الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

«مولانا».. الصفعة الأخيرة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«كلنا مسئولون؛ مسلمون، مسيحيون» بهذه العبارة الوجيزة، اختتم الشيخ «حاتم الشناوى» حواره مع «الأنبا باخوم»، وهو يتحدث عن الشاب «حسن»، الذى فجر «الكنيسة» يوم ميلاد الرسول، ليضع السفاحون «الإسلام» مقابل «المسيحية»، ثم اختلطت دموعه الملتهبة بدموع كل الحاضرين داخل «الكنيسة» وقاعة «السينما» فى المشهد الأخير الخارق، فصارت قوة ثائرة، اخترقت الحواجز، انتزعت الأقنعة. 
يعزف فيلم «مولانا» على الجرح الغائر والنازف فى مجتمعاتنا العربية فى وحدة هارمونية متناسقة، تحكى قصة عجز شيخ الفضائيات عن قول كل ما يعتقد أنه الصواب والحق، ونضاله حتى لا يضطر إلى أن يقول ما يراه خطأ، وهى لم تعد مأساته وحده، بل مأساتنا جميعًا!
فضح، بجرأة غير مسبوقة، كل ممارسات الفساد داخل الأجهزة الأمنية، التى تريد أن تُدير كل شىء حتى الخطاب الدينى، ليكون تحت سيطرتها، سواء كان من الشيوخ الرسميين للدولة، أو الدعاة الجدد الأكثر تأثيرًا وشهرةً، وكيف يَصْنَع من الإعلام كمائن مُحكَمة للمشاهير، فتجاوز «الشكوك» التى تسكن عقول الناس إلى «الحقائق» التى اخترقت وجدانهم وشرايينهم وأنسجتهم.
يُدرك المصريون جميعًا أن الإعلام ما زال هو صوت النظام؛ لأنه غير مسموح بالخلاف مع السلطة، إلا أن السكوت لم يعد علامة الرضا، بل علامة الألم! الذى استطاع أن يُولِّد من قتامة اليأس التام شعاع الأمل، حينما انتعش صوت الإعلام الموازى، مخرجًا لسانه للدولة، عبر شبكات التواصل الاجتماعى.
يرصد الفيلم رحلة صعود شيخ صغير من إمامة الصلاة فى مسجد حكومى إلى داعية تليفزيونى شهير، يملك حق «الفتوى»، التى يتلقاها الملايين بالإعجاب؛ لجرأته، وخروجه عن مألوف الحديث السائد فى مجتمع غارق فى أفكار سلفية متشددة، ليقع فى شبكة من الصراعات بالغة التعقيد؛ فقده الجزئى لطفل تأخر إنجابه، يعالج فى مصحة خارج الوطن، وزوجة غاب دفؤها، وأجهزة أمنية تسعى للسيطرة عليه، واستغلال نقاط ضعفه من أجل توجيهه لخدمة معاركها، وجهة سيادية عليا تورطه فى حل مشكلة أحد أبنائها، الذى يعرض الأسرة الرئاسية لحرج بالغ، لا تتحمله ظروف مجتمع هش.
يرفض تكفير الآخر، فالجنة ليست حكرًا على المسلمين، بل رحابة السماء تتسع للجميع، ولا تفرق بين الأديان، حتى من يكفر لا يمنع من رحمة الله! لذا وجَبت التفرقة بين المسلمين والإسلام، من خلال حوارات صريحة بين «الشيخ حاتم» و«حسن» الذى ينتمى لعائلة الرئيس الأسبق، الراغب فى التَّنَصُّر، الذى يُلْقى فى وجهه شبهات حول «الإسلام» مثل: الطائفية، العنصرية، معاملة المسيحيين كأنهم درجة ثانية، وممارسات أخرى غير عادلة.
يبرز قضايا حساسة جدًا؛ السخرية من الشيخ المخضرم، الذى ينتمى إلى مدرسة النَّقْل، وليس إعمال العقل، وهو يتبنى حديث «إرضاع الكبير»، ومفهوم «مِلْك اليمين» للمسلمين، «الجوارى» للمسيحيين، ومفارقة «الخلوة الشرعية»، وفكر «المعتزلة» الذى يقدم العقل على النَّقْل، بعكس أهل «السنة» الذين يرون فى العقل وسيلة لفهم النص، ثم حديث «البخارى» حول المرأة إذا هجرت فراش زوجها، ولعنها من الملائكة حتى ترجع! فهناك آلاف الأحاديث الضعيفة، التى يجب مراجعتها، فالعبادة لله، وليس للبخارى أو غيره! 
واجه فكرة تغيير الديانة، سواء من المسيحية إلى الإسلام أو العكس، وأنها وَهْم، وانتصار زائِف؛ لأن أسبابها الاجتماعية أكبر كثيرًا من أسبابها الفكرية، خاصة فى الطبقات التعليمية والاجتماعية المتدنية، ففكرة مقارنة الأديان، والوصول إلى نقط الخلاف المفصلية، والاطلاع عليها بعمق، والتفضيل بين ديانة وأخرى، هى عملية شديدة التعقيد، خاصة أن العقائد نفسها منقسمة، فالمسيحية منقسمة، والإسلام منقسم بين سنة وشيعة، وداخل الشيعة مذاهب وفَرِق، وداخل أهل السنة مذاهب وفَرِق، ثم أن كل طائفة ترى فى نفسها الحقيقة المطلقة، وغيرها فى الضلال، فضلاً عن تاريخ الدماء الطويل والمؤسف بينهم.
فتح جُرْح الصراع بين الشيعة والسنة، وتحول بعض البسطاء من المجتمع المصرى إلى العنف المفرط، بسبب خطاب دينى شديد القبح والتعصب، واستخدام «الطائفية» لأغراض سياسية فى محاولة التخلص من شخصية الصوفى «حُسينى»؛ لأنه يَعْلَم أن ابن الرئيس «جلال» عولج عصبيًا، بينما يتم إعداده؛ ليصبح هو الرئيس.
يكشف فى النهاية لعبة التَّنْصير والأسْلَمة، ويمنحها بُعدًا سياسيًا، حينما يحيل الشاب «حسن» فى النهاية إلى متطرف إسلامى يفجر الكنيسة، فهو ينتقل بين الأديان، بلا وعى ولا إيمان، على الجانب الآخر هناك المسيحية التى أشهرت إسلامها؛ لأنها حصلت على الثمن، ولا تملك ثقافة الاختيار بين الأديان.
أظهر خطورة الأفكار المتطرفة، فهى لا تسكن عقول الطبقة المتوسطة والفقيرة فقط، بل تتسرب لأعلى الطبقات فى المجتمع؛ لأنها تنفذ إلى كل النفوس المجهدة والفارغة فى لحظات ضعف، يستغلها المروجون.
أكد الفيلم أن قضية تجديد الخطاب الدينى ضرورة مُلحَّة، وهى ليست مهمة الأزهر وحده، بل مسئولية قومية ووطنية، ملقاة على عاتق كل أفراد المجتمع، بالفهم المستنير، والطرح الجاد، والتناول السليم.
نجح الكاتب الصحفى «إبراهيم عيسى» والمخرج البارع «مجدى أحمد على» بمشاركة النجم «عمرو سعد» والمبدع «أحمد مجدى» وعدد من الممثلين المتميزين أن يجعلوا الأفكار أشخاصًا تتحرك، وتنفذ إلى العقل والوجدان.
أعترف أن فيلم «مولانا» هو أفضل ما حدث لى عام ٢٠١٦؛ فهو نقطة مضيئة فى تاريخ السينما المصرية؛ لأنه استطاع تقديم جمهور ناضج للعالم، يتعامل بحرية وحيوية وفهم مع السينما، وهى الطريقة الفاعلة والقادرة على مواجهة الإرهاب والطائفية والعنصرية والفاشية والفساد، وعلى الدولة والبرلمان ونحن أن نتلقى الصفعة الأخيرة، ولا نقدم أفكارًا تهدم وتدمر، أو تشريعات تمنع وتصادر!