الأربعاء 01 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

حرية المرأة المصرية عند زكي نجيب محمود «1»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
شغلت مشكلة «الحرية» اهتمام «زكى نجيب محمود» منذ مطلع شبابه، واستمر طيلة حياته داعيًا لها، مؤمنًا بها، مدافعًا عنها. وليست ثمة مبالغة إذا قلنا إننا لا نكاد نجد مؤلفًا من مؤلفاته إلا ويتعرض فيه لهذه المشكلة، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وجانب من دعوته إلى «الحرية»، يتمثل فى حرصه على تقديم صورة للإنسان العربى الجديد، صورة يظهر فيها حرًا معتزًا برأيه وبالطريقة التى يختارها لحياته، حتى تتحقق له الكرامة والقداسة اللتان من شأنهما أن تدفعاه إلى الأمام فى شوط الحضارة، وهذا هدف نبيل من جملة الأهداف النبيلة التى كان يسعى إلى تحقيقها «زكى نجيب محمود» ويدخل فى إطار نزعته التنويرية، يقول: «ما زلت حتى هذه اللحظة أؤمن إيمانًا راسخًا بأن الإنسان كائن مريد حر فى اختيار ما يريده، وأنه – دون سائر الكائنات – ليس حصيلة سلبية للعناصر الخارجية المحيطة به، بل هو مبدع خلاق يأتى بالجديد الذى يضيف إلى الوجود خلقا جديدًا، يكون له فضله، وعليه تبعته»، ويقول فى موضع آخر: «الإنسان هو وحده دون سائر الكائنات جميعًا، قد كُتِبَ له – أو كُتِبَ عليه – أن تُوضع الأمانة الكبرى بين يديه – أمانة الحرية – وعليه تقع التبعة بعد ذلك، ولو سُلِبَ واحد من الناس هذه الأمانة التى وكلت إلى نوعه، لارتد من فوره «شيئًا» من الأشياء بعد أن كان إنسانًا». وإذا نظرنا إلى تطور موقفه الفكرى من قضايا العصر، والاتجاهات الفكرية العامة التى يؤيدها، والمفاهيم التى يدعو لها، لوجدنا أنه يفرد لمرحلة الدعوة إلى «الحرية» قسمًا خاصًا، وينظر إليها على أنها مرحلة متداخلة مع مرحلة «النقدية التحليلية» و«المرحلة الوضعية»، بل ومواكبة لهما، وهى فى الوقت نفسه مرحلة ممهدة للمرحلة الأخيرة الخاصة بتجديد الفكر العربى، وقد رأى أن حرية الإنسان وعقلانية النظر أساسان لا بد منهما فى شخصية المصرى الجديدة التى ننشدها له ليساير بها عصره، فهما على حد قوله «وسيلتان وهما كذلك هدفان، فها هنا لا اختلاف بين الوسائل وأهدافها. فوسيلتى فى الكتابة هى حرية التعبير وعقلانية الرؤية، وهدفى مما أكتبه هو أن أكون حرًا وأن أكون عاقلًا»، والمتعقب لمسار هذه القضية «الحرية» فى حياتنا كما يقول، لا يتعذر عليه أن يرى كيف أخذت هذه الفكرة تزداد مع الأيام فى تصورنا لها اتساعًا وعمقًا، «بحيث لو أردنا أن نرسم تخطيطًا يصور الأطوار التى اجتزناها فى طريقنا إلى «الحرية»، لجاء الرسم شبيهًا بالعمارة الإسلامية، التى كان كل طابق علوى من البناء فيها، يوسع من رقعته عن الطابق الذى تحته».
بدأت البذور الأولى لفكرة «الحرية» فى تاريخنا الحديث - كما رأى «زكى نجيب محمود» – عندما أصبح للمصريين حق الشورى فى أمور بلدهم، ثم جاء المحتل البريطانى، فأصبحت «الحرية» السياسية – بمعنى التحرر من المستعمر الأجنبى – هى الشغل الشاغل لأصحاب الرأى وحملة القلم، إلى أن عبثت بها النفوس، فتفجرت بثورة ١٩١٩، ثم لم نلبث أن أخذنا نسمع دعوة فى إثر دعوة لضروب أخرى من «الحرية»، غير مجرد التحرر من المستعمر، كـ«حرية الاقتصاد الوطنى»، و«حرية المرأة»، و«حرية الفنان والأديب»، وهكذا أخذ تيار الحريات يتصاعد قوة وتنوعًا، إلى أن جاءت ثورة ١٩٥٢، ففتحت أبوابًا واسعة لحريات أخرى اجتماعية، نحن هنا أمام صور شتى متنوعة من الحريات أثارها «زكى نجيب محمود» وقام بتحليلها، حيث رأى أن «تاريخنا الفكرى الحديث والمعاصر، ليس إلا سلسلة من جهود بُذلت للمطالبة بالحريات المختلفة، كمًا وكيفًا، فكلما حقق الناس جانبًا من جوانب «الحرية»، أو تحقق لهم نوع من أنواعها... طالب قادة الفكر بجانب آخر، وبقدر أكبر مما قد ظفر به المواطنون».
وهذا البحث يلقى الضوء على جانب من جوانب «الحرية» التى دعا إليها «زكى نجيب محمود»، وهو الجانب الخاص بـ«حرية المرأة»، تلك الفكرة التى اهتم بها كثير من المفكرين التنويريين منذ فجر نهضتنا الحديثة، فمع نهاية القرن التاسع عشر، خاصة بعد عودة المبتعثين المصريين من فرنسا وعلى رأسهم «رفاعة الطهطاوى» «١٨٠١-١٨٧٣» ووعيهم بالفارق الشاسع بين الوضع الاجتماعى للمرأة المصرية مقارنة بالوضع الاجتماعى للمرأة الفرنسية والأوروبية، بدأ هؤلاء المفكرون ينادون بتحرير المرأة وحقها فى التعليم، وأخذ الإمام الشيخ «محمد عبده» «١٨٤٩-١٩٠٥» على عاتقه المناداة بحق تعليم الفتيات الصغيرات وإرسالهن إلى المدارس الابتدائية لتحصيل العلم أسوة بالصبيان، وسرعان ما وجدت دعوته صدى لدى كبار رجال الأمة المصرية فى ذلك العهد ابتداء بالزعيم الوطنى «سعد زغلول» «١٨٥٨-١٩٢٧» ومرورًا بكبار المفكرين ورجال الأدب والقانون أمثال «لطفى السيد» «١٨٧٢-١٩٦٣» و«طه حسين» «١٨٨٩-١٩٧٣»، و«قاسم أمين» «١٨٦٣-١٩٠٨»، وكان هذا الأخير أكثر المتحمسين لقضية تعليم الفتيات فى سبيل تحرير المرأة.
وسارت قضية تحرير المرأة بمحاذاة قضية تحرير الوطن، بل إن البعض غالى فى رسم الخط البيانى لتحرير المرأة وجعله موازيا تماما لخط نمو التيار الوطنى فى مصر وفى الأمة العربية والإسلامية، وجعل من هذه القضية الشرط الأساسى لتحرير الوطن من قيود الاستعمار الإنجليزى والفرنسى فى بداية القرن العشرين. 
وما تزال قضية «حرية» المرأة – فى يومنا الراهن – قضية بالغة الأهمية، فالمرأة الجديدة لا بد وأن تسترجع إنجازاتها طوال قرن من الزمان، وتأخذ من صيغ الماضى وصيغ الحاضر – فى فعل تحررها المتجدد – ما يسهم بالإيجاب فى صياغة رؤيتها المستقبلية، أصبحت المرأة، كما يقول «زكى نجيب محمود»، «طبيبة ومهندسة ومحاسبة ومدرسة فى مختلف مدارج التعليم من المدارس الأولية فصاعدا إلى كراسى الأستاذية فى الجامعات، أصبحت المرأة عالمة فى معامل الفيزياء النووية، وكيميائية أمام مخابير التركيب والتحليل، وقانونية وممثلة للشعب فى مجالس النواب، ووزيرة مع الوزراء فى قيادة أمتها».
وعلى الرغم من القيمة الكبرى المترتبة على مساواة المرأة بالرجل، فإنها – كما رأى «زكى نجيب محمود» – لم تتقدم خطوة عن نضالها الماضى، وهذا ما دعاه بالفعل إلى أن يقول: «إن امرأة عصرنا لتجد نفسها فى أزمة حادة، نلمسها فى كل من نعرفهن من ذوات القربى ومن الزميلات فى مجال العلم والعمل، لأنها تجد نفسها مشدودة بين قطبين نقيضين، فمن هنا تقاليد تضعها موضعا لم يعد يصلح لها، ومن هناك مشاركة فى نشاط العصر وثقافته تجذبها جذبا إلى أن تقف مع الرجل الزوج والأخ والزميل فى صف واحد، فأين عساها أن تجد منافذ الخلاص؟».