، الذى هو جيش الأمة، الذى ظل هو الثابت فى متغير الثورة، بل الملاذ الآمن للناس، لأنهم يعرفون قيمته وجودته وإخلاصه لهم، وبات ضمانة وجود الدولة المصرية برمتها، لذلك احتكم إليه الثائرون فى شوارع مصر كلها، ولم يخذلهم، وكسر ظهر من حاول تخريب حياتهم، وهنا وجدت الثورة معادلًا موضوعيًا للحفاظ على مسار الدولة وتاريخها وسياقات عملها الوطنى.
فى حين فقدت الثورات الأخرى ذلك النصير الذى تحتكم إليه، بل لم تجده إلا خصمًا يناكف الثوار، ويتصدى لهم، فانهارت الدول، وتبعثرت مصائرها، وانتهبت ثرواتها وتحولت إلى دويلات مدن وتجار حرب، ينفذون أجندات خارجية، وضاعت مطالب الناس البسطاء الذين ينشدون العدالة الاجتماعية، والحرية، وباتت تلك الدول تحت تهديد التقسم والتفكك تارة، والتهديد بالانشطار إلى أقاليم تارة أخرى وقواها المحلية تتحارب وتثار فيها صراعات بدأت ولن تنتهى قريبًا.
وما ليبيا والعراق، الذى غيّره المحتل وفرض أجندته الطائفية عليه، إلا إنموذج لما تقدم، لا فكاك فيهما من الصراع الاجتماعى، العرقى الإقليمى، وبروز قوى منتهكة لحقوق الشعب ووحدته مهددة لبقائه موحدًا، تمارس النهب السافر لثرواته، وتؤسس لميليشيات قتل، لقوى الشعب الفاعلة وتلاحق الوطنين والثوار معًا! 
الثورات العربية فى الغالب انقلابات بدافع تنفيذ أجندات خارجية، أضحت واضحة كسطوع الشمس، وإذا كان الكلام عنها فى السابق، خافتًا فإنه اليوم بات معلنًا والأجهزة المختصة فى تلك الدول تشخص عمل السفارات والمنظمات الخارجية وصداها فى الداخل، التى كرست عملها لتفكيك ولاءات الناس عامة، فى دول ما يسمى بـ«الربيع العربى» الذى انقلب علينا خريفًا، تساقطت فيه الأوراق، وانكشفت عورات كثيرة، تم كشفها باعتراف صناعها، وتساقط أدواتها، وتصدى الأجهزة الوطنية، لمحركاتها، وكشف أنماطها وأساليبها.
تظل تجربة الثورات العربية، موضوعًا دراسيًا، فيه الكثير من الدروس والعبر لنا جميعًا، كى لا تتكرر حالة الصدام بين الحكومات والشعوب، كى تبقى الدول عزيزة شامخة.