الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مؤشرات علمانية في الخلافة الإسلامية 2-1

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
هل للعلمانية جذر إسلامي؟ نستخدم مصطلح العلمانية هنا، لأنه الوحيد المتوافر الذى يوفر فهمًا مشتركًاحول الموضوع. 
من الواضح أن التساؤل عما إذا كان هناك جذر إسلامى للعلمانية ينطوى على فرضية ترى خطأ القول أن العلمانية بمعناها السياسى لم تعرف قبل التجربة التاريخية الحديثة للغرب، نتيجة لاستبداد مؤسسة الكنيسة بأمور الدولة هناك. ومن ثم إذا اعتمدنا مؤشر فصل الدين عن الدولة، وأهملنا مؤشرًا آخر هو حياد الدولة دينيا، وحاولنا البحث عنه فى تاريخ التجربة السياسية الإسلامية، فماذا نجد؟ سيقول مناهضو العلمانية إنك لن تجد دليلًا واحدًاعلى وجود أى درجة من درجات فصل للدين عن الدولة فى هذه التجربة. لنرى.
يميز ابن خلدون فى نظريته عن الدولة بين ثلاثة أنواع من الحكم يفصلها على النحو الآتى: الملك الطبيعى، وهو «حمل الجميع على مقتضى الغرض والشهوة». النوع الثانى هو «الملك السياسى، وهو حمل الجميع على مقتضى النظر العقلى فى جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار». والنوع الثالث الخلافة، وهى «حمل الجميع على مقتضى النظر الشرعى فى مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة..». بالتالى فهذه الخلافة، كما يقول ابن خلدون هى «فى الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع فى حراسة الدين وسياسة الدنيا به». لعل من الواضح أن الملك الطبيعى، بحسب ابن خلدون، هو أدنى هذه الأنواع فى الترتيب الأخلاقى والسياسى لأنه يعتمد على «حمل الجميع على مقتضى الغرض والشهوة». يعلوه فى الترتيب الملك السياسى من حيث إنه يستند إلى «حمل الجميع على مقتضى النظر العقلى». وتأتى الخلافة فى قمة هذا الترتيب من حيث إنها تقوم على «مقتضى النظر الشرعى» قبل أى شيء آخر. ومن الواضح أيضًا أن هذه الأنواع من الحكم لا يمكن وجود أى واحد منها فى شكل صاف، ومن دون تداخل على الأقل مع بعض من صفات النوعين الآخرين، خصوصًا فى التاريخ الإسلامى. وإذا ما عدنا إلى مؤشر فصل الدين عن الدولة، برز سؤال عن حجم وجود هذا المؤشر فى كل واحد منها. هل يمكن أن يكون الدين غائبًا تمامًا عن النوع الأول، مثلا؟ من حيث المبدأ ليس هناك ما يمنع من تبرير الغرض والشهوة باسم الدين، أو المصلحة العامة، أو ما يشابه ذلك. وتعتمد مساحة وجود الدين وحضوره فى مقتضى العقل تبعًا للمرحلة التاريخية والظروف الاجتماعية والسياسية السائدة، وهو ما تقتضيه مرونة العقل، وميله إلى مجاراة والأخذ بالأسباب، والمصالح أيضا. أما النوع الثالث «الخلافة» فهو يقتضى بالضرورة وجود الدين وأولويته، لأن هذا النموذج تعبير عن المصلحة العامة قبل كل شيء، لكنها مصلحة ترتبط فيها مصالح الآخرة بمصالح الدنيا. وهنا تتداخل الأمور بحكم الضرورة. بالتالى يبقى السؤال بالنسبة إلى هذا النموذج تحديدا: هل تختفى فيه معالم الغرض والشهوة تماما؟ وهل تتراجع فيه مقتضيات العقل أيضا؟ يستحيل تقريبًاأن تكون الإجابة عن مثل هذين السؤالين بالإيجاب إلا فى حالات استثنائية نادرة جدا.
لنأخذ مثالا كيفية الوصول إلى الحكم فى التجربة الإسلامية، ودرجة انفصال الدين عن الدولة فيه. فى دولة النبوة، نجد أدنى درجات الانفصال بين الاثنين لأن النبى محمد «ص» وصل إلى الحكم لاعتبارات دينية، وهى اعتبارات النبوة التى اقتضت توصيل الرسالة السماوية، والتأسيس لحكم إسلامى جديد لم تعرفه الجزيرة العربية من قبل. لكن النبى من بنى هاشم، وهؤلاء من بين أقوى عصبيات قريش. والحديث النبوى الشريف ينص على أنه «ما بعث الله نبيًا إلا فى منعة من قومه». والمنعة هى العصبية والشوكة، وهى اعتبار دنيوى اقتضته نواميس الحياة الدنيا التى وضعها الله لتستقيم فيها أمور الناس، وتتحقق مصالحهم. هنا نجد الانسجام، والتمايز فى الوقت ذاته، بين مقتضيات الدين وضرورات الدنيا فى هذه الحال.. وغدا نكمل
نقلا عن الحياة اللندنية