الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

ما لم تقله الأم تريزا قبل رحيلها

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أذكر أن حظرًا جويًّا شاملًا فُرض على العراق بعد غزو الكويت، وشن حرب غربية شاملة عليه، انتهت بتدمير أكثر من نصف قدراته العسكرية، واستُخدمت الأمم المتحدة خصمًا له حين خرجت بعشرات القرارات الدولية ضده، لم يسبق لها مثيل فى التاريخ، أقساها فرض حصارٍ شامل عليه، بما فيه منع الطيران المدنى منه وإليه. 
وأُخرج الناقل الوطنى المدنى من الخدمة، كما أُخرج العراق فيما بعد كله، من أن يكون دولة مواجهة، أو ساندة لدول المواجهة العربية، وطويت صفحة أسطورة الجيش الخامس، الذى قاتل إيران ثمانى سنوات ضروس، ودون هوادة، تحت حراسة البوابة الشرقية، كما أطلق ذلك الكاتب جمال الغيطانى، الذى ألف كتابًا عن حروب الجيش العراقى فى الشمال، بعنوان «حراس البوابةالشرقية» أواخر السبعينيات.
تغيَّرت الدنيا بعدها تمامًا، أُكلت أجزاء من العالم العربى بعد أن أكلت دولة أرض السواد، وصار كل شىء تحت معادلة، الاحتلالات الكبرى علنًا،وفرض حصار دام ثلاثة عشر سنة.
فى ذلك الوقت العصيب على العراقيين والعالم العربى برمته، وفى يونيو عام ١٩٩١، هبطت طائرة تابعة للأمم المتحدة فى قاعدة الحبانية الجوية خارج العاصمة، كانت تقل امرأة واحدة، هى الأم تريزا، التى حصلت على إذن للسفر إلى العراق جوًا، نظرًا لكبر سنها، ولطبيعة مهمتها الإنسانية فيه، ظن الكثير من الناس أنه سيحتفى بها إيّما احتفاء، لأنها كسرت الحظر الجوى المفروض، أقلها ضيافتها فى الفندق الأكبر والأفضل فى بغداد، فندق الرشيد، إلا أن تلك المرأة العجوز، التى خرقت الحظر الجوى، وتحدت التحالف الدولى، ذهبت بسيارة الكنيسة الكلدانية بناء على طلبها، خارج مركز بغداد، إلى دير بعيد للراهبات فى حى الزعفرانية شرقى العاصمة، وظلت هناك، طيلة مكوثها فى العراق.
كنت من الصحفيين القلائل الذين كانوا يعرفون مكانها، ذهبت لأجرى أول مقابلة معها، دون أن أعرفها، أو أرى صورتها من قبل، فى أحد أيام العطل الرسمية فى العراق، وهو يوم الجمعة، وأنا أطلب من إدارة الدير آنف الذكر أن يسمحوا لى بمقابلتها للصحيفة القومية الأولى التى أعمل فيها آنذاك، وكنت وقتها سكرتيرًا للتحرير، امتنعت الإدارة بشدة أن نلتقيها، لأنها لا تريد مقابلات صحفية، ولا أى سبيل للشهرة والترويج لحملتها الإنسانية الفردية تلك، ولكنى كنت مصرًا على ذلك إلى أن تدخلت سيدة عجوز بعصابة بيضاء كانت تكنس الاستعلامات، بالسؤال: لماذا تريد أن تقابلها؟! واستغربتُ تدخلها السافر، أجبتها عن قيمة أن تأتى تلك السيدة لويزا إلى بلدى فى وقت تتداعى المصائب عليه كالمطر، وعلمت فيما بعد أنها هي السيدة المقصودة، ما كان صيتها ذائعًا لأعرفها، ذلك الوقت، وأدركت إنى إزاء سيدة استثنائية بكل معنى الكلمة، رغم دمامتها وقصرها، كانت متغظنة الوجه، يداها غليظتان متحجرتان من كثرة العمل الذى مارست خلال حياتها، لكن روحها مشعة، وعيناها فى ألق وبهاء، تكلمت معها طويلًا، عن مهمتها فى العراق، قالت: جئت لأرى الأطفال والأيتام منهم من شتى الطوائف، لعلى أسهم بتقديم شىء لهم، وأمور عن رحلاتها السابقة، 
نشرت المقابلة بعدها، غير أن حكايتى معها لم تنته بعد، فرغم أنى لم أر سيدة متواضعة ومحبة للخير مثلها، لكنى وجدت فيها درسًا للصدق مع النفس ومع الناس، ومنحهم قدرة على الحياة، من جديد، دارت الأيام وإذا بى يومًا أفاجأ وأنا أوقف سيارتى فى حى سكنى شعبى، وتسمّرت حين رأيت الأم تريزا تكنس شارعًا خلفيًا فى بغداد، مع مجموعة من المتطوعات أمام بيت للأيتام، هالنى مشهد همتها، وهى تحفز الأخريات أن يكملن مشوار تنظيف بيت الأيتام ذاك والشارع حوله، حاولت الاقتراب منها لأسألها عن عشرات الأفكار التى كانت تدور فى رأسى، عن سلوك الآخرين من أقرانها، لم تجبنى مطلقًا، لا لأنها لا تعرف، بل لأنها كانت صائمة عن الطعام والكلام وقتها، وظلت أسئلتى حبيسة صدرى سنين.
وبعد أعوام ماتت الأم تريزا بعد أن نالت الكثير من الألقاب، أقلها جائزة نوبل، وعدتها الفاتيكان قديسة، فقد دارت عجلة الأيام، وظل مشهد تواضعها وعملها، الحقيقى للفقراء والمعوزين، والمرضى والأيتام، حيث زارت معسكرات الجذام وأصيبت به، للأسف قبل موتها، ومنحت المبتلين به أملًا فى الحياة، لأنها تعرف أن مهمة المتدينين، هى أكبر من منصب أو موقع، إنها مرضاة الله أولًا وأخيرا، وليس ترفًا ومنة على الناس، أو تبرجًا، كتبرج بعض الرجال من رجال محسوبين على الدين أكثر من النساء كما نشاهد من شاشات التلفاز بين حين وآخر، إنها أمثولة للناس، وعنوان كبير عن صبرهم وتصابرهم مع المعوزين وعابري السبيل، والمتعبين واليائسين علمتنا الراحلة الأم تريزا أن مهنة التدين تفسدها السياسة، ويهدر قيمتها المراباة وتبنّى المواقف، أو التحريض عليها، إن العمل فى منطقة التدين ومؤسساته لا يقبل غير مرضاة الله، والتوسل إليه، والعمل الصالح قبل الكلام والتضحية والإيثار، علمتنا تلك السيدة العجوز المتهالكة جسدًا، الشامخة روحًا، أن التاريخ لا يكتبه الأقوياء دائمًا، بل الصابرون المانحو الناس أملًا بحياة أفضل.