الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

ورحل اليهودي ما بعد الحداثي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

عندما حاول والده استكشاف احتمالات الهجرة إلى إسرائيل من بولندا بعد خمس سنوات من قيام الدولة العبرية، توترت علاقة زيجموت بوالده، وكان آنذاك فى الثامنة والعشرين من عمره. الوالد انحدر من عائلة يهودية غير متدينة بالأساس، أما الابن زيجموت الذى كان يومها شيوعيا صلبا متأثرا بأنتونيو غرامشى، فلم تخدعه الصورة الاشتراكية التى كانت إسرائيل قد سوقتها عن نفسها وبها اخترقت اليسار الأوروبى والعالمى لعقود طويلة وحشدت أنصارا ظنوا فيها تمثلًا لنموذج المجتمع الاشتراكى الزراعى. منذ ذلك التاريخ وحتى وفاته هذا الشهر، وهى مناسبة كتابة هذه السطور، بقى هذا اليهودى «الحالى» باقتباس عنوان الرواية الشهيرة للروائى اليمنى القدير «على المقرى»، وأحد أهم رموز علم الاجتماع والحداثة فى القرن العشرين، على موقفه الواضح من إسرائيل. انتقدها كثيرا وانتقد توظيفها للهولوكوست لتسويغ مشروعها الكولونيالى الاحتلالى، كما شبه جدار الفصل العنصرى فى الضفة الغربية بجدار العزل الذى بناه النازيون حول جيتو وارسو.

على كل حال ليس ما سبق أهم ما كان يميز باومان بل مجرد إشارة لافتة وذات خصوصية مطمئنة إلى البوصلة الأخلاقية والضميرية التى تحلى بها هذا المنظر الكبير. أهمية باومان الفكرية تتسع لتشمل نطاقات التنظير والتفكير فى مصائر الإنسان فى ظل تسارع مشروع الحداثة الهائل فى القرنين الأخيرين، ثم تطورات ما بعد الحداثة. رأى باومان أن إنسان الحداثة استهلك من قبل أنظمتها الصارمة وقوضت قيمه وأهميته المركزية التى جاء بها مشروع التنوير الأوروبى. صار المشروع نفسه، التنوير وحداثته، أو الحداثة وتنويرها، هما مركز الوعى والحركة والعالم، عوض أن يكونه الإنسان، كما كان الوعد التنويرى الأساسى.

بالنسبة لباومان تقوم الحداثة على العقلانية الصارمة والتنظيم الدقيق وبرود التحليل العلمى وأخلاقية التكنولوجيا، وكل ذلك مجموعا إلى ذاته يحقق غائية وجود الإنسان ومصالحه.

فى هذا النظام تنفصل الوسيلة عن الغاية بطريقة مركبة ومدهشة وأبعد بكثير من الفكرة الميكافيلية التقليدية التى تعلى من قدر الغاية وتبرر فى سبيل تحقيقها أحقر الوسائل. هنا تصبح الوسيلة نفسها هى الغاية: أى أن مهارة تطبيق الأوامر، وكفاءة التنفيذ (تنفيذ حرق اليهود مثلًا) ومن خلال مراحل تبدأ بالترحيل فى القطارات فى مواعيد ثابتة، ثم تجميعهم فى مرحلة الفحص الطبى، ثم التعرية الكاملة ومصادرة ممتلكاتهم الشخصية وتصنيفها (ساعات، مجوهرات، ملابس، إلخ...)، ثم نقلهم إلى غرف الغاز وغسلهم بالماء أولًا، وبعدها تحديد كمية الغاز المطلوبة لكل غرفة، والبدء بالتنفيذ، ثم تجميع الجثث وحرقها، ودفن بقاياها، وهكذا. يقول باومان إن الدقة المذهلة فى تنفيذ تلك الخطوات كانت لتدرس فى الجامعات فى مساقات الإدارة التنفيذية المتفوقة لو لم يكن موضوعها حرق وإبادة الناس. لكن الأهم من ذلك هو انصياع الضباط والجنود لتطبيق تلك المراحل بدقة عالية ومن دون أى إحساس بوخز الضمير. كانت كفاءة تنفيذ الأوامر، أى الوسيلة، هى الهاجس اليومى والروتينى الأكبر لآلاف الجنود والضباط الذين أشرفوا على الإبادة، انصياعا لأوامر مرؤوسيهم. هؤلاء «الأدوات» هم ناس عاديون لهم زوجات وأبناء ويعيشون حياة عادية وربما «أخلاقية» على مستويات مختلفة، لكن «البيروقراطية الحداثية» فرضت عليهم سلوكا يلتزم بالزى العسكرى الذى ما إن يرتدوه حتى يتحولوا إلى آلات صماء تنفذ ما يطلب منها من دون مشاعر أو أحاسيس. باومان يعزو ذلك إلى نظام الحداثة وقيمها المادية التى تشتغل وفق مبدأ الفائدة والمصلحة وفقط. تصبح حياة البشر، تبعا لذلك، مضبوطة وفق ترتيبات محددة ونظام يعين «الفائدة» من الأشياء والقيم.. وأصناف الإنسان. كل شيء تبهت فائدته ويصبح عديم الجدوى، بما فى ذلك بعض أجناس البشر (كاليهود فى الحالة النازية)، بما يستوجب إزاحتهم، وهذا مسوغ عقلانيا. الأخلاق والعواطف والأحاسيس لا مكان لها فى منظومة قائمة على «تسليع» الأشياء والإنسان أيضا. كل شيء أو إنسان له قيمة محسوسة وملموسة، إن فقدها لا مبرر لوجوده. هذا التفسير فى فهم الحداثة هو ما اعتمده باومان، ورأى أنه تجسد فى النظرية النازية التى رأت أن اليهود فى ألمانيا وأوروبا لاحقا جنس يشكل عبئا على التقدم الإنسانى وتجب إبادته، ومعهم المسلمون والغجر والمعاقون وذوو الأمراض العصية و«الشاذون جنسيا، بحسب ما كان يرى هتلر. قائمة الأجناس «غير المفيدة» كانت طويلة على الأجندة الهتلرية، ويتوجب تطهير «الحيز الحيوى» منها حتى يتقدم العالم بقيادة الجنس الآرى الذى أثبت علماء الإنثروبولوجيا النازية لهتلر أنه الجنس الأصفى والأرقى بين الأجناس البشرية كلها، ووحده يستحق قيادتها.

أنجز باومان فى حياته أكثر من خمسين كتابا احتل العديد منها قلب السجال الأكاديمى فى الموضوعات التى تصدى لها: فى الحداثة الصلبة والسائلة، فى ما بعد الحداثة وأيديولوجيا الاستهلاك، فى دور المثقفين وموقعهم فى مجتمعاتهم. والموضوع الأخير وحده حيث تعمق فى اختبار وتحليل المثقف «التبريرى» والمثقف «المشرعن» للسلطة والثقافة السائدة فى أحد كتبه ظل واحدا من أهم القراءات المُعمقة لمسألة المثقف ودوره، وقد تطرق إليه إدوارد سعيد فى كتابه عن «تمثلات المثقف». يغيب باومان ويترك وراءه إرثا فكريا بالغ النضارة والإثارة.

نقلا عن الاتحاد الإماراتي