الأربعاء 01 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

حرية المرأة عند زكي نجيب محمود «4»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يقرر «زكى نجيب محمود»، فى حديثه عن قضايا المرأة -حريتها أو تعليمها أو مساواتها بالرجل-، أن قضايا المرأة فى جوهرها قضايا إنسانية اجتماعية، بمعنى أنها قضايا لا تنفصل عن قضايا الرجل، فهى -من ثمَّ- جزء جوهرى أصيل فى قضية الوجود الاجتماعى للإنسان. فمن حق المرأة -مثلًا- أن تتعلم، بحكم الدستور، إلى آخر حدّ تمكنها مواهبها، ومن حقها أيضًا أن تشارك فى دنيا العمل بما تعلمته. يقول: «للمرأة كل الحق فى أن تتعلم إلى آخر قطرة تطيقها قدراتها الفطرية، وإذا قلنا إنها «تعلمت»، فكأننا قلنا بالتالى إن لها مكانًا فى دنيا «العمل» بمقدار ما تعلمت، وبنوع ما تعلمت، لأن التعلم بكل صنوفه ودرجاته، ليس كلامًا يُلقى به فى الهواء على سبيل التسلية، وإزجاء الفراغ، بل التعلم فى حقيقته تدريب على عمل يؤديه المتعلم.
وتحدث كذلك عن «المرأة، زوجة وأمًا لأطفال»، وهنا تنشأ المشكلة المحيرة -على حد قوله، فكيف توفق المرأة بين واجباتها فى العمل، وواجبات الرعاية لأطفالها الصغار؛ هذه المشكلة هى التى يحتج بها من يريدون للمرأة أن تنسحب من ميادين العمل التى من أجلها تعلمت لتنحصر فى بيتها. ورأيه فى ذلك أن يترك، لكل امرأة على حدة، حق الاختيار لنفسها فى ضوء ظروفها، فإذا اختارت أن تبقى فى بيتها لتربية الطفل، كانت حرة فى اختيارها، وإذا اختارت ميدان العمل، فواجب الدولة أن تيسر لها السبل التى تكفل الرعاية للطفل، إذ لا يجوز لنا أن ننسى أن الطفل «مواطن»، له على الدولة ما لسائر المواطنين من حق الرعاية -فتنظم له دورًا للحضانة فى كل مراكز العمل أو فى مواطن السكنى، معنى هذا القول، «إن المرأة إذا ما تجاذبتها واجبات العمل من ناحية، وواجبات أسرتها من ناحية أخرى، فلها، هى وحدها، حق الاختيار لما تفعله حلًا لإشكالها، وذلك فى ضوء ظروفها الخاصة، مستعينة بكل ما يجب على الدولة أن تعينها به من تيسيرات».
لكن المأساة حقًا -كما يقول مفكرنا- أن المرأة هى التى أخذت ترتاب فى جدوى التعليم بالنسبة إليها، وتشك كذلك فى مشروعية حقوقها الإنسانية من حيث هى مواطنة فى المجتمع. وتكتمل فصول المأساة -على حد قوله- «حين نرى الرجال يصفقون لها إعجابًا بضمورها وذبولها، وعودتها إلى حياة الحريم، فإذا أراد الله بإحداهن خيرًا، وجعلها تصمد على الكرامة، وعلى حقها فى الطموح من أجل نفسها ووطنها؛ ضاقت صدور الرجال وبكوا على خراب البيوت وضياع الأطفال». فى هذا الصدد يذهب «جون ستيورات مل. (١٨٠٦-١٨٧٣) إلى أن تحريم عمل المرأة يعود إلى رغبة الرجل فى الإبقاء عليها رهينة الحياة المنزلية، لأنه لم يعتد بعد فكرة الحياة مع شخص كفء يكون ندًا له، أو نظيرًا له. وأخيرًا، يرى «زكى نجيب محمود»، مأساة المرأة فى أنها صدّقت أن دنياها ليست هى دنيا الناس، من علم وعمل، وفن وأدب وفكر ورأى، وريادة وهداية وجهاد، صدّقت أن «المرء» و«المرأة» بينهما من التباين ما بين الروح والجسد، أو ما بين الطيران الطامح فى صعوده، والقعود المكبل بأغلال الكسيح، صدّقت البريئة أنها حلية يتملكها من يقتنيها، ومن حق هذا المقتنى أن يلف حليته باللفائف، وأن يحفظها فى الخزائن.
حين كتب «زكى نجيب محمود» عما أسماه «ردة فى عالم المرأة»، كان يناقش قضية المرأة المصرية فى سياق الردة الاجتماعية والفكرية العامة بعد هزيمة ١٩٦٧، التى نتج عنها أولًا: شعور قوى بالإحباط واليأس وانسداد الطريق أمام الشباب. ثانيًا: ظهور نموذج اجتماعى نقل إلينا عن آخرين، فوجد ذلك النموذج ترحيبًا من الشباب اليائس. ثالثًا: ثورات الشباب التى عمّت العالم وبلغت ذراها خلال الستينيات فى أوروبا وأمريكا بصفة خاصة، وفى أرجاء العالم بدرجات متفاوتة؛ فكان لتلك الثورة العقلية والنفسية صداها فى الشباب المصرى، لكنه صدى جاء ليعكس الترتيب الطبيعى للأوضاع -كما يقول «زكى نجيب محمود»- «فبينما الشباب الثائر فى البلاد الأخرى، كان يحتج على أوضاع الحياة الراهنة وبطء حركتها نحو المستقبل الجديد المأمول، رأينا ثورة شبابنا تحتج هى الأخرى على أوضاع الحياة الراهنة، وتدعو إلى عودة بها إلى نموذج السلف».
فى سياق حركة الردة العامة الاجتماعية والفكرية، والتى ظهرت بوادرها فى الواقع المصرى خاصة، وواقع مجتمعات العالم العربى عامة؛ ناقش «زكى نجيب محمود» وضع المرأة فى ضوء الواقع الاجتماعى العام، ورأى أن أبشع جوانب الردة فى حياة المرأة، ليس هو أنها تريد أن تتعلم إلى آخر المدى فيمنعها أحد، وليس أنها تريد أن تعمل بما تعلمته فيمنعها أحد؛ وإنما الجانب البشع من تلك الردة، هو أن المرأة تريد أن تجعل من نفسها، وبمحض اختيارها، حريمًا يتحجب وراء الجدران أو يتستر وراء حجب وبراقع، وكأنها الفريسة السهلة، تخشى أن تتخطفها الصقور. ويقول، فى هذا السياق أيضًا، «الذى نلاحظه فى هذه المرأة المرتدة هو أنها قد تتعلم، لكنها تتعلم غير مؤمنة بما تتعلمه، وقد تشارك فى ميادين العمل، لكنها غير مؤمنة بجدوى العمل؛ فهى آخذة فى الضمور العقلى والوجدانى إلى مصير لا يعلمه إلا رب العالمين».
وفى هذا الإطار يبرز مفكرنا الفارق الشاسع بين حياة المرأة المصرية فى الماضى وحياتها اليوم، فيقول: «كانت المرأة المصرية فى بارحتها تتوثب طموحًا، وكأنها أرادت أن تبلغ الأفق البعيد بقفزة واحدة. إنك لو رأيتها فى الأعوام الأولى من بارحتها تلك، إذن لرأيت ما يشبه القوس المشدود إلى صدر راميها، وقد شحنت بالتحفز، حتى إذا ما ارتخت عنها قبضة الرامى، طارت حتى نافست نسور السماء وصقورها، وبضربات منها سريعة متلاحقة، حطمت قيود الحريم، واستردت كرامتها المفقودة وإنسانيتها الضائعة... وأما فى ليلتها فقد فترت العزيمة وما حسبناها تفتر بهذه السرعة الخاطفة». ويقول أيضًا: «ما أبعد الفرق بين حياة المرأة المصرية بين الليلة والبارحة، ففى بارحتها ألقت بحجابها فى مياه البحر عند شواطئ الإسكندرية»، إيذانًا بدخولها عصر النور، وأما فى ليلتها هذه فباختيارها تطلب من شياطين الظلام أن ينسجوا لها حجابًا يرد عنها ضوء النهار».
والمقصود بدلالة الحجاب فى النص السابق، هو حجب عقل المرأة عن آفاق المعرفة الحرة، وحجب وجودها الاجتماعى بحبسها داخل أسوار البيت؛ كذلك ستر وجودها الفيزيقى بالحجاب الذى يعد تجسيدًا رمزيًا لكل معانى التغطية العقلية والاجتماعية. ولقد تعرض مفكرنا إلى رد فعل عنيف بسبب هجومه على الحجاب ودفاعه عن «سفور الوجه» الذى يؤدى إلى «سفور الروح». وقد استنبط الذين هاجموه أن الدعوة إلى نبذ الحجاب هى مجرد مقدمة يلزم عنها نتائج خطيرة تهدد منطلقات الخطاب الدينى تهديدًا مباشرًا، كما أن الهدف من خلع الحجاب وإلقائه فى البحر هو رمز للدعوة إلى نبذه؛ بل إغراقه فى اليم ليصبح نسيًا منسيًا، ثم أيضًا فى محاكاة المرأة المصرية للمرأة الغربية فى كل ما تأتى وما تذر. وبمعنى أوضح ينسحب هذا على فصل الأخلاق عن الدين، وفصل الدين عن الأخلاق، وصولًا إلى فصل الدين عن الدولة، وفصل الدولة عن الدين.
لكن الشريعة الإسلامية -فيما يرى «زكى نجيب محمود»- لا تقر الحجاب بمعنى الحبس والحجر والمهانة، لكن بمعنى التصون والعفة والاحتشام. معنى هذا أنه إذا كان مبدأ الإسلام بالنسبة للمرأة أن تأتى ملابسها على صورة الاحتشام، فيجب عليها أن تلتزم بها، فهناك -كما يقول- «فرق أن تطالب المرأة اليوم بأن يجيء ثوبها على غرار ما كان الثوب عند سالفتها، وبين أن نترك لها حرية التصرف شريطة أن تراعى مبدأ الاحتشام فى ظروف الحياة الجديدة». وفيما يخص مسألة الزى، يقدم لنا «مفكرنا» صورة لامرأة عربية قد رآها فى إحدى العواصم الكبرى ويصفها لنا بقوله: «هى صورة امرأة لفت جسدها بما يشبه عباءة سوداء، من رأسها إلى قدميها، رأيتها... وقد تعثرت فى غطائها الأسود فوقعت بين الزحام، ثم أسرعت مقرفصة إلى ركن وقبعت فيه، وكأنها ترتجف داخل سوادها مما أصابها وما كان يمكن أن يصيبها... لكن قلبى الحزين أنطق لسانى بصيحة ملتاعة: متى يجيء اليوم -يارب- الذى تكون فيه هذه المرأة نفسها رائدة من رائدات الفضاء؟!».
طالب «زكى نجيب محمود» بتطوير زى المرأة مع المحافظة على المبدأ الذى أقره الإسلام، كما طالب أيضًا بتطوير قوانين الأحوال الشخصية مع المحافظة على المبادئ التى قررها الإسلام تجاهها. أما الإبقاء على القوانين التى كانت تتعامل بها المرأة المسلمة القديمة، فهو نوع من الظلم، «لأن المرأة العربية الجديدة إنسانة أخرى غير امرأة الأمس، ومع ذلك فقد وجدت نفسها فى مجالات العرف والتقاليد والتشريع، حبيسة أوضاع وضعت لسالفاتها من بنات «الحريم» و«الجوارى» و«الغانيات». لذا فهو يطالب بتغيير الأحكام الشرعية الخاصة بالمرأة، ويدعو العرف والتقاليد والمجتمع بأكمله أن يغيروا موقفهم من المرأة الجديدة، لتعيش حياة مطمئنة تجارى فيها عصرها، ولا تكون عقبة أمام التقدم.