السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

السيد يسين.. رحل "المايسترو" وبقيت "السيمفونية"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تتوقف كثيرًا أمام شخصية السيد يسين حائرًا فى تحليل طبيعتها ومكنوناتها، هل هو باحث فى القانون؟، هل هو باحث فى علم السياسة؟ هل هو باحث فى علم الاجتماع؟، هل هو باحث فى علم الاجتماع السياسي؟، هل هو باحث فى تخصص معين أم أنه باحث موسوعى فى كل هذه المجالات؟، هل هو ذلك الباحث الذى يعيش فى برج عاجى كمعظم المثقفين أم أنه الباحث المهموم بقضايا الوطن على مدار أكثر من ستة عقود من الزمان؟، هل هو الباحث الذى يفضل العزلة أم أنه الباحث المتفاعل مع الباحثين والذى يجيد إدارة فريق بحثى لإنجاز أعمال علمية محترمة تضيف للبحث العلمى وتتشابك مع قضايا الوطن؟.
فى الحقيقة يمكن القول إن السيد يسين قد استطاع أن يأخذ بطرف من كل المجالات البحثية التى كتب فيها حتى صار باحثًا ينتمى إلى الجيل الموسوعى الذى أخذ فى المغيب واحدًا تلو الآخر؛ جيل القامات السامقة التى يصعب علينا تعويضها فى زمن التردى الذى يحاول فيه الأقزام أن يستطيلوا برؤوسهم إلى أعلى ليبلغوا هذه الهامات العالية، ولكن هيهات هيهات لما يرنون إليه.. وهذا الجيل هو الذى بدأ مسيرته فى عقد الستينيات فى مجالات الثقافة والأدب والفن والسياسة والتاريخ والصحافة، ونفتح الآن عيوننا على الحاضر فى هذه المجالات، فلا نكاد نرى أحدًا. إن رحيل السيد يسين يمثل رحيل جيل بأكمله عن الساحة الثقافية والفكرية، إن لم يكن بفعل الموت، فبفعل عامل الزمن الذى تعمل رحاه التى لا ترحم فى الأجساد العليلة الواهنة التى أنهكتها الحياة.
تتلمذت على كتابات السيد يسين منذ زمن بعيد، وكنت معجبًا بتجدده المعرفى الخلاق، فقد كنت مبهورًا بهذا الرجل فى هذه السن يكتب كتابات متعمقة فى العولمة والتكنولوجيا وتأثيراتها العولمية والإنترنت والمدونات ومتابعته لكل جديد فى مجال العلم والنظريات الجديدة. وفى أواخر عام ٢٠١٠ دعوته للمشاركة فى مناقشة رسالة ماجستير لتلميذتى فاطمة الزهراء عبدالفتاح بكلية الإعلام جامعة القاهرة، وكانت الرسالة بعنوان: «استخدام المدونات الإلكترونية وعلاقته بمستوى المشاركة السياسية فى مصر»، وكنت أخشى عدم قبوله الدعوة بسبب كثرة انشغالاته وهمومه البحثية، إلا أنه قبل الدعوة وأثرى المناقشة التى كانت موسوعية بكل المقاييس، وكتب عن الرسالة مقالًا فى صحيفة «الأهرام»، بل وفتح آفاقًا رحبة من الحوار الإنسانى والعلمى المتواصل مع الباحثة، حيث كان يتابع أعمالها البحثية الأخرى فى بعض المراكز البحثية التى عملت بها، ويتابع مسيرتها فى الدكتوراه حتى انتهت منها، ويحصل على الجديد من كتبها لمطالعتها وإبداء رأيه فيها. لقد كان السيد يسين حاضنة للبحث العلمي، وكأنه مركز بحثي قومي يمشى على الأرض، مع ما له من حرية حركة وثراء تفاعل تعجز المراكز البحثية عن إدراكه.
وعند إعادة إطلاق د. عبد الرحيم على «المركز العربى للبحوث والدراسات» فى عام ٢٠١٣، للتصدى لظاهرة الإسلام السياسى التى اكتوت مصر بنيرانها غير الصديقة بُعَيْدَ ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ وموجتها التصحيحية فى ٣٠ يونيو ٢٠١٣، والتى أزاحت جماعة الإخوان الإرهابية من سُدة الحكم، لم يجد د. عبدالرحيم على أفضل من السيد يسين لكى يكون مديرًا لهذا المركز، وأطلق يديه فى استقطاب نخبة من الخبراء القادرين على تفكيك ظاهرة الإسلام السياسي، حيث توحدت رؤية د. عبدالرحيم على والسيد يسين فى أن مواجهة ظاهرة الإسلام السياسى وتياراته لا تكون أمنية فى المقام الأول، بل ينبغى أن تكون فكرية بامتياز لمواجهة الأفكار المتطرفة لهذه التيارات، وكشف الأساطير التى تروج لها فى إعلامها الضال والمضلل.
وبعد وجود هذه «الرؤية» الجديرة بالاعتبار، قام السيد يسين بتكوين فريقٍ بحثى يضم نخبة من الخبراء والباحثين فى مجالات عدة، لتفنيد ظاهرة الإسلام السياسي، وكان كل خبير أو باحث على رأس مجاله والأبرز فيه، حيث ضَم هذه الفريق من الخبراء الراحل العظيم د. محمد حافظ دياب أستاذ علم الاجتماع فى جامعة بنها، وأشهر من كتب فى نقد الفكر السلفي، ود. محمد السعيد إدريس المتخصص فى الشئون الإيرانية وإقليم الشرق الأوسط، ود. محمد عفيفى رئيس قسم التاريخ بآداب القاهرة وأمين المجلس الأعلى للثقافة السابق، والأستاذ نبيل عبدالفتاح وريث السيد يسين فى الاهتمام بالمجالات الثقافية والقانونية، ود. شريف درويش اللبان وكيل كلية الإعلام جامعة القاهرة، ود. ضياء زاهر رئيس مركز الدراسات المستقبلية بجامعة عين شمس، والأستاذ إبراهيم نوار الخبير فى الشئون الاقتصادية واقتصادات الجماعات الإرهابية ومصادر تمويلها، ود. يسرى العزباوى المتخصص فى الشئون السياسية، ود. أحمد موسى بدوى الخبير فى علم الاجتماع وعضو لجنة الاجتماع والأنثروبولوجيا بالمجلس الأعلى للثقافة، علاوة على نخبة متميزة من الباحثين الشباب الذين قدموا إسهامات لا تُنكر فى مسيرة المركز خلال السنوات الأربع السابقة، أذكر منهم هانى سليمان وبسام صلاح وإبراهيم منشاوي. 
وكان موعد مجلس الخبراء مقدسًا لدى «مايسترو» المركز القدير الذى أداره باقتدار، واستطاع المجلس أن يقدم رؤى متعمقة فى مختلف القضايا المطروحة على الساحة، وأن يفكك ظاهرة الإسلام السياسى بكل جوانبها السياسية والاجتماعية والإقليمية والدولية والاقتصادية والقانونية والإعلامية، بل وسيناريوهات تطوراتها المستقبلية، وهو ما لم يستطعه مركز بحثى آخر على مستوى المنطقة العربية بهذه الكفاءة والاقتدار. كما استطاع «المايسترو» بدعم كامل بلا حدود من د. عبدالرحيم على رئيس مجلس إدارة المؤسسة، أن يدشن المركز بمؤتمر ضخم بعنوان: «مستقبل الإسلام السياسى فى العالم العربي» فى أواخر يناير من عام ٢٠١٤ على مدار ثلاثة أيام شارك فيه كل المتخصصين فى الموضوع من الدول العربية كافة، وواكب ذلك تدشين موقع للمركز يلقى إقبالًا كبيرًا على المستوى العربي، كما تم إصدار مجلة «آفاق سياسية» لنشر أبحاث تواكب القضايا المثارة على الساحة السياسية. هذا عدا الكتب والكراسات السياسية والاستراتيجية التى أصدرها المركز، والتى تُعد مرجعًا أساسيًا للباحثين فى ظاهرة الإسلام السياسي.
لقد كان السيد يسين يلوم أى خبير يتأخر عن موعد اجتماع مجلس الخبراء المقدس فى الثانية عشرة ظهر كل يوم ثلاثاء، وكان يقول إن أبى كان رجلًا «عسكريًا»، وتربيت فى معسكر، وأنا منذ ذلك الحين غاية فى الالتزام، وكان التزامه الصارم يُشعرنا بالخجل إذا تأخرنا عن موعد الاجتماع.
أستاذنا الكبير وعالمنا الموسوعى و«مايسترو» سيمفونية البحث العلمى فى مركزنا، نحن سائرون على الدرب، ولن نفقد بوصلتنا البحثية، ولن نتخلف عن «لقاء الثلاثاء»، ولن نتخلف عن قضايا الوطن، ولا حربه الفكرية المقدسة مع قوى الشر والظلام ما بقينا على قيد الحياة، وما دام فينا عِرْقٌ ينبض.
رحم اللهُ السيد يسين وألحقنا به على خير وألهم أسرته وتلامذته وزملاءه ومحبيه الصبر الجميل.