الجمعة 03 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

يسألونك عن الدولة المدنية الحديثة «20»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
انطلاقاً من «رشادة الحكم»، كسمة رئيسة فى «الدولة المدنية الحديثة»، نؤكد أن الكثير من المفاهيم المجتمعية السائدة فى بلدنا ما زالت لا تشير على وجه اليقين إلى رسوخ قيم العملية الديمقراطية، قدر ما تؤكد أن مسافات بعيدة ما زالت تفصلنا عن الوثوق فى صحة ما قد نتصور أننا قطعناه على طريق التحول الديمقراطى، وإن كنا لا نتجاهل أن محاولات تُبذل فى هذا الشأن، لكنها أبداً غير كافية؛ إذ لم تصل بعد إلى حد التعبير عن توجه مجتمعى شامل.
ربما يعيننا على تقبل الأمر على هذا النحو، إقرارنا بأن التجربة المصرية الوليدة لم تزل تحيا فى إطار المرحلة الانتقالية من عملية التحول الديمقراطى، تلك المنطقة الحرجة، التى تتميز بحالة من عدم اليقين تشيع، على إثرها لا يزال بقايا وأتباع النظام الفاسد الذى أسقطته ثورة يناير المجيدة على أمل العودة يعيشون، بينما دعاة الثورة ليس لهم أن يتثبتوا بعد من انتصار ثورتهم. من جهة أخرى، لم تكن الموجة الثورية التصحيحية التى هبت فى الثلاثين من يونيو إلا جولة فى حرب ممتدة نحو التحول الديمقراطى، أدت إلى تنقية ثوب الخامس والعشرين من يناير من سوءات الجماعة الإرهابية التى تسلقت المشهد الثورى زيفاً، لضعف القوى السياسية الليبرالية، فكان أن ألصقتها موجة الثلاثين من يونيو، عن حق، بمرتكزاتها الفكرية المشتركة مع نظام مبارك الفاسد، من حيث احتكار السلطة، والفساد والإفساد السياسى. 
فما كان من تلاميذ نظام مبارك إلا أن اتخذوا من ذلك مدعاة للطعن فى ثورة يناير المجيدة، وما الجماعة الإرهابية إلا وجههم الثانى، وشريكهم فى الحكم، وفزاعتهم المعتادة التى برروا بها كذباً إحكامهم قبضتهم على البلد، على مدى عدة عقود ألهبت ظهور الشعب المصرى حتى انفجرت ثورة يناير المجيدة.
تأسيساً على ذلك، لا يمكننا تجاهل الكثير من أوجه الخطاب المجتمعى، السائدة حالياً، بغرض العودة بالوطن سريعاً إلى نقطة الصفر، عشية ثورة يناير؛ إذ يسعى نفر من بقايا نظام مبارك إلى القفز فوق الثلاثين من يونيو، مثلما قفزت الجماعة الإرهابية فوق الخامس والعشرين من يناير!، وعليه أتبنى مجموعة من الملاحظات التى أراها تنبه إلى خطورة التراخى فى مواجهة تلك المحاولات البائسة التى لم يُطق أصحابها صبراً على بوادر مُبشرة أنتجتها موجة الثلاثين من يونيو فى الطريق الصحيح نحو الآفاق الرحبة التى أسست لها ثورة يناير المجيدة.
من ذلك أُشير إلى الآتى:
مفهوم «المواطنة»، كمرتكز أساسى فى بناء «الدولة المدنية الحديثة»، يتعرض لضربات قوية، ومن جهات شتى؛ إذ يشارك فى النظام السياسى بعض الأحزاب السياسية ذات المرجعية الدينية، ما زالت ترى فى المواطن المسيحى «دافع جزية»!. ولا يخلو خطابهم من عنصرية واضحة.
وفى الجانب الآخر ما زالت المناهج الفكرية لنظام مبارك حاكمة فى كثير من الأمور المتعلقة بإدارة شئون الدولة؛ إذ ما زالت مصر بلا محافظ مسيحى، أو رئيس جامعة مسيحى.
كما أن المجالس العرفية ما زالت تحكم رؤيتنا لحل كل خلاف ينشأ بين أسر مسيحية وأخرى مُسلمة، ونجاهر ونزهو، للأسف، بحضور حماة القانون والقائمين على تنفيذه، مجالس ليست إلا هدماً صريحاً لمفهوم «سيادة القانون»؛ ذلك المفهوم الأولى فى كل «حكم رشيد». 
يحدث ذلك ولا شك، بينما دستور ٢٠١٤ الذى نال تأييداً شعبياً كاسحاً، يمنع تشكيل الأحزاب على أساس دينى، ويؤكد على حتمية مفهوم «سيادة القانون» و«المواطنة».
يحدث ذلك أيضاً والرئيس السيسى يقطع مسافات واسعة غير مسبوقة نحو ترسيخ مفهوم «المواطنة»، بالقطع يعجز بقية نظامه عن ملاحقتها، أو تبنيها على نحو كاف، فنجد الرئيس وقد واعد الشعب كله، وليس الأخوة المسيحيين وحدهم، على التواجد فى أعياد المصريين، فى الجامع والكنيسة على حد سواء. 
وهو أمر لا بد وأن يلقى من دعاة «الدولة المدنية الحديثة» شديد الاحترام. غير أننى أرى أننا فى حاجة إلى بلورة إستراتيجية وطنية حاكمة لا تختزل أمر قيم «الدولة المدنية الحديثة» ككل، ومن بينها «المواطنة»، فى مجهودh فردى، وإن كان رئاسياً؛ ذلك أنه يعجز عن بلوغ غايته دون زخم مجتمعى وإرادة سياسية قادرة، وإستراتيجية وطنية حاكمة؛ فليس إلا قناعات وجهوداً وقيما مشتركة ينبغى أن تجمعنا جميعاً فى ذات الاتجاه. 
كثيراً ما كان تعبير «الجزر المنعزلة» وثيق الصلة بوزارات الحكومات المختلفة التى تتابعت على إدارة شئون الدولة المصرية، فيما يعبر عن غياب الكثير من المفاهيم الرائجة فى كل «دولة مدنية حديثة» تنعم بحكم رشيد يستند إلى المساءلة والشفافية.
إلا أن أملاً كبيراً لطالما انتظرناه، يتعلق بأداء حكومى مختلف، به نثق فى قدرتنا على إنجاز «الدولة الدنية الحديثة». خاصة وأن الأركان الدستورية باتت مكتملة، وما علينا إلا البناء عليها عالياً إلى آفاق عالية لم تبلغها مجتمعات تقدمت، إلا بقيم ومبادئ «الدولة المدنية الحديثة». 
أقول ذلك والوطن يعيش مرحلة دقيقة من التحول الحقيقى نحو اقتصاد حر منفتح بحق على فرص حقيقية نحو الترقى إلى ما يمكن أن يحقق التطلعات الشعبية المتنامية فى حياة كريمة حرة. 
غير أن تفاوتاً هائلاً بات ملحوظاً بين أداء وزارات ومؤسسات الدولة، على إثره علينا مراجعة الأمر بجدية عسانا نزيل من قاموسنا السياسى مفهوم «الجزر المنعزلة» العتيق داخل البيروقراطية الحكومية. من ذلك أن قرار تعويم الجنيه المصرى، أى تحرير سعر الصرف، وإن كان أمراً قد لقى ترحيباً كبيراً من المجتمع الدولى، إلا أن ما تبعه من مشكلات وأزمات تؤكد أن تنسيقاً واجباً غاب عن جميع مكونات الدولة، فلم نتبين وندرس تداعياته الضخمة على كثير من قطاعات الاقتصاد القومى، فنستعد لها بمبادرات جادة وبدائل حقيقية.
إذ لا يكاد يخلو يومنا من ظهور مشكلة بسببه فى شتى قطاعات الدولة، سواء فى مجال الأدوية وغيابها وارتفاع أسعارها ومشادات إعلامية بين وزير الصحة وشركات صناعة الدواء، لم تتخلف عن المشاركة فيها نقابة الصيادلة، ونقابة الأطباء كذلك!، وما زال المواطن ينتظر حلاً كان ينبغى أن نستعد له قبل إصدار قرار تعويم الجنيه. والحال نفسه فى مجالات الأسمدة وغيابها وامتناع المصانع عن توريد إنتاجها طلباً للزيادة، بعد الزيادة التى تحققت بالفعل، ورفعت أسعار جميع المنتجات الزراعية!، بينما الامتناع عن توريد المحاصيل من المزارعين أعجز الدولة عن توفير الكثير من السلع الإستراتيجية مثل السكر والأرز. 
والحال نفسه فى تكاليف طباعة الكتب المدرسية التى بلغت حدوداً هددت بعدم طبعها!.
والحال نفسه لو اتجهنا شطر صناعة الدواجن وما نالها من تخبط حكومى، ما بين قرار إلغاء الجمارك على المستورد منها، ما نتج عنه ثورة أصحاب المزارع، وبين إلغاء قرار الإلغاء فى غضون ساعات قليلة بعد اتفاق وهمى هش بين الحكومة وأصحاب المزارع على التوريد للمجمعات الحكومية بأسعار محددة، سرعان ما تجاوزتها الحكومة نفسها فيما تطرحه من دواجن تستوردها بمعرفتها!، فكان طبيعياً أن ترتفع أسعار المنتج المحلى إلى ما هو أبعد كثيراً من الحد الذى سبق وأغضب الحكومة فأعلنت إلغاء الجمارك!، قبل أن ترتد عنه سريعاً. 
على خلفية ما سبق، يبدو مفهوم «الشفافية»، أحد مكونات مفهوم «الحكم الرشيد»، فى مأزق كبير بينما الحكومة تخاطب الرأى العام، وفى ذلك المقام ينهض السيد وزير التموين بدور ملحوظ؛ إذ تنهمر تصريحاته الغريبة، لعل أكثرها مرارة: «أزمة السكر وأهمية وسلوكيات المواطنين السبب»!!!. (البوابة نيوز، الخميس ٥ يناير)، ذلك التصريح المدهش الذى تداولته كل وسائل الإعلام.
الأمر الذى يضفى كل المشروعية على أسئلة، عساها مكروهة من البعض، لطالما تجمدت فى الصدور، ليس أقلها: هل لذلك يطمح دعاة «الدولة المدنية الحديثة» فى حكومة سياسية منتخبة؟!. فليس إلا بهم وحدهم تخاطب الدولة الرأى العام بخطاب موضوعى ينال مصداقية حقيقية فى الشارع. 
غير أن الأمر هنا علينا أن نصله بالإعلام عموماً ودوره المتعارف عليه فى بناء «الدولة المدنية الحديثة»، وموقعنا فى هذا الصدد، وهو ما سنفرد له حديثنا الأسبوع المقبل بإذن الله.