الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بروفايل

السيد ياسين.. صقر مصري في سماء الفكر

 السيد ياسين
السيد ياسين
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
وسط دعوات صادقة للجماعة الثقافية المصرية بأن يتجاوز السيد ياسين محنة المرض، فإن اسم هذا المثقف الكبير حاضر دوما ليُلهم الأجيال بأمثلة نبيلة لمعنى المثقف المرتبط عضويا بنبض أمته، وهموم وأشواق جماهير شعبه، وقصة خالدة في الوجدان العام "لصقر مصري في سماء الفكر".
ولد السيد ياسين في الثلاثين من أكتوبر عام 1919، وتخرج في كلية الحقوق بجامعة الإٍسكندرية، حيث المدينة التي ولد بها لينضم لفريق الباحثين في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية الذي قضى فيه 18 عامًا حتى ودعه عام 1975، عندما أصبح مديرا لمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام.
ولعل عناوين مؤلفاته تكشف للوهلة الأولى عن تنوع اهتماماته الثقافية الجامعة ما بين الفلسفة والقانون الجنائي والاجتماع وعلم النفس والأدب مثل: "أسس البحث الاجتماعي و"دراسات في السلوك الإجرامي" و"السياسة الجنائية المعاصرة" و"دراسات في علم الاجتماع القانوني و"مصر بين الأزمة والنهضة" و"تحليل مفهوم الفكر القومي" و"الوعي التاريخي والثورة الكونية".
والسيد ياسين المولع بالفلسفة والعاشق لمتونها التأسيسية هو الذي قال: "كان كتاب الفيلسوف هوايتهيد الشهير، مغامرات فكرية صاحب الأثر الأكبر في حياتي، كما اكتشفت مكتبة علم النفس التكاملي التي كان يُشرف عليها أستاذنا يوسف مراد، ودخلت مجال علم النفس من أوسع أبوابه".
ولئن امتدت هذه الفترة من عام 1946 حتى عام 1952 فقد تلمس فيها السيد ياسين أيضًا طريقه داخل عالم الشعر، حيث يقول: كنت بالغ الإعجاب بالشاعر الرهيب تي.اس.اليوت، وبدأت أولى تجاربي في كتابة الشعر والقصة القصيرة".
ومن حق تلاميذ ومريدي هذا المفكر المصري الكبير أن يتحدثوا بزهو عن تتلمذهم على يد السيد ياسين، وهو الذي يستدعي اسمه عديد الصفات والمجازات الفخيمة، كما يقول الباحث المرموق والكاتب في جريدة الأهرام نبيل عبدالفتاح ليصفه بحق بأنه "الرجل الكبير المكانة والمقام، وعظيم المعرفة ومستقيم السلوك، ونزيه المقصد، ويعيش من كد يده، وذوب عقله وإبداعه البحثي والثقافي".
ومن بين هذه الصفات التي أوردها نبيل عبدالفتاح في سياق الحديث عن السيد ياسين كمثقف كبير وصاحب ضمير وطني يقظ وحس عدالي اجتماعي، يقول: "عالم الاجتماع الأبرز ورائد علم الاجتماع القانوني وأول منظري علم الاجتماع الأدبي والباحث الاستراتيجي الكبير مكانة وقامة، ومؤسس مدرسة مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام".
كما وصفه الكاتب نبيل عبدالفتاح بأنه "واحد من السلسلة الذهبية للعقول المصرية العظمى، منوها بأن السيد ياسين جعل من مركز الأهرام للدراسات "مدرسة وطنية وبيئة للتعلم ودائرة للحوار في ظل حضوره الطاغي وفكره المتألق وروحه المشعة بالأخوة والشفافية، ونزوعه إلى الحرية والديمقراطية الأكاديمية.
وها هى تلميذة أخرى من تلاميذه النجباء في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية ألا وهى الدكتورة هالة مصطفى تقول عنه: إن السيد ياسين هو صاحب الإنتاج العلمي الغزير الذي يمزج في كتاباته بين العلوم الاجتماعية والسياسة والفلسفة، وهو ابن الطبقة الوسطى، العالم الجليل والمعلم الذي لا يتكرر لأجيال من الباحثين والأكاديميين".
ومع أن السيد ياسين انتمى مبكرا لتيار اليسار، فإنه- كما تؤكد الدكتورة هالة مصطفى- لم يسع يومًا لفرض أيديولوجيته أو فكره على أحد، فظل لكل باحث ممن يعملون معه شخصيته المستقلة، مضيفة أن هذا المثقف المصري الكبير "لم يحرص إلا على الالتزام بأصول البحث العلمي، ثم بعد ذلك يكون التفكير الحر والاختيار الفردي، وهما معياران يؤديان تلقائيًّا إلى الإبداع والتميز".
وفي الواقع المصري، كان المفكر والباحث المرموق السيد ياسين مدركا لأهمية المتغيرات، وهو يعرض في صيف عام 2014 لورقة العمل التي اقترحها للسياسة الثقافية لمصر والتي جاء فيها: "من الملاحظات المهمة فيما يتعلق بالتغيرات الكبرى التي حدثت للمجتمع المصري بعد ثورة 25 يناير ظهور أزمة حادة في مجال القيم".
وأزمة القيم كما نظر لها السيد ياسين تدعو إلى أن يكون "تجديد القيم المصرية هدفا أساسيا من أهداف السياسة الثقافية"، مؤكدا أهمية التركيز على ترسيخ قواعد الحوار الديمقراطي واحترام الاختلاف في ضوء احترام مبدأ التعددية وإعلاء قيمة النقد الذاتي، وتجسير الفجوة بين النظر والعمل.
وهذه الأزمة على حد قوله: "سبق لعلم الاجتماع العالمي أن درسها وأطلق عليها ظاهرة اختلال القيم بمعنى عجز أفراد المجتمع عن التمييز بين السلوك المشروع والسلوك غير المشروع" وترجع جذورها في قراءته التحليلية لخريطة المجتمع المصري بعد ثورة 25 يناير من الخلط بين الشرعية الثورية والشرعية الديمقراطية.
وعندما حصل السيد ياسين على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام 1996، أكد أن المجتمع المصري غير مستعد بالقدر الكافي للتغيرات العالمية "نتيجة تكلس النخب الثقافية والسياسية وعجزها عن المتابعة المنهجية للتحولات العالمية".
ومن هنا يقع على عاتق الدولة- كما يقول- أن تساعد المجتمع بمختلف الوسائل التعليمية والثقافية والإعلامية لكي يرتقي وعي الطبقات الاجتماعية المختلفة، وتكون قادرة على تحقيق النهضة المرجوة والعبور للمستقبل، واستعادة العافية الثقافية.
ناهيك عن أن تحول الثقافة لفضاء إبداعي وكذلك تحقيق العدالة الثقافية، كلها مسائل لن تكون دون حضور واجب وعادل للشباب والدفع بأجيال جديدة من المبدعين في سياق طبيعي وسوي بعيدا عن افتراض يفتقر للسوية، وفحواه أن تمكين الشباب شرطه الجوهري إقصاء الكبار!
وفي الحياة الثقافية المصرية كانت ظاهرة "صراع الأجيال" قد تجلت لتلقي بظلالها على الحوار بشأن ورقة العمل المقترحة للسياسة الثقافية لمصر وبدت هذه الظاهرة التي قد تحجب للأسف أسئلة وقضايا أكثر أهمية بشأن السياسة الثقافية المقترحة واضحة في كثير من معالجات وآراء منشورة، حيث تعرض الباحث الكبير الأستاذ السيد ياسين منذ الإعلان عن تكليفه من جانب المجلس الأعلى للثقافة بإعداد ورقة عمل مقترحة للسياسة الثقافية لكثير من الهجوم لا لشيء سوى لعامل السن أو الفئة العمرية التي ينتمي لها!
وفيما لم يتورع بعض من شنوا هذا الهجوم عن وصف قامة ثقافية في حجم السيد ياسين بأنه "رجل الماضي الذي أنهكه السن والمرض"، مبدين استغرابا لتكليفه بوضع خطة للمستقبل الثقافي فإن هذه الرؤية التسطيحية والقاصرة حتى معرفيا لم تتح لأصحابها فرصة معرفة أن بعض أعظم وأشهر من خططوا للمستقبل بل وأطلقوا أفكارا فجرت لثورات غيرت الإنسانية كلها كانوا ينتمون لفئات عمرية تجاوزت سن الشباب!
ولعل مناقب وصفات السيد ياسين ومن بينها روح الدعابة كفيلة بالرد على مثل تلك المقولات المتشنجة، وهو الذي يتفق تلاميذه على تمتعه بالحس الساخر الذي يتجاوز به الأزمات ويهونها على الآخرين، فيما لا يجوز أيضا لأحد أن ينسى في خضم الترويج لصراع الأجيال والتستر وراء شعارات ثورية أن الثورة الشعبية المصرية كانت "ثورة عابرة للأجيال" ولم تكن في موجتيها بأي حال من الأحوال حكرا على جيل بعينه.
وواقع الحال فإن الأستاذ السيد ياسين كان مدركا لهذه القضية وهو يعرض لورقة العمل التي اقترحها للسياسة الثقافية لمصر والتي جاء فيها: "من الملاحظات المهمة فيما يتعلق بالتغيرات الكبرى التي حدثت في مصر للمجتمع بعد ثورة 25 يناير ظهور أزمة حادة في مجال القيم".
ومن مظاهر أزمة القيم، كما رصدها السيد ياسين في ورقته: "نسف التراتبية الاجتماعية بمعنى عدم الاعتراف بالمديرين والرؤساء وشرعية الانقلاب عليهم ومحاصرتهم في مكاتبهم والدعوة لفصلهم أو تغييرهم، بعبارة مختصرة عدم الاعتراف بالمكانات الإدارية والاجتماعية بزعم أن هذه من أخلاقيات الماضي".
وأضاف "ومن المظاهر الحادة للأزمة محاولة نفي الأجيال القديمة باعتبار أن أوانها قد انقضى ولعل شعار تسقط دولة العواجيز تعبر عن هذا الاتجاه خير تعبير" متابعًا: "ومعنى ذلك أن النشطاء السياسيين- ربما بغير وعي منهم- يدعون إلى صراع مفتوح بين الأجيال بدلا من أن يقيموا حوارًا فعالا بين الأجيال تنقل فيه الخبرة بهدوء وسلاسة من الأجيال القديمة للأجيال الشابة".
وفيما اقترح الأستاذ السيد ياسين على وزارة الثقافة إعادة طبع كتاب لمفكر مصري آخر وهو الدكتور حسن حنفي وعنوانه "حوار الأجيال" فقد أشار لمؤشرات متعددة لأزمة القيم ومن بينها الخلط بين الثورة والفوضى.
والسيد ياسين أبدى اهتماما واضحا بالشباب في ورقته البحثية للسياسة الثقافية التي تقوم على أساس "التنمية الثقافية القاعدية"، كما أن الرجل طرح ورقته للنقاش وتوقع أن تكون الملاحظات النقدية التي ستوجه لها "أساسية في إعادة صياغتها لتكون أساسا للمناقشة في المجلس الأعلى للثقافة".
ولعلها كلمات دالة في هذا السياق تلك التي قالها نبيل عبدالفتاح في جريدة الأهرام عندما نوه بأن السيد ياسين كواحد من أبرز المثقفين العرب في النصف الثاني من القرن العشرين هو "مكتشف المواهب والإمكانيات والتصورات الواعدة لدى الأجيال الجديدة الشابة القابلة للصقل والتطوير وهو القادر دائما كأستاذ على تعليمها وتطوير مهاراتها".
لكن تمكين الشباب كأصحاب حق في المستقبل يختلف عما يتصوره البعض من إقصاء لأجيال أكبر من المشهد وبصرف النظر عن مسألة الخبرات والكفاءات، وعلى سبيل المثال فإن صاحب الورقة المقترحة للسياسة الثقافية لمصر له خبراته الثمينة سواء في العمل البحثي بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية أو مركز الدراسات الاستراتيجية بمؤسسة الأهرام إلى جانب خبراته في التدريس الجامعي.
ولا ريب أن الإسراف في قضية صراع الأجيال أمر يتنافى مع منطق الديمقراطية والعدالة بقدر ما يقترب من العنصرية المقيتة ومنطق الإقصاء الفاشي والذهنية العقابية، وإن كان بالوسع فهم هذه الظاهرة كرد فعل لحالة انسداد الأفق وتوقف الحراك الطبيعي للأجيال التي عانت منها مصر من قبل على مدى عقود.
وفيما يعد كتابه "أسس البحث الاجتماعي أول مؤلفاته بالاشتراك مع الأستاذ الدكتور جمال زكي قام السيد ياسين منذ سنوات بعيدة بتدريس مادة مناهج البحث في كلية الإعلام بجامعة القاهرة على مستوى البكالوريوس والماجستير.
وامتدت خبرات السيد ياسين في التدريس الجامعي بعد ذلك للجامعة الأمريكية، حيث قام بتدريس مادة الاجتماع لسنوات طويلة يقول عنها إنها "أكدت له أهمية التفاعل مع أجيال الشباب" مضيفا: "أستطيع القول إنني تعلمت كثيرا من حواراتي مع هذه الأجيال الشابة لأنني لم أكن أدرس بالطريقة التقليدية ولكنني كنت أفسح مجالا واسعا أمام الطلبة للمناقشة والتعليق حتى لو اختلفوا مع ما أطرحه من نظريات وأفكار".
ويرى الأستاذ السيد ياسين أن بمقدور الشباب إثبات ذاتهم "لو مارسوا التجدد المعرفي باعتبار أن أحد شعارات القرن الحادي والعشرين هو التعليم المستمر، بالإضافة إلى التدريب واكتساب الخبرة التي تؤهلهم لشغل الوظائف القيادية وأهم من ذلك كله متابعة التحولات العالمية وفهم منطقها الكامن، وتكوين رؤى مستقبلية مبدعة تقوم على العلم والخيال معا لحل مشكلات مصر".
ولن يختلف كثير من المثقفين المصريين على أن الوقت قد حان لحراك الأجيال وانتقال الشباب لمواقع المسئولية على قاعدة الكفاءة والجدارة في كل المجالات بما فيها العمل الثقافي دون أن يعني ذلك أبدا "قتل الأب" وتحويل القضية لصراع أجيال ونسف ثوابت وإهانة قيم أو إهدار الرموز وقذف الكبار بالحجارة، وفيهم من دعا دوما لتمكين الشباب ووضع أحلى سنوات عمره في خدمة الوطن وتحت علم مصر ومن أبرزهم السيد ياسين المهموم دوما بالسؤال الكبير: مصر والمصريون إلى أين؟!.
ومن هنا اتفق السيد ياسين مع دعوة كان عميد الصحافة المصرية والعربية محمد حسنين هيكل قد أطلقها قبل رحيله منذ أكثر من عام حول الحاجة "لثورة ثقافية مفرداتها تقديم صحيح الدين وصحيح التاريخ وصحيح العلم".
وهو ما استدعى تعليقا من جانب المفكر السيد ياسين الذي اعتبر"أننا بحاجة ملحة لثورة ثقافية ترسخ جذور الدولة الحديثة والمواطنة وتقضي على منابع التطرف واتجاهات الإرهاب، مضيفا أن الأستاذ محمد حسنين هيكل في تحديده لملامح الثورة الثقافية المثلثة الأبعاد والتي تقتضي ترسيخ قيم صحيح الدين وصحيح التاريخ وصحيح العلم حدد بذلك محاور أساسية يمكن أن تقوم عليها النهضة المصرية الجديدة.
وفي المقابل لن تنسى الذاكرة الثقافية والصحفية أن محمد حسنين هيكل هو الذي حرص على حضور ندوة بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام عام 1973 لمناقشة بحث أعده السيد ياسين بعنوان: "الشخصية العربية بين صورة الذات ومفهوم الآخر" فيما يبدو أن التواصل الثقافي بين هيكل وياسين كان بالغ القوة والتوهج على مدى سنوات طويلة.
وفي العرس الثقافي المصري أو معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي أقيم تحت شعار "الشباب وثقافة المستقبل" واختتم في العاشر من فبراير الماضي كان كتاب "الزمان التنموي والتحديث الحضاري" للمفكر السيد ياسين علامة ظاهرة من علامات اهتمام واضح بالفكر التنموي سواء على مستوى مصر أو على المستوى العربي ككل.
وهذا الكتاب الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة يوضح أن "الزمان التنموي" يعني إدراك كل دول العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أنه مادام عصر الحروب الكبرى قد انتهى فلا بد من تدشين عصر جديد شعاره الأساسي"التنمية".
والتنمية كما يضيف السيد ياسين في كتابه تعني "تنمية المؤسسات القادرة على إشباع الحاجات الأساسية للمواطنين ورفع مستوى معيشة الطبقات المختلفة" معيدا للأذهان أن "دولة الرعاية الاجتماعية" كمفهوم في مجتمعات رأسمالية غربية يعني أن الدولة مسئولة عن توفير فرص عمل كما باتت "التنمية المستدامة مسؤولية الدولة المعاصرة".
وإذا كان الشعار العقلاني في المرحلة الراهنة بأوروبا: "دعم النمو" بكل السبل فإننا بحاجة للشعار ذاته من أجل مستقبل أفضل لأجيال شابة وصاعدة كما أننا بحاجة لثقافة إيجابية تتوافق مع ما يسميه السيد ياسين "بالدولة التنموية" التي ولدت مفاهيمها الجديدة بعد ثورة 30 يونيو 2013.
وأوضح الكاتب والمفكر السيد ياسين أن النظام السياسي الجديد الذي انبثق عن ثورة 30 يونيو 2013 يعيد في الواقع صياغة دور الدولة ويفسح الطريق واسعا وعريضا لعودة "الدولة التنموية" التي رسختها ثورة 23 يوليو 1952 باعتبار أن مهمتها الرئيسية هى "التنمية الشاملة من خلال القيام بمشروعات قومية كبرى".
ولعل الإنجازات المشهودة التي يحققها المصريون ومن بينها الخطوات الحاسمة للقضاء على إشكالية العشوائيات تؤشر إلى أن مصر تسير بثبات وعزم وخطى واثقة نحو ما يصفه المفكر والكاتب الكبير السيد ياسين بنموذج "الدولة التنموية".
وكان السيد ياسين قد رد على المشككين في إنجازات المصريين والسير في اتجاه "الدولة التنموية" بعد ثورة 30 يونيو بقوله:" هناك سؤال بسيط أود طرحه في هذا الشأن: ماذا عن مشاريع الإسكان الاجتماعي آلا يلمسون حجم الإنجاز فيها خاصة وأن الإسكان جزء أصيل من برنامج العدالة الاجتماعية والتي تعتبر حسب توصيف علماء الاجتماع هى توسيع فرص الحياة".
وإذ يوضح السيد ياسين أن "انتشال سكان من عشوائيتهم وتسكينهم في وحدات سكنية كريمة من صميم العدالة الاجتماعية" فإن هذا المثقف الكبير يلفت إلى أنه "يجب أن تكون هناك نظرة موضوعية وإيجابية لما يتم إنجازه في ظروف بالغة الصعوبة وفي مرحلة تاريخية وفارقة تمر بها البلاد".
ومفهوم الدولة التنموية كما يقول السيد ياسين مستقر في التراث العلمي الاجتماعي منذ عام 1982 وقدم الحل لسقوط الرأسمالية التقليدية عندما نشر عالم السياسة الأمريكي كالمرز جونسون كتابه عن "الميتي" وهو اسم مختصر لوزارة يابانية متخصصة في التنمية الاقتصادية.
ومنذ هذا التاريخ لم ينقطع الجدل العلمي حول "الدولة التنموية" التي اعتبر كالمرز جونسون اليابان نموذجا مثاليا لها بينما يقول الأستاذ السيد ياسين: إن تعريف الدولة التنموية في أدبيات الاقتصاد السياسي تشير إلى "ظاهرة الدولة التي تقود التخطيط الاقتصادي على المستوى الكلي".
غير أن التنمية بغير التحديث الحضاري "طريق مسدود" كما يقول المفكر السيد ياسين فيما يشدد على أهمية التحديث الحضاري لمؤسسات المجتمع الأساسية وأهمها النظام التعليمي حتى يتفق مع المعارف العلمية الجديدة والمستحدثات التكنولوجية.
وفيما تبدو الشهية الثقافية للسيد ياسين مفتوحة دوما بصورة مدهشة لكل جديد أعاد الكاتب والباحث نبيل عبدالفتاح للأذهان أن السيد ياسين لم يقتصر فقط على التنظير في مناهج البحث ومقارباته واستراتيجياته في مجال العلوم الاجتماعية "وإنما كان يتابع بدقة منهجية دؤوب وصارمة كل التغيرات والتحولات في المناهج حتى الألسنية وما بعدها وفي النظم السياسية المقارنة وفي العلاقات الدولية وفي التحليل الثقافي والحداثة وما بعدها وما بعد بعدها وفي العولمة وما بعدها".
وأضاف أنه "كبيرنا الذي دربنا وعلمنا أهمية المنهج ودقة المفاهيم وصرامة استخدام المصلحات والدرس التاريخي المقارن والجذور السوسيوثقافية للظواهر والمشكلات والأزمات والإشكاليات موضوع البحث أيا كان".
والسيد ياسين بحق كما يقول عنه تلميذه الوفي نبيل عبدالفتاح هو الباحث الأكبر المنقب في دخائل موضوعاته وصولا لأحدث المقاربات والنظريات والتطبيقات والمصلحات وهو شيخ المجددين في الرؤى والنظرات والكتابات وأحد المبصرين العظام للآتي والمبشرين بالمستقبل".
وهكذا لم يكن من الغريب أن تشكل "شبكة الانترنت" عاملا رئيسا في تناول السيد ياسين لقضايا التنمية في العصر الرقمي وآفاق المستقبل فيما يصف هذا العالم والمثقف العظيم هذه الشبكة بأنها ترمز لقيام فضاء عام لأول مرة في تاريخ الإنسانية هو "الفضاء المعلوماتي"، معتبرا أنها "أحدثت انقلابا في الحياة الإنسانية المعاصرة".
وتلاحظ تلميذته الدكتورة هالة مصطفى أن السيد ياسين "رغم أنه قارئ من الدرجة الأولى لم يكف عن التعلم وكان يحدثها طويلا في السنوات الأخيرة عن عالم الإنترنت وما بات يوفره من معلومات ومعرفة غير محدودة، مضيفة أنها أدركت أنه لم يفقد ميزة الاندهاش التي غالبا ما تغادر الشخص في مراحله العمرية المتقدمة".
ويوضح المفكر والكاتب الكبير السيد ياسين أن أهم أركان الثورة المعرفية المنشودة "تأسيس العقل النقدي الذي يطرح كل الظواهر الاجتماعية والثقافية للمساءلة وفق قواعد التفكير النقدي المسلم بها في علوم الفلسفة والمنطق "فيما تشتد الحاجة لتكوين العقل النقدي بعد "ثورة المعلومات.
وإذ تناول مثقف كبير في الغرب مثل كريس اندرسون في كتابه "صانعون: الثورة الصناعية الجديدة "مفهوم "الإنسان المشروع" أي ذلك الذي يحمل مشروعا هو في الحقيقة جزء من المشروع الكبير أو الحلم الجمعي لبلده و"يوتوبيا واقعية لا مكان فيها لعاطل" فإن السيد ياسين مهموم بدوره بالمستقبل ودور ومكانة بلاده في إطار المستقبل أو على تعبير الباحث نبيل عبدالفتاح "عينه على البعيد كونيا وعربيا ومصريا.
والثورة الصناعية الجديدة في تنظير كريس أندرسون تقوم على شبكة الإنترنت، وتعتمد تماما على مفاهيم العصر الرقمي و"معامل الابتكار" و"جسارة الخيال" مع توظيف التقنية الرقمية بما يتناسب مع مواهب كل فرد وميوله وقدراته وهى مفاهيم يجدها القارئ حاضرة أيضا في تنظيرات المثقف المصري الكبير السيد ياسين.
وكان السيد ياسين قد أوضح أن الدولة التنموية "تتميز بالتدخل القوي في مجال الاقتصاد، بالإضافة إلى سلطاتها الواسعة في مجال التنظيم والتخطيط" فيما ذهب إلى أن "النموذج الاقتصادي الرأسمالي الكلاسيكي سقط في الأزمة المالية التي ضربت الاقتصاد الأمريكي" عام 2008.
وإذا كان من الطبيعي أن يكون السؤال المطروح في العالم هو "ماذا بعد سقوط النموذج الرأسمالي التقليدي" فالإجابة التي يقدمها المفكر المصري السيد ياسين هى: "لا بد أن تتدخل الدولة اقتصاديا بشكل ما وبدرجة ما".
ولئن انطوت هذه الإجابة على سؤال جديد يثير حيرة علماء الاقتصاد في الغرب ويتعلق بمدى تدخل الدولة في الاقتصاد فإن السيد ياسين يرى أن مفهوم الدولة التنموية قد حل المشكلة من جذورها لأن هذه الدولة "ترسم في الواقع سلفا خريطة تنموية تحدد مجالات الاستثمار التي ترغب الدولة أن يشاركها القطاع الخاص فيها".
ويشدد هذا المفكر المصري على أنه على عكس ما قد تتهم به "الدولة التنموية" بأنها "دولة سلطوية" فإنها في الواقع إذا ما تجددت كل الأطراف السياسية من أحزاب ومؤسسات للمجتمع المدني ونخب سياسية وثقافية تصبح "دولة المشاركة الجماهيرية في مجال التنمية القومية".
في لحظة الألم جراء محنة المرض: دعوات صادقة بعاجل الشفاء وتحية لمثقف وطني مهموم بهموم شعبه.. تحية للسيد ياسين المفكر الذي أحدث ثورة في الثقافة المصرية والعربية.. تحية لصقر مصري يطير ويحلق في الاتجاهات كلها باحثا في سماء الفكر عن جديد الأفكار التي يمكن أن تجسد أحلام المصريين على الأرض الطيبة.