الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

شيخ.. وسياسى.. ومثقف

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى كتابه الصادر مؤخرًا بالفرنسية بعنوان «الفلسفة والتاريخ»، يستعيد المفكر المغربى «عبدالله العروي» تصنيفه الشهير لوجوه الأيديولوجيا العربية من منظور تقويمى راهن. الوجوه المذكورة هى «الشيخ» و«السياسي» و«داعية التقنية»، أولها هو الشخصية الأيديولوجية المحورية فى مرحلة الاستعمار، وثانيها هو الشخصية الأيديولوجية فى مرحلة الاستقلال، وثالثها هو الشخصية الأيديولوجية للدولة الوطنية.
الشيخ هو الفقيه الذى تلقى تكوينًا دينيًا كلاسيكيًا واطَّلع على بعض الأدبيات الحداثية العامة والبسيطة، إشكاله الأساسى هو كيف يمكن الخروج من مرحلة الانحطاط، بما يجعله فى موقف رد الفعل الدائم إزاء تفوق الغرب المهيمن بالاستجابة لمختلف مقتضيات الإصلاح فى شتى جوانبه الدينية والسياسية والتقنية، بيد أن مرجعيته العميقة تظل التصورات الطبيعية والمجتمعية ما قبل حديثة خارج الأفق الليبرالى الذى لا يدرك رهاناته الجوهرية.
أما السياسى فهو فى الغالب رجل القانون (المحامي) الذى مارس العمل النضالى ضمن صفوف الحركة الوطنية، ينطلق من نفس السؤال (الخروج من الانحطاط)، لكنه يرى أن المخرج هو إصلاح النظام السياسى من منطلق أفكار الحرية ودولة القانون ومنظور التعاقد الاجتماعى، لكنه ينتزع هذه المثل والمفاهيم من سياقها النظرى ويستخدمها بطريقة نفعية ذرائعية مباشرة.
داعية التقنية هو المثقف الذى تلقى تكوينًا حديثًا فى المدارس والجامعات التى أنشأها الأوروبيون فى حواضر المشرق العربى (فى الأوساط المسيحية)، وليس هو العالم التقنى، بل هو فى الغالب صحفى له بعض الاطلاع على النظريات العلمية والاكتشافات التقنية الجديدة، يرى أن مدخل الإصلاح والنهوض هو استيراد التقنيات العصرية وتدريس ونشر العلوم التجريبية التى تمكّن المجتمع من عناصر القوة المادية كشرط للنهوض السياسى والاجتماعى.
ما يخلص إليه العروى فى تقويمه النقدى لمسار الأيديولوجيا العربية المعاصرة، هو أن الشيخ لم ينجح فى مشروعه للإصلاح الدينى الذى لم يفْضِ إلى بناء لاهوت جديد أو ممارسة تأويلية جديدة للإسلام، كما أن السياسى فشل فى مشروع الإصلاح السياسى والمؤسسى، بينما أخفق داعية التقنية فى مشروعه التحديثى.
وعندما بلور العروى هذا التصنيف أول مرة فى كتابه «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» فى نهاية الستينيات، كان يتحدث عن وجوه لا تزال فاعلة فى الحقل السياسى العربى، رغم المنعرج العسكرى الذى دخل فيه العديد من الدول العربية المحورية. أما الآن فقد تغيرت جذريًا هذه الخارطة على عكس ما يعتقد العروى الذى يرى استمرارية هذه التركيبة ولو فى صياغات متجددة.
الفقيه الإصلاحى لم يعد مؤثرًا فى الحقل الأيديولوجى الذى اختطفته تنظيمات الإسلام السياسى الراديكالية الرافضة لمطلب الإصلاح الدينى الذى هو محور مشروع الفقيه النهضوى. ومن هنا ندرك عزوف هذه التيارات عن المنظور الكلامى (اللاهوتي) الذى هيمن على الإصلاحيين الذين سعوا إلى بناء «علم كلام جديد» يعيد بناء المضامين العقدية فى الإسلام، كما أن الحركات الاحتجاجية الإسلامية ترفض من المنظور ذاته هدف تجديد المنظومة التأويلية الشرعية فى جوانبها الأصولية والفقهية. نموذج الفقيه نفسه انحسر فى هذه الخارطة الجديدة، فلا يمكن أن يتماهى مع «الخبير الديني» النشط فى دوائر الفتوى والاستشارة القانونية والمالية ولا «الموظف الدينى العمومي» الذى هو أحد أفراد البيروقراطية الإدارية للدولة، كما أنه لا يتماهى مع «الناشط السياسي» فى تنظيمات الإسلام السياسى الذى هو فى غالب الأحيان محدود الثقافة الدينية.
السياسى بمفهومه التقليدى تراجع تأثيره، فلم يعد الزعيم الحزبى التقليدى المتشبع بالمُثل الليبرالية هو الوجه البارز فى الحقل السياسى، رغم مكاسب الانفتاح والتعددية التى حققتها «الديمقراطيات العربية» الوليدة، فمن الجلى أن الأحزاب الوطنية العريقة التى ارتبطت بحركات التحرر مثل «الوفد» المصرى و«الاستقلال» المغربى و«الدستوري» التونسى، فقدت الجانب الأوفر من زخمها وحضورها الانتخابى. الوجوه السياسية الجديدة تتنازعها نماذج رجل الأعمال النشط فى المجال العمومى والضابط السابق المدعوم من المؤسسة العسكرية، والاحتجاجى الحركى المنحدر من تنظيمات الإسلام السياسى الراديكالية.
نفس الحكم ينطبق على المثقف الوضعى داعية التقنية، الذى لم يعد مؤثرًا فى الحقل السياسى، ولا فى دوائره الفكرية والثقافية، فى مرحلة تغيرت فيها الوسائط الثقافية نفسها من سلطة الكتاب والصحيفة إلى سلطة الشاشة الفضائية والشبكات التواصلية الإلكترونية. المثقف الجديد هو «المدون» الذى هو فى الغالب محدود الثقافة، ضيق الفكر، يستهلك «الوجبات الثقافية السريعة»، حسب اصطلاح عالم الاجتماع «بيار بورديو»، هدفه الإثارة لا الإقناع، تقاسم الانفعالات لا تقاسم الأفكار.
نقلاً عن «الاتحاد الاماراتية»