الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

الحرب على تمويل الإرهاب من "القاعدة" إلى "داعش"

محاصرة ومطاردة الأموال بهدف منع شن عمليات واسعة النطاق

 إبراهيم نوار، رئيس
إبراهيم نوار، رئيس الوحدة الاقتصادية بالمركز العربي للبحوث
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إعداد: إبراهيم نوار رئيس وحدة البحوث الاقتصادية بالمركز العربى للبحوث والدراسات
منفذو هجمات «11 سبتمبر» استخدموا مؤسسات مالية أمريكية وأجنبية
تكلفة العملية تراوحت بين 400 و500 ألف دولار 
تنظيم الدولة برع فى تنويع مصادره مستفيدا من التطور الهائل فى تكنولوجيا المعلومات ومواقع التواصل

دراسات المركز العربي
استمرارًا لسياسة التعاون بين جريدة «البوابة » والمركز العربي للبحوث والدراسات ننشر اليوم دراسة للدكتور إبراهيم نوار حول الحرب على تمويل التنظيمات الإرهابية من القاعدة إلى داعش.
منذ أصبح الإرهاب ظاهرة عالمية عابرة للحدود زادت أهمية التعاون الدولى من أجل تنسيق مكافحة الإرهاب على مستوى العالم.
وفى الوقت نفسه فقد طورت الدول المعرضة لخطر الإرهاب استراتيجيات وطنية وقائية وعلاجية وقتالية للحد من مخاطر الإرهاب. 
وهناك ما يشبه الإجماع فى العالم كله على أن القضاء على الإرهاب نهائيا يكاد يكون نتيجة مستحيلة لاستراتيجيات مكافحة الإرهاب المعمول بها حتى الآن. 
ولذلك فقد استقر اليقين فى الوقت الحالى على أن «الإرهاب» أصبح جزءا لا يتجزأ من مكونات الحياة اليومية التى يجب التحوط من أخطارها بكل الطرق. وعلى الرغم من نجاح الإجراءات الأمنية ضد الإرهاب إلى حد كبير، فإن استراتيجيات مكافحة الإرهاب يجب أن تقوم على مفهوم شامل أوسع من مجرد المفهوم الأمني، يستند إلى قواعد تربوية وسيكولوجية وفكرية واقتصادية واجتماعية وسياسية. 
وفى هذا السياق فقد استقر اليقين أيضا بين المفكرين وصناع القرار المعنيين بمكافحة الإرهاب على أن تحقيق نجاحات فى نطاق تلك القواعد التى أشرنا إليها، يمثل المدخل الحقيقى لتحقيق انتصارات أمنية ضد الإرهاب، لا يندثر أثرها بسرعة، وإنما يظل مفعولها مستداما لفترة طويلة من الوقت. 
وعلى أساس هذا اليقين، تقوم إستراتيجيات مكافحة الإرهاب على المستوى الوطني، ويقوم أيضا تنسيق الجهود بين الحكومات والأجهزة المعنية بمكافحة الإرهاب على المستوى الدولي. وفى هذا السياق فإننا سنعرض هنا كيف تطورت إستراتيجيات مكافحة الإرهاب من الناحية المالية، سواء على نطاق الدولة أو على المستوى الدولي. ويعتبر حصار المنظمات الإرهابية والأنشطة التى تقوم بها ماليا أحد المقومات الرئيسية لتجفيف منابع الإرهاب ولإرباك الجماعات والمنظمات الإرهابية ولشل أو إضعاف قدرتها على الحركة والفعل. كما تعتبر إستراتيجيات مكافحة تمويل الإرهاب ركنا أساسيا من أركان الحرب على الإرهاب، نظرا لأهميتها فى قطع أحد أهم شرايين الإمدادات التى تمكن المنظمات الإرهابية من تنفيذ أغراضها. 
ولا شك أن موضوع مكافحة تمويل الإرهاب يحظى بأهمية كبيرة على مستوى العالم، وهناك كتابات كثيرة فى هذا المجال. وقد شارك كاتب هذه السطور بدراسة مهمة عن تمويل تنظيم داعش وكيفية التصدى له، ونشرت هذه الدراسة ضمن كتاب أصدره المركز العربى للبحوث والدراسات بعنوان «داعش: دراسة فى بنية التنظيم». ومع تطور أدوات ووسائل وأساليب التمويل تتجدد الحاجة إلى زيارة الموضوع مرة أخرى، وإعادة النظر فى بعض جوانبه، بما يستجيب للمستجدات التى تطرأ من آن إلى آخر، خصوصا مع التطور فى الفنون المصرفية، وفى أدوات ووسائل إيداع الأموال ونقلها واستعمالها فى أغراض إرهابية. وسوف نعتمد فى الدراسة التالية بالأساس على وثائق وتقارير رسمية، أصدرتها هيئات دولية مستقلة أو حكومية معنية بمكافحة الإرهاب، كما سنعتمد أيضا على نصوص قرارات مجلس الأمن الدولى بشأن مكافحة تمويل الإرهاب، وكذلك على توضيح الجهود الدولية التى تبذل فى هذا النطاق ومحفزات نجاحها والعوامل التى قد تحبطها أو تؤثر سلبا عليها. 
وتشمل الحرب على تمويل الإرهاب مطاردة ومحاصرة وقطع تمويل الأفراد والجماعات والمنظمات الإرهابية، وكذلك قطع الطريق على نقل واستخدام الأموال فى تنفيذ عمليات إرهابية. ولغرض تحقيق هذه الأهداف تستخدم الوحدات والتنظيمات المكلفة بمحاربة الإرهاب ماليا وسائل شتى، منها الرقابة المصرفية، وفرض نظام دقيق للرصد والتتبع لحركة أموال الأفراد والجماعات والمنظمات المشتبه فى قيامهم بأنشطة إرهابية أو المشاركة فيها أو تأييدها. ولا تتوقف وسائل مكافحة تمويل الإرهاب على الرصد والتتبع لحركة الأموال واستخدامها داخل النظام المصرفى الرسمي، وإنما هى تتجاوز ذلك إلى التحويلات المالية التى تتم خارج النظام الرسمي، مثل تلك التى تتم عن طريق الحوالات المالية عن طريق شركات الصرافة ومكاتب نقل الأموال، وكذلك تلك التى تتم عبر أطراف ثالثة مثل الجمعيات الخيرية، وغير ذلك. 
ويجب أن نؤكد هنا على الحقيقة التى توصلت إليها كل لجان التحقيق الوطنية والدولية بشأن مكافحة أموال الإرهاب، وتتمثل هذه الحقيقة فى أنه مهما كانت درجة إحكام الرقابة وترتيبات مطاردة أموال المنظمات الإرهابية والشبكات المتعاونة معها، فإن نتيجة هذه الرقابة لن تكون أبدا القضاء تماما على عمليات تمويل الإرهاب. ولذلك فإن الهدف الرئيسى لجهود مكافحة تمويل الإرهاب يتمثل الآن فى الحد إلى أقصى درجة ممكنة من تمرير تمويلات تسمح بشن هجمات واسعة النطاق تسفر عن أعداد كبيرة من الضحايا على غرار الهجمات التى تعرضت لها السفارات الأمريكية فى إفريقيا، أو أحداث ١١ سبتمبر، أو أحداث شبكات السكك الحديدية وقطارات الأنفاق التى تعرضت لها مدريد أو لندن. ويمكن القول بأن تلك الإستراتيجية نجحت حتى الآن فى تحقيق هذا الهدف. 
لكن تلك الإستراتيجية ما زالت تواجه بعض التحديات السابقة «مثل تسريب مساعدات مالية أو عينية بواسطة حكومات أو جهات حكومية إلى الإرهابيين» أو تحديات جديدة مثل اتساع نطاق التعبئة المالية عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وتحول المنظمات الإرهابية وأنصارها إلى اعتماد أساليب جديدة فى تنفيذ عملياتها مثل تكتيك ما يسمى «الذئاب المنفردة». وقد أدى اتساع نطاق استخدام هذا التكتيك فى العامين الأخيرين إلى نشوء حالة جديدة من الخوف بسبب اعتماد بعض هؤلاء «الذئاب» على أدوات أو معدات عادية ذات استخدامات مدنية فى الأعمال الإرهابية، فتحولت نتيجة تلك الشاحنة العادية إلى سلاح لدهس المواطنين الأبرياء وقتلهم، كما تحولت أدوات المطبخ العادية إلى أدوات للطعن والقتل. ويجب أن نلاحظ أن استخدام مثل هذه التكتيكات الجديدة يقلل الحاجة إلى التمويل إلى حد كبير للقيام بعمل إرهابى منفرد. 

مطاردة عمليات تمويل الإرهاب
الهدف من مطاردة أموال الإرهاب هو تقليل قدرة الجماعات الإرهابية على تنفيذ عمليات واسعة النطاق ينتج عنها الكثير من الضحايا. ومن الناحية العملية فإن قطع الطريق تماما على عمليات تمويل الجماعات الإرهابية هو من قبيل المستحيل، ومع ذلك فإن الفائدة من رصد ومطاردة أموال الإرهاب تفيد فى نواح كثيرة، فعمليات الرصد المالى والتتبع لمسار أموال وتحويلات الإرهابيين تساعد على التعرف على المجموعات الإرهابية النشطة، والكشف مبكرا عن عمليات إرهابية مستهدفة، وإجهاضها فى المهد. «تقرير اللجنة الأمريكية المكلفة بدراسة الاعتداءات الإرهابية على الولايات المتحدة فى ١١ سبتمبر- ٢٠٠٤» 
ولاحظ التقرير أن منفذى عمليات ١١ سبتمبر استخدموا مؤسسات مالية أمريكية وأجنبية فى إيداع أموال وتحريكها واستعادتها لأغراض تنفيذ العمليات الإرهابية. وقد حصلت المجموعات المنفذة للعمليات على الأموال المستخدمة من أفراد أو مؤسسات تولت مهمة تسهيل تحويل الأموال فى ألمانيا والإمارات العربية المتحدة أو تم الحصول عليها بشكل مباشر من خالد شيخ محمد، حيث مروا بباكستان قبل أن يتوجهوا إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وقد بلغت تكلفة العملية بالنسبة للقاعدة ما يترواح بين ٤٠٠ ألف إلى ٥٠٠ ألف دولار أمريكي، منها ما يقرب من ٣٠٠ ألف دولار تم تمريرها عبر حسابات مصرفية فى الولايات المتحدة بأسماء الخاطفين. وتقدر السلطات النقدية الأمريكية أن الخاطفين أعادوا إلى الإمارات العربية المتحدة ما يقرب من ٢٦ ألف دولار، قبل أيام قليلة من وقوع أحداث ١١ سبتمبر. وأثناء وجودهم فى الولايات المتحدة فإن إنفاق الخاطفين تركز على تمويل تكاليف التدريب على قيادة الطائرات، والسفر، والسكن، والسيارات والتأمين وما إلى ذلك، ولكنهم لم يحصلوا على تمويل محلى رئيسى يكفى لتغطية أى من هذه النفقات. 
وذكر التقرير أن شبكة التمويل التى أنشأتها مجموعة الخاطفين والمتعاونين معهم لم تكن بمستوى يذكر من التقدم والتعقيد، لكن أجهزة الرقابة المصرفية فى ذلك الوقت كانت مهتمة أساسا بفرض رقابة مصرفية على عمليات غسيل الأموال وعمليات التهريب والغش المالى على نطاق واسع. 

كيف تحصل القاعدة على التمويل؟
يقدر خبراء اللجنة الأمريكية المختصة بدراسة أحداث ١١ سبتمبر أن تمويل القاعدة لم يعتمد، كما كان يعتقد الكثيرون، على الثروة الشخصية المملوكة لزعيم القاعدة أسامة بن لادن، لا فى السعودية، ولا فى السودان حيث كان يقيم قبل انتقاله إلى أفغانستان «١٩٩٦»، وإنما اعتمد تمويل القاعدة على تحويلات من منظمات خيرية إسلامية ومن تبرعات أشخاص متعاونين ذوى نفوذ خصوصا فى الخليج. وتقدر هذه الأموال من التحويلات والتبرعات بما يقرب من ٣٠ مليون دولار سنويا. واستبعد التقرير أن تكون القاعدة قبل أحداث ١١ سبتمبر قد استخدمت موارد للتمويل من تجارة المخدرات أو غيرها من التجارة غير المشروعة، كما استبعد أن تكون قد حصلت على أموال ذات أهمية تذكر من تبرعات تم جمعها فى داخل الولايات المتحدة الأمريكية. 
وبعد انتقال بن لادن إلى أفغانستان عام ١٩٩٦ قللت القاعدة من استخدامها للنظام المصرفى واعتمدت بشكل أساسى على نقل الأموال النقدية بواسطة الأعوان، أو على المتعاونين عبر حسابات مصرفية لخدمة القاعدة، خصوصا فى دول الخليج. وحتى ذلك الوقت فإن البند الأكبر فى مصروفات القاعدة كان يتمثل فى الأموال التى تذهب لدعم تنظيم طالبان فى أفغانستان والتى كانت تقدر بنحو ٢٠ مليون دولار سنويا. أما عملية خطف الطائرات ومهاجمة أهداف فى الولايات المتحدة فى ١١ سبتمبر فإنها تكلفت ما يتراوح بين ٤٠٠ ألف إلى ٥٠٠ ألف دولار فقط. وتعتقد المخابرات المركزية الأمريكية أن تمويل تنظيم القاعدة وفروعه قبل أحداث الحادى عشر من سبتمبر عام ٢٠٠١ كان مستقرا وآمنا. 

مكافحة الإرهاب ماليا بعد ١١ سبتمبر ٢٠٠١
وقد طرأت تغييرات كبيرة بعد ١١ سبتمبر على جهود مكافحة الإرهاب ماليا. وبعد أن سقط الاعتقاد بأن بن لادن يمول تنظيم القاعدة اعتمادا على ثروته الشخصية، فقد نشطت المؤسسات الأمريكية المعنية بمكافحة الإرهاب فى مجالات تحديد مصادر تمويل القاعدة، ومعرفة طرق جمع التبرعات، وإيداع الأموال، وتحويلها أو نقلها إلى التنظيم وجماعاته الفرعية. وبسبب هذا التطور فقد نشأت وحدات جديدة داخل مكتب المباحث الفيدرالية الأمريكية «FBI» والمخابرات المركزية «CIA»، وكذلك فى وزارة العدل ووزارة الخزانة ومؤسسات أخرى للعمل مع بعضها البعض فى جمع المعلومات وفى تنسيق السياسات والعمليات لضمان النجاح فى مكافحة الإرهاب، كما تم تطوير منظومة التشريعات القائمة لضمان تحقيق أكبر قدر من الفاعلية فى العمل المشترك. 
ومع تطوير المنظومة القانونية والإدارية والإجرائية لمكافحة تمويل الإرهاب فى داخل الولايات المتحدة استطاعت الإدارة، رغم بعض الصعوبات والاعتراضات المتعلقة بحماية الحريات الفردية والسرية المصرفية، أن تفرض قيودا شديدة على أنشطة جمع التبرعات لصالح الأعمال الجهادية أو تلك التى يشتبه فى أن إيراداتها تستخدم فى تمويل الإرهاب بواسطة منظمات أو أفراد فى داخل الولايات المتحدة. واعتمدت الإدارة من الناحية القانونية على فرض قانون الإجراءات الاقتصادية الطارئة «International Emergency Economic Powers Act» -IEEPA 
على المؤسسات أو الجمعيات أو الأشخاص الذين يشتبه فى وجود صلات لهم بتمويل المنظمات الإرهابية. وبعد أحداث ١١ سبتمبر وصدور القانون الوطنى «PATRIOT Act» فإن جهود مكافحة الإرهاب بشكل عام، وإجراءات مكافحة تمويل الإرهاب اتخذت منحى جديدا أكثر شمولا وأوسع نطاقا من الناحية القانونية والمؤسسية.
وعلى المستوى الدولى بذلت الولايات المتحدة جهودا ناجحة لاستصدار قرار من مجلس الأمن الدولى يتيح تجميد الأصول المالية والاقتصادية للمنظمات الإرهابية والمتعاونين معها. وعلى هذا فقد صدر القرار رقم «١٣٧٣» فى ٢٨ سبتمبر ٢٠٠١ الذى يجيز تجميد الأصول المملوكة لمنظمات إرهابية أو للمتعاونين معها أو المؤيدين لها أو الضالعين فى أنشطة لها علاقة بالإرهاب. لكن تطبيق هذا القرار على المستوى الدولى احتاج إلى جهود ضخمة لضمان تعاون دول العالم خصوصا فى منطقة الخليج، من أجل تنفيذه بجدية.
وخلال الفترة الزمنية القصيرة التالية لنشأة تنظيم القاعدة وقبل اللجوء لتطبيق قانون الإجراءات المالية الطارئة «IEEPAI» استطاعت الإدارة الأمريكية تحقيق نجاحات مهمة فى الكشف عن مؤسسات وجمعيات وأفراد كانوا ضالعين فى عمليات تمويل الإرهاب. ومن أهم من تم الكشف عنهم:
■ مؤسسة البركات «Al-Barakaat» وهى مؤسسة لإيداع ونقل وتحويل الأموال مقرها الصومال وتعمل على نطاق دولى فى كل أنحاء العالم. وقد تأسست هذه المؤسسة بعد انهيار النظام فى الصومال، وشارك أسامة بن لادن فى تمويل تأسيسها، وكانت تديرها جمعية إسلامية أخرى تسمى جمعية «Al-Itihaad Al-Islamiya». وإلى جانب قيام مؤسسة البركات بأعمال التحويلات المالية فى الخارج، فإن جزءا مهما من عمليات تمويل القاعدة وجمعية الاتحاد الإسلامية كان يتم من داخل «البركات».
■ جمعيات خيرية إسلامية فى ولاية إلينوي. رصدت الإدارة الأمريكية جمعيتين تم الاشتباه فى قيامهما بجمع تبرعات لصالح منظمات إرهابية. وهما مؤسسة الإغاثة العالمية Global Relief Foundation» Inc». ومؤسسة الإحسان الدولية «Benevolence International Foundation -BIF».
ووجهت السلطات الأمريكية اتهامات إلى كل من المنظمتين بجمع وتقديم أموال فى الولايات المتحدة لمساعدة تنظيم القاعدة وتنظيمات إرهابية أخرى. وبعد التحقيقات التى أجريت، لم تثبت تهمة تمويل الإرهاب على أى من المسئولين عن الجمعيتين، لكن بعضهم تمت إدانته على خلفية اتهامات جنائية أخرى، إلى جانب رصد مخالفات لقوانين الهجرة. لكن تجميد أصول الجمعيتين والقبض على مسئولين فيهما أدى فى نهاية الأمر إلى توقف نشاطهما. وفى أعقاب هذه القضية أولت السلطات المعنية بمكافحة الإرهاب ماليا اهتماما أكبر باختراق المنظمات المشتبه فيها، واتخاذ إجراءات لتعطيل وعرقلة عملها. 
■ مؤسسة الحرمين الإسلامية السعودية، وهى مؤسسة خيرية إسلامية تهتم بنشر الإسلام، وتعمل فى أكثر من ٥٠ دولة، وتحصل على مساندة من الأفراد ومن المؤسسات ومن الحكومة السعودية، وتقدر ميزانيتها السنوية بما يترواح بين ٥٠ مليونا إلى ٨٠ مليون دولار. وذكر تقرير اللجنة الأمريكية المكلفة بالتحقيق فى أحداث ١١ سبتمبر أن اثنين على الأقل من المسئولين فى الحكومة السعودية تقلدا مناصب استشارية فى مؤسسة الحرمين قبل أحداث ١١ سبتمبر. وقد احتلت مؤسسة الحرمين الإسلامية حيزا مهما من الاتصالات بين الولايات المتحدة والسعودية بشأن محاربة تمويل الإرهاب منذ العام ١٩٩٨. وقد تم على مدار الفترة حتى يونيو ٢٠٠٤ اتخاذ العديد من الإجراءات التى تضمنت غلق فروع تلك المؤسسة فى العديد من دول العالم بما فى ذلك فرع الصومال وفرع البوسنة، ثم تجميد أصول المؤسسة ووقف أنشطتها، وتغيير قانون المؤسسات الخيرية فى السعودية من أجل ضمان عدم تورط الجمعيات الخيرية الإسلامية فى تمويل أنشطة إرهابية. وقد تضمنت المعلومات التى قدمتها الإدارة الأمريكية إلى السلطات السعودية قائمة بأسماء ٢٠ شخصا من مسئولى مؤسسة الحرمين تم رصدهم يشاركون مباشرة فى اجتماعات لتنظيم القاعدة. وعلى الرغم من الإجراءات التى قامت بها الحكومة السعودية أو تعدت القيام بها، فإن الأشخاص الضالعين فى أنشطة المؤسسة ظلوا خاضعين للرقابة من جانب السلطات الأمريكية المعنية بمكافحة الإرهاب.

"داعش": نمط جديد فى تمويل الإرهاب
منذ تم احتلال العراق بواسطة القوات الأمريكية والدول الحليفة فى عام ٢٠٠٣ وما تبع ذلك من انهيار مؤسسات الدولة العراقية التقليدية، تحول العراق إلى ساحة للمواجهات العرقية والطائفية والدينية، وانتشرت ظاهرة الجماعات المسلحة التى تعمل فى فراغ تام يخلو من سلطة الدولة. وفى هذا المناخ السياسى والعسكرى نشطت الجماعات الإرهابية من كل اتجاه. 
وقد خضع تنظيم الدولة الإسلامية مثل غيره من التنظيمات الإرهابية للرقابة والمتابعة من الناحية المالية من جانب السلطات والمؤسسات المعنية بمكافحة الإرهاب على مستوى العالم. وقد كشفت عمليات مراقبة وتتبع تمويل التنظيم عن تغيرات هائلة فى بنية التمويل ومصادره وآلياته المختلفة. ومن أجل التعرف على تلك التغيرات فإننا سنعتمد هنا على تقرير إدارة العمليات المالية لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب «FINANCIAL ACTION TASK FORCE» وهى تعرف اختصارا بالحروف التالية «FATF»، وهى هيئة دولية مستقلة تعمل من خلالها حكومات الدول المختلفة على تطوير وتعزيز سياساتها لحماية النظام المالى العالمى من عمليات غسيل الأموال، وتمويل الإرهاب، وتمويل انتشار أسلحة الدمار الشامل. وتقدم إدارة العمليات الدولية لمكافحة توصياتها إلى المنظمات الدولية المعنية وإلى الحكومات، وتحظى تلك التوصيات باحترام كبير فى الأوساط الدولية. وفيما يتعلق بمكافحة تمويل الإرهاب، فإن نشاط تلك الإدارة يتركز داخل نطاقين أساسيين، الأول يتعلق بتمويل المنظمات والجماعات الإرهابية، والثانى يتعلق بتمويل العمليات الإرهابية. 
وفيما يتعلق بداعش فإن تقرير إدارة العمليات المالية لمكافحة الإرهاب «فبراير ٢٠١٥» لاحظ منذ البداية أن داعش هو تنظيم إرهابى يختلف كثيرا عما سبقه، وأن عمليات تمويل التنظيم تنطوى على أهمية خاصة، إضافة إلى أنها ذات طابع مركزي. وكان تنظيم داعش منذ نشأته يعتمد على قدرة كبيرة على الاحتفاظ بالأرض «كما هو الحال فى الفلوجة وتكريت» وكذلك على الاحتفاظ بولاء القبائل بشكل عام، حتى وإن كان هذا الولاء هو «ولاء الخوف» الناتج عن الممارسات الوحشية التى قام بها التنظيم ضد القبائل التى رفضت الخضوع لسلطته مثل قبائل البونمر فى الأنبار. 

وتضمنت مصادر تمويل داعش طبقا للتقرير ما يلي:
■ متحصلات غير شرعية يحصل عليها التنظيم بسبب احتلاله للأرض، وتتضمن هذه المتحصلات إيرادات وأصول فروع البنوك فى المناطق الخاضعة للسيطرة، السيطرة على آبار النفط والغاز ومصافى تكرير النفط، والسيطرة على أصول مالية واقتصادية مختلفة تتضمن مزارع ومصانع ومساكن وغير ذلك، وتمثل هذه النسبة الأكبر من إيرادات التنظيم.
■ تبرعات يحصل عليها التنظيم منظمات أو مؤسسات غير هادفة للربح، تقوم باستغلال شرعيتها فى جمع تبرعات داخل أو خارج المناطق الخاضعة وتحويل هذه التبرعات أو جزء منها إلى الإدارة المالية لتنظيم داعش.
■ خطف الأفراد والمطالبة بفدية مقابل الإفراج عنهم. وعادة ما يتعرض غير المسلمين أو أفراد العائلات الميسورة لمثل هذه الممارسات.
■ التهريب، بما فى ذلك تهريب الأموال والذهب ومسروقات المقتنيات الأثرية والفنية.
■ فرض ضرائب ورسوم وإتاوات غير مشروعة على المرتبات وعلى المتاجر وغيرها من مؤسسات الأعمال.
وقد برع تنظيم الدولة الإسلامية فى تنويع وتطوير أشكال ومصادر التمويل وآلياته بمرور الوقت مستفيدا من التطور الهائل فى تكنولوجيا المعلومات ووسائل التواصل الاجتماعى عبر الإنترنت وعبر الهواتف المحمولة. ونظرا لتوسع داعش فى السيطرة على مساحات كبيرة من العراق وسوريا، فإن الاحتفاظ بهذه المساحات، وضمان السيطرة على السكان، يحتاج دائما المزيد من الموارد. وهذه الخاصية فى طبيعة تنظيم داعش وعملياته تمثل خطورة شديدة فى المنطقة، ولكنها فى الوقت نفسه تقدم فرصة عظيمة لضرب التنظيم عن طريق ضرب مصادر التمويل، وهو ما من شأنه أن يحد من قدرة داعش على التوسع، ومع انكماش قدرة داعش على التوسع، تضعف أيضا قدرة التنظيم على الاحتفاظ بالمناطق التى يسيطر عليها. وربما تبرهن عملية الموصل الأخيرة التى انطلقت فى منتصف الشهر الحالي «فبراير ٢٠١٧» على صحة هذا الافتراض. وقد سجل المقاتلون فى ساحات المواجهة أنهم لاحظوا هذه المرة انهيارات سريعة فى خطوط دفاع داعش بالمقارنة بالمواجهات السابقة.
وسوف نعرض فى الجزء الثانى من هذه الدراسة ملامح التغييرات فى بنية التمويل لتنظيم الدولة الإسلامية، وما ترافق مع ذلك من إجراءات لمحاربة التنظيم ماليا. كما سنعرض أيضا التحديات الراهنة فيما يتعلق بمطاردة ومحاصرة تمويل العمليات الإرهابية التى ينفذها أفراد منفردون، وتطور جهود التنسيق بين الحكومات المختلفة بشأن الحرب على تمويل الإرهاب.