الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

السيد يسين.. مساهمات وإسهامات

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
عندما كان السيد ياسين يروى كيف غيَّر اختصاصه استنادًا إلى اهتماماته، متبعًا فى ذلك خطى توفيق الحكيم فى الثلاثينيات من القرن الماضي، ومحمد مندور فى الأربعينيات من القرن الماضي، كنت أُجادِلُهُ بأنّ ذلك كان شجاعة فائقة أو تهورًا لا تُحمدُ عقباه. ولا يمكن القياس على الحكيم ومندور، لأنّ الزمان كان أفضل، والصعلكة الممتعة كانت أقل تكلفة. وكان رحمه الله يضحك ويقول: أنتم أزهريون محافظون يا رضوان، وعندما ذهبت إلى ألمانيا بعد عام ١٩٦٧ كنت مثل سائر العرب قد سقطت فى شباك الخوف، فصار همُّك وهمُّ سائر الممنوحين الحصول على الشهادة وحسب وربما من أجل عدم العودة إلى البلدان العربية، أما زمننا فى الخمسينيات ومطالع الستينيات فقد كان زمان الانسياح العربى، والأحلام التى لا تنقضى، والآمال التى لا تخبو، والإمكانيات التى لا تُستنفد.
وعلى أى حال، فقد تحول السيد ياسين ـ وقد ذهب بمنحة إلى باريس مدتها ثلاث سنوات ـ بعد عام ونصف العام إلى التخصص فى «علم اجتماع الأدب». وهذا اختصاصٌ غامضٌ وقتها كان يقوده رولان بارت وكتّاب الرواية الجدد، وهو يطلُّ على سوسيولوجيا الثقافة، وعلم الاجتماع الثقافى. لكنّ جيلنا نحن الذين ذهبنا إلى مصر للدراسة بعد منتصف الستينيات من القرن الماضى ما عرفنا السيد ياسين أول ما عرفناه إلاّ من كتابه عن «الشخصية العربية» الصادر فى مطلع السبعينيات من القرن الماضى. ودائمًا وفى عودة إلى عقدة عام ١٩٦٧ فقد تكاثرت «الدراسات» وقتها عن العجز العربى، والعُقد التى يولد العربى مزوَّدًا بها، وكيف يحبط انحطاط المجتمعات العربية جهود الأفراد النوادر، وهذا إلى الديكتاتوريات التى تسببت فى هزيمة عام ١٩٦٧ بسبب التخلف الفكرى والعلمى والسياسى. وقد ذهب رفاييل باتاى الإسرائيلى فى كتابه عن «العقلية العربية» إلى أنّ هذا الانحطاط المتجلّى فى سِمات كثيرة له أبعاد تاريخية وحاضرة فى العقل العربى والتصرفات. وسط ذاك السيل من الرؤى السلبية التى تشبه ما يقال اليوم بشأن الإسلام، جاء كتاب السيد ياسين، وبهذا المنهج الجديد فى التحليل الثقافى للشخصية، ليس ليطمئن ولا ليرد؛ بل ليوضح معنى الهوية والانتماء، والأبعاد الواقعية والأسطورية للشخصية القومية، وأن «شخصيات» الأمم والشعوب تتطور عبر حقب طويلة، ولا يمكن «إنتاجها» لدى الجماعات بالذات عبر «الهندسة الوراثية» والعنصريات التى حاولها هتلر، ويحاولها الصهاينة فى إسرائيل بعد قيام دولتهم على أرض فلسطين. فى كتاب السيد ياسين السالف الذكر، ما عرفنا منهجًا جديدًا فى قراءة الشخصية والشخصية القومية وحسْب؛ بل عرفنا أيضًا مصادر وقراءات ودراسات فى الأمم والقوميات والشعوب، تتفلت من الرؤية الماركسية، والرؤية القومية الرومانسية، وتخرج من الأيديولوجيا إلى الثقافة. وقد صار ذلك هو الشأن فى كتابات ودراسات السيد ياسين، وهو الأمر الذى تفرد به بين أبناء جيله. فرغم عمله فى مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بـ«الأهرام» لثلاثين عامًا وأكثر، ما كتب فى العلوم السياسية البحتة، ولا أخضع دراساته لأيديولوجيا مسبقة مهما كانت الضغوط تستدعى ذلك. وإنما أصرَّ دائمًا على العرض والرأى الجديد والمتقدم للدراسات بالفرنسية والإنجليزية فى سائر الموضوعات المطروحة فى العلوم الإنسانية والاجتماعية، ودائمًا بتركيز على المعانى الثقافية أو السياقات الثقافية للظواهر والموضوعات، وسواء أكانت سياسية أم علمية أم استراتيجية أم اجتماعية «ثقافية» بحتة. وما كان الأستاذ السيد ياسين يميل للأُطروحات الشاملة. وقد أخذ ذلك على حسن حنفى والجابرى وأركون. كما لم يكن يميل إلى تفسير الظواهر بالعودة إلى التاريخ أو الأصول. لكنه وبعد طول تردد، وبسبب امتداد التأزم العربى والإسلامى وتفاقمه، راح يقرأ قراءة نقدية الأطروحات الشاملة لأصحاب رؤى العقل العربى والعقل الإسلامى، وثقافة العرفان والبرهان والبيان، وأنثروبولوجيا الثقافة والدين، وعقدة الدين والدولة. وقد استوقفته لبرهة أُطروحات أركون، ثم ما لبث أن اعتبرها خواطر ومخططات هى نتاج قراءات وليست نتاج فهم معين للنص الإسلامى أو للسياقات التاريخية والحاضرة. فهو المتعود على منهج «سوسيولوجيا الأفكار» والتحليل الثقافى لها، ما فتنته التاريخيات ولا التاريخانيات اليسارية أو اليمينية.
فى السنوات العشر الأخيرة، انصرف السيد ياسين إلى قراءة ظواهر العولمة أو وجوه تأثيراتها فى الثقافة والسياسة. وقد نبهنا من خلال قراءاته الكثيفة والمتتابعة لكتب ودراسات منتقاة إلى ثلاث ظواهر اعتبرها عولمية أو من نتائج العولمة: عودة الدين، والشعبويات، والفوات الهائل فى الأنظمة السياسية العربية العسكرية والأمنية الموروثة من الحرب الباردة. وهو يرى أنّ عودة الدين لا تعنى عودة للقديم أو الأصول إلاّ من الناحية الرمزية، أما التنظيمات والتصرفات فهى جديدة تمامًا لا تعود حتى إلى حقبة الحرب الباردة. أمّا الشعبويات فهى ظواهر تذرُّر وليست اندفاعات أو حركات اجتماعية بالمعنى المعروف من زمن اليسار والتحرير. وهى من خلال وسائل الاتصال تصل أحيانًا إلى مستوى الحقيقة الاعتبارية، وهذا لا يُنافى كونَها تعبّر عن حاجات حقيقية. وأذكر أن مفهوم «الفوات» كان أول من استخدمه فى الستينيات المفكر المغربى عبدالله العروى، وكان يعنى به الاختلال الناجم عن التخلف العلمى والثقافى والمفضى إلى الغربة عن ذهنيات وتنظيمات المجتمعات الحديثة والدولة الحديثة. أما السيد ياسين وبعد أربعين عامًا فقد دأب على استخدامه بمعنى أخصّ: تخلُّف الأنظمة العربية عن الركب العالمى فى فهم وظائف الدولة، وفى ممارسة العمل السياسى، وفى التعامل مع مطالب الناس باعتبارهم مواطنين وباعتبارهم بشرًا. وكان متحيرًا بشأن المآلات، ولذلك خشى كثيرًا من «الانفجار العربي» عام ٢٠١١، وكان ممن خشى على الدولة ذاتها. وقد لامنى لأننى فى كتابى بعنوان: «أزمنة التغيير» والصادر عام ٢٠١٤ كتبتُ فصلًا ختاميًا عنوانه: الخوف من الدولة والخوف عليها، لكنه بعد أن قرأ الكتاب كلّه، وكان كما سبق القول قارئاً نَهِمًا، اتصل بى ضاحكًا وقال: لا بأس بما كتبت، ولا بأس بمعرفتك بالتحليل الثقافى وعندما حدّثتُ أستاذنا الدكتور جابر عصفور بما ذكره لى السيد ياسين عن فصل الكتاب، قال: أهم ما فى عمل السيد ياسين هذا الجهد الفائق لفهم متغيرات العالم، وإفهامنا إياها.
رحل الأستاذ السيد ياسين عن عمر عالٍ، وفى زمن ما عاد فيه التحليل الثقافى كافيًا أو مقنعًا رغم الطغيان الثقافى والشعبى العنيف. ولسوء الحظ فإنّ الراحل ما درّس كثيرًا فى الجامعة، والأستاذ يبقى فى ذكريات طلابه، بقدر ما يبقى فى كتاباته أو أكثر. وقد كتبتُ هذه الكلمة تقديرًا لأعماله من جهة، ولكى ألفت الانتباه إلى قضايا ومشكلات البحث العلمى العربى فى العلوم الاجتماعية، وفى المستقبليات.
نقلًا عن الشرق الأوسط