الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

حرية المرأة عند زكي نجيب محمود "2"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
نكمل، اليوم، عرض تصور المفكر العربى الكبير الراحل الدكتور زكى نجيب محمود لحرية المرأة المصرية.
مشكلة «الحرية» من المشكلات التى خلفَّت وراءها تراثًا طويلًا، وعُولجت -بعمق- خلال تاريخ الفكر الإنسانى، فقد ظهرت هذه المشكلة فى عدة صور متباينة (عبر المراحل المختلفة التى مر بها التطور العقلى للإنسان)، فكانت فى صورتها البدائية البسيطة مشكلة لاهوتية تتعلق بكيفية التوفيق بين وجود إله قادر على كل شىء، عالم بعلم سابق، وبين حرية الإنسان المسئول أخلاقيًا، أى هى إمكان التوفيق بين حرية الإنسان وإرادة الله، وكانت فى المرحلة الثانية- من التطور العقلى للإنسان- مشكلة ميتافيزيقية بصفة خاصة، تبحث فى كيفية العلاقة بين الحرية الأخلاقية وفكرة السببية وصرامة القانون وشموله، وأصبحت فى العصور الحديثة- بعد أن سلم العلم بنظرية التطور- مشكلة الحياة نفسها، أى العملية المنتظمة التى تتحكم فى أشكال الحياة ذاتها، إنها الحرية التى شملت الأحياء جميعًا: «من الأميبا الأولى إلى أرقى ما ارتقى إليه البشر»، لكن ما المقصود بالحرية عند «زكى نجيب محمود» وما معناها؟
يمكن القول إن اهتمام «زكى نجيب محمود» بـ«مشكلة الحرية» ينطوى على جانبين: جانب سلبى، وآخر إيجابى، الجانب السلبى هو: الجانب الخاص بالتحرر من القيود التى تكبلنا من الخارج، «كالتحرر من الاحتلال البريطانى، وتحرر المرأة من طغيان الرجل، وتحرر العامل الزراعى من استبداد مالك الأرض، وتحرر العامل الصناعى من تحكم صاحب رأس المال.. وهكذا»، وقد أعطى صورًا من التاريخ المصرى الحديث ليتعقب من خلالها فكرة «الحرية»، صورتها ومفهومها، يقول: «سأتحدث عن مصر لأن حقائق التاريخ المصرى فى هذه الفترة أوضح لى منها فى أى جزء آخر من الوطن العربى، وقد يكون الفرق بين جزء وآخر من أجزاء الوطن العربى هو وعى ضرورة التحرر والإفصاح عن ذلك الوعى».
بدأت البذور الأولى لقضية «الحرية» من الناحية الفكرية عند «الطهطاوى»، إثر عودته من باريس، وتأثره بما رآه هناك من حريات لم يكن عرفها فى مصر، لا قبل أن يسافر منها إلى باريس ولا عقب عودته إليها. ويظهر اهتمامه بـ«الحرية» وحرصه على الدعوة إليها فى كتابه «المرشد الأمين للبنات والبنين»؛ يقول فى الفصل المعنون بـ«فى الحرية العمومية والتسوية بين أهالى الجمعية»: «حقوق جميع أهالى المملكة المتمدنة ترجع إلى الحرية، فتتصف المملكة بالنسبة للهيئة الاجتماعية بأنها مملكة متحصلة على حريتها، ويتصف كل فرد من أفراد هذه الهيئة بأنه حر، يباح له أن ينتقل من دار إلى دار، ومن جهة إلى جهة، بدون مضايقة مضايق ولا إكراه مكره، وأن يتصرف كما يشاء فى نفسه ووقته وشغله، فلا يمنعه من ذلك إلا المانع المحدود بالشرع أو السياسة، مما تستدعيه أصول مملكته العادلة. ومن حقوق الحرية الأهلية ألا يُجْبَر الإنسان على أن يُنْفَى من بلده، أو يُعاقَب فيها، إلا بحكم شرعى أو سياسى مطابق لأصول مملكته». وفى هذا الفصل أيضًا يقسم «الطهطاوى» «الحرية» خمسة أقسام: حرية طبيعية: هى التى خلقت مع الإنسان، وانطبع عليها، كالأكل والشرب وما إليها، وحرية سلوكية: هى حسن السلوك ومكارم الأخلاق، وهى الوصف اللازم لكل فرد من أفراد الجمعية. وحرية دينية: تكفل حرية العقيدة والرأى والمذهب، شريطة ألا يتعارض هذا مع أصل الدين، وحرية مدنية: تنظم التعامل مع الناس، وحرية سياسية: معناها أن تكفل الدولة لكل مواطن أن يتمتع بالحريات السابقة. 
وواضح من الحريات المذكورة أنها لم تجعل الحرية السياسية شاملة لمشاركة الشعب فى الحكم، فذاك أمل بعيد المنال عند «الطهطاوى»، لكنها تتضمن فكرة «المساواة» فهى تنصرف إلى جميع المواطنين على حد سواء، بمعنى أنه لم يفرق فى تلك الحريات بين رجل وامرأة، ومن ثمَّ يمكن اعتباره أول من دعا إلى «حرية المرأة» دعوة بلغت ذروتها عند قاسم أمين، كما أنه كان أول مَنْ بشَّر بالديمقراطية السياسية التى صاغها فيما بعد «أحمد لطفى السيد»، عندما قال: «حريتنا هى نحن، هى ذاتنا ومقوم ذاتنا، هى معنى أن الإنسان إنسان، إن حريتنا ما هى إلا وجودنا، وما وجودنا إلا الحرية». «الحرية غرض الإنسان فى الحياة، كانت ولا تزال هواه الذى طالما قدم له القرابين، وأنفق فى سبيله أعز شىء عليه، ولئن وصفنا ما وصفنا من شوق الإنسان إلى الحرية، فلا نبلغ من إثباته ما بلغته الحوادث الحسية التى تقع من الأفراد والأمم، دالة على أن الحرية هى الحياة، بل أعز من الحياة»، وجاء «جمال الدين الأفغانى» (١٨٣٨-١٨٩٧) واضطلع بدوره على الضوء الذى ألقاه «الطهطاوى» من قبله، لكنه ارتفع بفكرة «الحرية» على المستوى الأول نفسه، عندما نقل الولاء للحاكم الذى افترضه «الطهطاوى» ليجعله ولاء للشعب.
وهكذا اشتدت الإرهاصات الفكرية فى المرحلة الأولى، حتى تمخضت آخر الأمر عن ثورة «عرابى» عام ١٨٨٢، التى كانت أول ثورة رفعت شعار مصر للمصريين، لكن «عرابى» لم يستطع أن يطالب بالحرية إلا فى نطاق ضيق يزيد قليلًا عما كان يطالب به «الطهطاوى»؛ فيطلب لنفسه أو لشعبه «الحرية» التى تخلصه من الحكم الأجنبى بكل شروره، على أن الثورة العرابية نجم عنها الاحتلال البريطانى فنشأت مرحلة جديدة تطالب بالحرية من المستعمر البريطانى المحتل، هذه المرحلة أخذت تتضخم وتتسع حتى امتلأت بها العقول والنفوس والقلوب؛ ثم جاءت الحرب العالمية الأولى وشبت ثورة تطالب بزوال المحتل عن أرض مصر، فكانت ثورة «سعد زغلول» عام ١٩١٩، التى طالبت بـ«الحرية» بل حققت جزءًا منها، لكن «الحرية» التى كانت مطلبًا لـ«سعد زغلول» ورفاقه لم تتجاوز «الحرية السياسية».
إلا أن المرحلة التى تلت أخذت تدرك شيئًا فشيئًا أن تلك المرحلة السياسية لم تكن كافية ليشعر المصرى بما يريده لنفسه فى حياته. فتفجرت عندئذٍ جداول وروافد عدة فى كل مناحى الحياة تطالب لنفسها بحرية من نوع ما، فمثلًا يناضل «محمد عبده» ليحرر حياتنا الدينية مما علق بها من خرافة، ولينجو بعقول الناس من الجهل، ويدعو «قاسم أمين» إلى تحرير النصف المستعبد من الأمة، أعنى المستعبد مرتين: فهو مستعبد للرجل أولًا، ثم هو والرجل مستعبدان معًا للمستعمر. و«مصطفى كامل» (١٨٧٤-١٩٠٨) وزعامته السياسية نحو تحرير البلاد من المستعمر، و«لطفى السيد» وإصراره على تقيد الحكومة من سلطانها، بحيث لا تسيطر إلا على ما تدعو الضرورة إلى سيطرتها عليه، وهو ثلاثة: الجيش والشرطة والقضاء، وفيما عدا ذلك فالولاية للأفراد والمجاميع الحرة. هذا فضلًا عما سعى إليه «لطفى السيد» من تطوير التعليم الذى أراد له أن يكون تنمية للحرية الفكرية بعد أن كان منحصرًا فى إعداد الموظفين للحكومة. وكذلك أيد دعوة «قاسم أمين» فى «حرية المرأة»، لكنه قفز بالمعنى المقصود قفزة عالية، فبعد أن كانت «حرية المرأة» عند «قاسم أمين» تعنى أن تكشف المرأة عن وجهها برفع الحجاب، أصبحت عند «لطفى السيد» تعنى حق المرأة فى التعليم حقًا مساويًا لحق الرجل فيه.
من هنا أخذت تنمو هذه المطالب نحو حرية أوسع وقامت الحرب العالمية الثانية وانتهت، فاشتدت الحركة نحو المطالبة بالحرية. ثم شاء الله، كما يقول «زكى نجيب محمود»، للأمة العربية كلها أن يتدخل عنصر مفاجئ، وهو قيام إسرائيل عام ١٩٤٨ فأصبحت المطالبة بالحرية، فى هذا الموقف الجديد، أوسع وأكثر تعقيدًا. وقامت ثورة ١٩٥٢ لتطالب بحرية جديدة تضاف إلى الحرية السياسية التى ظفرنا بها عام ١٩١٩ وهى «الحرية الاجتماعية». وإذا كانت الثورتان السابقتان قد دعتا إلى «التحرر» من قيود مختلفة، فقد جاءت ثورة ١٩٥٢ لتدعو إلى «الحرية»، والفرق بعيد بين «التحرر» و«الحرية»؛ فالتحرر هو تحطيم القيود والحرية هى العمل الإيجابى الحر الذى يضطلع به من تحطمت قيوده.