الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

ثوب فخيم ملطخ بدماء العدم

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
هى من أروع ما قرأت له، قصيدة «المُبادَلة»، لأستاذ «الأدب الإنجليزى» بكلية الألسن جامعة عين شمس، والمفكر اليسارى والناقد الحداثى والشاعر المجدد «طه سيف الله»، صاحب المدرسة «الأُّسْطورِية» الجديدة فى الأدب والشعر، منبع شمس خياله الساطعة، والمقدس الذى يغذى كل أشعارِه.
يقول الشاعر الاستثنائى: «تبادلنى ولك الفارق ؟» سألنى الخَصْمُ الجميل، مُستلقيًا كان على النَّمارِق، ما أحلى يا ابنَ أمى، أن نُعِدَّ معًا، أنا وعدوى القَتَّال، أخى وأنا، ساحَة المعركةِ للنزال، أُقَبِّلُكَ بذاتِ اليمين، وتَسْلُخُنى بذاتِ الشمال، «تبادلنى ولك الفارق ؟»، قد أقتُلُكَ لأجلِ الحكمة، أو تذبحنى بهدفِ اللقمة، نغتصبُ صفية، معًا نغتصب صفية، وما أدراك من صفية ؟! «تبادلنى ولك الفار ؟»، الألفُ والباءُ حبيبان، وكذلك الحاءُ مع الشين، والكافُ تلتحمُ بالسين، فى نسجِ اللغةِ العربية، ما أحلاكِ يا لُغةَ القرآن، «تبادلنى ولك الفارق؟»، كلاَّ، لا يَصِحُّ يا عُمرى، نَلْهو بالضَّفيرَة؟، قوانينُ اللُعبةِ لا أذكُرُها، عبثِيةٌ هى يا أميرة، فمَنْبعُ الخَصَلاتِ برأسك، ومَصبُّها برأسى الصغيرة، أيَصِحُّ يا عُمْرى، أيَصحُّ يا فِتْنَتى، أن نتزوج، وأنا بلا رجولة، وأنت بلا ضَفيرة؟! أيَصحُّ أن تصرُخى، وسط القبيلة دومًا، سائلةً، «تبادلنى ولك الفارق؟»، حبيبتى، سَلَّمتُ إليك الأوارق، ما بين الصدَّرِ ونَحرِك، أشتاقُ إليك أشتاق، وأنامُ بحُضْنك، كونى كما تشائين، لكن لا تَنْهرى، لا تَسْخَرى، لا تَقْتُلى، نساءً ولا رجال، لا تخْدَعى، فذاكَ يا عُمْرى مُحال، لا تصدقيهم، لا تصدقيهم يا فِتْنَتى، وهم يريقون الدَمْع على كل رصيف، ويُسَوِّغونَه، بأن يمنحوكى، ويمنحونا الرَّغيف، أى رَغيف، ولا تسألينى الأسئلة المريبة، الأسئلة العجيبة، الأسئلة الغريبة، لا تسألى أبدًا، بالذات ذاك السؤال، «تبادلنى ولك الفارق ؟».
«يِخْرِبْ بِيتْ» جُرْأتُك، نفاذُك، صدقُك، كبرياؤك، أنت تتنفس شعرًا وفكرًا وإبداعًا، كيف نسجت ذلك الثوب الفخيم، المُلَطَّخَ بدماءِ أول جُرْم فى التاريخ البشرى، من كل هذه الخيوط الملونة، بالغة التعقيد؛ الإنسان، التاريخ، الموت، الحياة، العدم، الوطن، العالم، الكون؟! 
يكتب الشاعر فى ظلام واقع أقسى من أى احتمال؛ وطن يموت، ناس تموت، حُلم يموت، فرَح يموت، إلا أنه يبنى بحروفه البصيرة، عشًا صغيرًا لمعشوقته «الأميرة»، يعاتبها بمرارة شديدة، يكشف لها أوراق الحقيقة، فهى وطنه الفَتَّان، مبدأه ومنتهاه، الذى أصبح مرتعًا للجُناة، نحن الجُناة! نحن أعداء الحرية والحب والحياة!
قضاياه المُؤرِقة دومًا هى «الحرية» و«الديمقراطية» و«حقوق الإنسان» و«العدالة الاجتماعية»، تلك البديهيات الإنسانية التى تموت أمام عينيه كل يوم فى وطن نغتصبه جميعًا، وطن يتسول، كلنا مجرمون، مشاركون فى أكبر جريمة. 
أنْهَكتْه عبثية هذا الوجود، لكنه يقرأ المكتوب، يشُم رائحة العَفَنْ، يَمْسُك مَشْرَطِه فى يده، ينام ويصحو به، يرى تفاصيل الأنسجة الخبيثة، أشباح تطارده فى كوابيس أليمة، فكيف يستطيع الفرار من المسئولية الكبيرة؟! كيف يتحمل النيران المشتعلة فى الأميرة؟! كيف يُجْرِى وحده الجراحة الأمينة؟! كيف يستأصل الخلايا المسمومة المستحيلة؟!
المُفارَقة هى تحادُثنا «العربية»، أقدم وأبلغ وأغنى لغات البشرية، لغة «القرآن» العبقرية، التى ولدت صبية بهية، فى غاية الجمال والكمال والإنسِّيابية، فكيف انحسرت حروفها المتناغمة والفصيحة والجَلِيَّة فى عبارة رخيصة وخسيسة ودَنِيَّة، لا نعرف سواها! «تبادلنى ولك الفارق؟». 
هو شبح تلك «المُبادَلة» المُهينَة والمُخْجِلة، التى تتراكم معها هزائم الوطن وانكسارات الرجال وشقاء النساء فى دوامة مؤسفة، لا نملك الفكاك منها، بل تضيع معها ذواتنا، ويتلاشى وجودنا. المثير فى كل أشعاره تلك المعادلة الموضوعية التى يتماهى فيها مفهوم «الحب» بين الرجل والمرأة بالوطن، وهو دون ذلك يظل شيئًا هامشيًا، لا معنى له، فلا حب أو رجولة أو أنوثة، بلا حرية أو كرامة أو وطن، فهى صرخات موجِعَة فى وجه وطن غافِل، مستغرق فى النوم، ينتحر كل يوم. 
هذا الشاعر ضوء فى نهاية النفق المُعتِم، وصفه المناضل «نيلسون مانديلا» فى عباراته: «كلنا خلقنا كى نشع ضوءًا، مثل الذى يشع من الأطفال، ولدنا لنشهد عظمة الله، التى تتحقق منا وبنا، هذه منحة لنا جميعًا، لا تخص أحدا، وحين نمنح أنفسنا الفرصة، لنطلق لأنوارنا العنان، فإننا بشكل غير مباشر نعطى الآخرين مؤشرًا، ونفسح لهم مجالاً لاكتشاف نورهم، وجدوى بعثهم للعالم، وحين نتحرر من مخاوفنا الشخصية، فإننا نرسخ وجودنا المادى، ونحرر وجود الآخرين».
«إن أعظم مخاوفنا ليست حول عجزنا، بل فى حقيقة الأمر هو إدراكنا لمدى قوتنا.. إنه «النور» وليس «الظلام» ما نخشاه، لذا علينا أن نسأل أنفسنا: من أنا؟! لأكون مشعًا أو موهوبًا أو مدهشًا».
تلك الروح المتوهجة والشامخة، التى تتحرك بيننا، تقيم جسورًا إلى الحق والحرية والسمو والنور، تكره الزائف والكاذب والقبيح، تحترق كل لحظة من أجل ما تؤمن به، وحتمًا على ضوء احتراقها سيتغير وجه الوطن.
فى النهاية أقول له، كن كما أنت، لا تتغير، اكتب ما تشاء، ولمن تشاء، قُلْ كَلِمَتك دومًا فى عين العاصفة والعالم والشيطان، تجاهل كل المحظورات والمحرمات والتابوهات، تلك سجون صنعها العاجزون والعاجزات، المهم ألا يُلَجِّمُك اليأس، ألا تفقد إيمانك بالإنسان العادى البسيط، حتى لو تحوَّل إلى آلة مفرغة من العقل والضمير والوجدان، حتى لو تحوَّل وَعْيَه إلى نحاس وألومنيوم وخشب عَطِنْ! هو المريض الذى فى حاجة إليك، فلا تتخلى عنه، هو رفاقى وجيرانى وأهالى حارتى، هو الوطن.