رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بوابة العرب

التاريـخ لا يـمـوت

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

ظلمنا أنفسنا لغياب التجربة والثقافة السياسية وندفع ومازلنا ثمنا باهظا لهذا الغياب، فرجال دولة الاستقلال الأولى كانوا يجسدون الانتماء للوطن أعقبها مرحلة عبثية استبدلت الانتماء إلى الوطن بالانتماء للأشخاص، ومن المؤلم أن هؤلاء شركاء لنا فى الوطن تعمدوا طمس تلك الفترة وحجبها من تاريخ الوطن فغابت الحقيقة عن الأجيال الراهنة.
عندما أصر رجال دولة الاستقلال الأولى على حتمية الحصول على الاستقلال كانت ليبيا من أفقر دول الأرض وليست لديها أى إمكانيات اقتصادية تبرر قيام الدولة وكان هذا سببا لاعتراض كثير من الدول فى التردد لمنح ليبيا استقلالها لأسباب سياسية وليست إنسانية ولكن إصرار الوفد الليبى على تحقيق الاستقلال أدى في النهاية إلى الحصول على هذا الاستقلال وكان من المحتم البحث عن وسيلة لتمويل الدولة الوليدة، وبعد كل الجهود التى بذلت للحصول على دعم عربى وفى ذلك الوقت إلا أن جميع الجهود باءت بالفشل وولد فى ذلك الوقت اقتراح اللجوء إلى تأجير قواعد عسكرية تنتهى عندما ترى الحكومة أن إمكانيتها المادية تسمح لها بالاستغناء عنها وكانت هذه النهاية عام 1970، وهنا لابد أن أتعرض إلى شهادة المرحوم الأستاذ رجب الماجرى وزير العدل بالحكومة ما قبل الأخيرة فى العهد الملكى والذى ذكر لى أنه على الرغم من كونه وزيرا كان يعترض على وجود القواعد العسكرية على الأراضى الليبية ويعتبره اختراقا للسيادة الوطنية وباعتباره شاعرا كان ينظم شعرا يدين فيه وجود القواعد العسكرية على الأرض الليبية، وبعد فترة طويلة من الزمن ذكر لى أنه اطلع على بعض الوثائق التى تلقى الضوء على تلك القترة والمبررات والظروف التى أدت إلى توقيع الاتفاقيات ليتضح له أن من قام بتوقيع تلك الاتفاقيات كان أكثر انتماء للوطن من أى مواطن يدعى الانتماء له، انتهت الشهادة.
ومَنّ الله علينا بالثورة البترولية والتى أصبحت مصدرا رئيسيا للتمويل مع بداية ستينيات القرن الماضى وخلال فترة قصيرة لا تتجاوز الثماني سنوات تم إنشاء المدن الجامعية فى كل من طرابلس وبنغازى والمدن الرياضية بالمدينتين ومشروع إدريس للإسكان والمشروع العملاق للطريق الساحلى والذى يمتد لأكثر من 1900 كيلو متر ولكن الإنجاز الأبرز لدولة الاستقلال كان تركيزها على التربية والتعليم ورصدت له جل أموال الميزانية وكانت نتائجه أكثر من إيجابية ورصدت منظمة اليونسكو للعلوم والثقافة التجربة الليبية واعتبرتها تجربة إنسانية فريدة من نوعها لم تحدث ولن تتكرر (تقرير منظمة اليونسكو الصادر عام 1968).
على المستوى الاقتصادى كانت ليبيا من أرخص دول البحر الأبيض المتوسط، كان العاملون بليبيا من الجنوب الأوروبى يشترون هداياهم بمناسبة إجازتهم من السوق الليبى وحجاج البيت الحرام فى ذلك الوقت كانوا يقتصرون ما يحضرونه من السعودية على السجادة والمسبحة أما هداياهم لذويهم فقد كانت تشترى من السوق الليبي.
كما كانت جل التوكيلات التجارية حكرا على التجار الليبيين فى الشرق الأوسط.
أمنيا، كانت ليبيا فى تلك الفترة واحة أمان فى الشرق الأفريقى ولم يكن السائح القادم من الحدود التونسية متوجها إلى مصر يهاب النوم فى الخلاء بين المدن والقرى الليبية، ولم يعرف الليبيون الأسوار العالية ولم يتعرفوا بعد فى تلك الفترة على الأبواب والنوافذ الحديدية وكانت محالهم التجارية تظل مفتوحة عند النداء للصلاة بما فيها محال بيع الذهب والفضة.... والحديث يطول.
هذه إضاءة تشكل وفاء لعطاء الآباء والأجداد الذين حجب تاريخهم عمدا وظلمناهم وظلمنا أنفسنا.
ما حدث قد حدث إلا أن الأقسى والأسوأ أن يتكرر الخطأ مرة أخرى عندما نفاجأ بمن يلعن تلك الدماء النقية التى رحلت من بين أيدينا ولم ترَ من الدنيا شيئا ولمن كتبت له الحياة بعد السابع عشر من فبراير ولنداء لفظ الجلالة (الله أكبر) الذى صدحت به الحناجر فى كل أرجاء الوطن مدنه وقراه وميادينه، وهو ما يشكل تناقضا صارخا مع كل القيم النبيلة التى عرفتها البشرية.. فى تجاهل مشين لحقيقة الأسباب التى مددت الفترة الانتقالية وعرقلت بناء الدولة لنترك رسالة للأجيال القادمة تقول: لا تثوروا ضد الاستبداد والظلم وألا تفكروا أبدا فى البحث عن الكرامة لأنكم ستلعنون ممن ثرتم من أجلهم لصالح من ثرتم ضده.
تبقى الحقيقة أننا جميعا راحلون، الوطن باقٍ.. وكذلك التاريخ، قد يحجب نعم.. لكنه لا يموت.