الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

الدكتور ظريف حسين يكتب: انتبه فإنك شيطان!

الدكتور ظريف حسين
الدكتور ظريف حسين
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تعتبر فكرة الشيطان ثاني أخطر فكرة في جميع حضارات الدنيا بعد فكرة الله، وقد ظهرت هذه الفكرة بصور متعددة أشهرها في الأساطير اليونانية، إذ كان الشيطان روحا شريرا قادرا على غواية البشر، ولكنه ترقى في بعض الديانات الهندية إلى مرتبة الإله الذي سيهزمه إله النور في نهاية ملحمة الحياة، ثم عاد الشيطان في الأديان الإبراهيمية - اليهودية والمسيحية والإسلام- مرة أخرى ملكا للجان بدأ حياته صالحا ثم أصبح عاصيا لأمر الله، وأهم ما يؤخذ عليه اعتباره أول منتهك لحقوق الإنسان في تاريخ الكون؛ لأنه أنكر حق البشر في الوجود معتقدًا بألا مبرر لوجودهم على الإطلاق.
وأخيرا- وفي عصرنا- بات الشيطان إلها معبودا لأنه يعد (في نظر عباده) رمزًا للحرية والكرامة والتمرد على الله، والعجيب أن هذا الشيطان الذي تسبب في سقوط الإنسان بغوايته قد أصبح له إلها، وكأن عبادته له اعتراف منه بأستاذيته ومكافأة له على رفضه لفكرة وجوده من الأساس!
وهذا التناقض سيصبح أبديا في صميم كل إنسان: بين عداوته للشيطان من جهة، وانصياعه له في الوقت نفسه، من جهة أخرى.
ولنا أن نعلم أن إحدى الفرق الإسلامية (التي تؤمن بالجبرية المطلقة) قد آمنت ببراءة الشيطان من تهمة العصيان لأنه- في نظرها- لم يعص الله طوعا بل تنفيذا لإرادة الله!
وبذلك يكون الشيطان- في نظر هؤلاء- قد قدم أعظم خدمة للإنسان بأن علمه أن يقول "لا"، ويتحرر من جبروت الله.
ومما سبق يمكننا أن نستنتج أهم الاعتبارات التي تتعلق بالمصير الإنساني في الصراع بين الخير والشر كما يلي:
١- ليس الشر أصيلا في الكون؛ لأن ظهوره بدأ بعصيان الشيطان لله بمناسبة خلق الإنسان، وبذلك يكون الشر قد بدأ بوجود الإنسان وسينتهي بنهايته.
٢- كما أن خطورة الشيطان ليست في عصيانه- فكل البشر (تقريبا) عصاة- بل في إصراره على العصيان، ثم تبريره لهذا العصيان، ثم تحريضه للبشر على اتباعه.
والملاحظة المهمة هنا هي أن هذه الصفات الثلاث تعتبر أهم ما يميز معتادي الإجرام- المسجلين خطر- طبقًا للقوانين الحديثة.
٣- كما لم يحدث أبدا أن انتصر الشيطان على الله مهما كانت الصورة التي بدا عليها الشيطان؛ فجميع شعوب الأرض تؤمن بحتمية زوال مملكة الشر.
٤- ويعتبر هذا الاعتقاد الراسخ بانتصار الخير دائما- حتى في الأعمال الفنية- هو نزوع فطري للتفائل بإمكانية الخلاص من الشيطان في كل مرحلة من مراحل الصراع بين الخير والشر، وبذلك يمكن للإنسان أن يفلت من غواية الشيطان من حيث المبدأ، وإن اختلف البشر في اختيارهم لوسائل الخلاص منه.
٥- وأهم نتيجة هي أن حل الصراع بين الله والشيطان لن يتم إلا بجهد بشري خالص؛ وذلك لسبب بسيط هو أن البشر هم أصل هذا الصراع كما سبق.
وقد انقسمت ثقافات البشر تبعا لوسائل خلاصها من الشيطان إلى ثقافتين، وبالتالي نشأت حضارتان:
١- ثقافة شيطانية: وفيها يتنازل الإنسان عن كامل مسئوليته في تخليص نفسه من الشرور، وهذا التنازل يتم بتوزيع الإنسان مسئوليته على الله تارة، وعلى الشيطان تارة أخرى: فمثلا لو استطاع المجرمون لدافعوا عن أنفسهم أمام المحاكم بأنهم غير مذنبين؛ لأنهم لم يجرموا إلا تنفيذا لمشيئة الله، أو لأن غواية الشيطان هي التي قادتهم إلى فعل الإجرام!
٢-ثقافة إنسانية: حيث تمكن الغربيون (غير المسيحيين) من الخلاص من الشيطان باغتياله بسلاح الإلحاد، أي بإنكار وجود الله والشيطان معا؛ (لأن وجود أحدهما ملازم للآخر)، فباعتباره أن الشيطان هو مجرد أسطورة استطاع الإنسان الغربي أن يستعيد مسئوليته الكاملة عن نفسه باحترام عقله والاستعانة بالمناهج العلمية المناسبة في حل المشكلات، لا بمناهج شيطانية، وقد صح اعتقادهم بأن زوال فكرة الشيطان تقود إلى الخلاص من الظلام والضلال.
ولكن ماذا عن المؤمنين بالله الذين يدركون أن الإيمان به مشروط بالإيمان بالشيطان؟ من المؤكد أنهم ما زالوا قادرين- كما كانوا في عصور سابقة- على قتل الشيطان معنويا بنزع جميع صلاحياته وسلطانه على العقل، والإقرار بمسئوليتهم عن تخليص أنفسهم بأنفسهم بعد أن يتوقفوا عن خلط إرادتهم بإرادة الله من ناحية، وبغواية الشيطان من ناحية أخرى، كما يحدث الآن؛ ففي ثقافتنا الراهنة نجد أن مملكة الشيطان قد تحصنت بكتيبة من الشياطين نذكر منها:
١- الشيطان الديني: الذي يميل إلى شيطنة مخالفيه في العقائد أو الفهم أو التأويل أو المذاهب الدينية... متهما إياهم بالكفر، فيستحل أموالهم ودماءهم، ويظهر بين هذا وذاك درجات من الفجاجة والتطرف والمزايدة على التقوى والقداسة وجميع صور العنف المعنوي والمادي... إلخ.
٢-الشيطان النفسي: الذي يتجنب التفسير العلمي للأمراض النفسية كالوساوس القهرية والهستيريا... وعلاجها بالوسائل الطبية المتخصصة، ويتوهم أنها مجرد وساوس شيطانية أو مس من الجن أو عمل سحري... ويلجأ للعلاج الروحاني أو القرآني خاصة أو الزار والسحر والشعوذة والدجل... والاعتقاد بحرائق الجان، والاشتغال بتفسير الأحلام وتصديق المشتغلين به، وإتيان كل ما ينتهك كرامة الإنسان.
٣-الشيطان الاجتماعي: الذي ينكر التنوع الاجتماعي والقيمي للثقافات ويميل إلى شيطنة المخالفين للنظم والعادات والتقاليد... الاجتماعية باعتبارها مقدسة!
٤- الشيطان السياسي: الذي نراه حاضرا بقوة، خاصة في الثقافات التي تزعم أنها قد تخلصت من الشيطان فعليا، فقد كان ريجان مثلا يفضل وصف الاتحاد السوفيتي السابق بـ"امبراطورية الشر" وهناك حاليا من يفعل العكس فيصف أمريكا بـ"الشيطان الأكبر"، ويصف إيران بأنها "محور الشر".
إذن هناك باستمرار ميل واضح لشيطنة الخصوم، والملاحظة الغريبة هي استمرار الاستعانة بالشيطان للدلالة على الشر في جميع ثقافات العالم حتى بعد اغتياله!
- والآن: كيف يمكننا أن نتخلص من أطياف الشيطان التي تسكن عالمنا العربي؟ كيف يمكننا القضاء على دعائم مملكته؟ أرى أن الحل لن يكون إلا بالجمع بين منهجين لا ثالث لهما:
١- المنهج الأخلاقي: بدعم ثقة الإنسان بذاته وبقدرته على الانتصار على مواطن ضعفه بإخلاصه لنفسه وكفاحه لتحسين أحواله، وبتجديد إقراره بمسئوليته الشخصية عن ذلك، وهذا لا يستبعد قيم التدين الصحيح.
٢- المنهج العلمي: بإعمال العقل والاستعانة بالمناهج العلمية الموثوقة للسيطرة على مخاوفه، وعلى كل طيف شيطاني ممكن!
وفي حالة نجاحنا في ذلك فإن غايتنا سوف تتحول من مجرد البقاء على قيد الحياة، كما هو الآن، إلى السعي لبلوغ مركز الصدارة في سباق الحضارة: حضارة العقل لا حضارة الشيطان.