الإثنين 27 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

حروب أهلية شاملة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
نشهد، فى عموم المشرق العربي، على ما يقال لنا اليوم، كلّ ما يدعو إلى التفاؤل والثقة بالغد. لقد «تحرّرت» حلب و «تتحرّر» الموصل، ويستعدّ باقى العراق وسوريا لاستكمال «التحرّر»، فيما «يتعافى» لبنان من الشغور، وتتشكّل فيه حكومة عتيدة... هكذا يتراءى كم صارت السياسة ولغتها ووعودها عديمة الصلة بالواقع وأسئلته، ما عدا صلة تقنيعه وتزويره، فيما الحرب الأهليّة، المندلعة منها والضامرة، تكرّس نفسها كقانون أوّل للحياة فى ربوعنا. وحتّى لو وضعنا جانبًا علاقات المذاهب والطوائف والإثنيّات فى العراق وسوريا، وفى لبنان أيضًا، أو الانشطار السياسى الفلسطينى ما بين سلطتى «فتح» فى الضفّة الغربيّة و «حماس» قطاع غزّة، أو الحبّ المفقود فى الأردن بين فلسطينيّيه وشرق أردنيّيه، تبقى ماثلةً أمامنا حروب الوطنيّات التى لا تبرأ وطنيّتها من الطائفى والإثنى بوصفها نسغها المغذّى.
فإن جاز لنا الحديث عن تيّارات عريضة للأمزجة والتموضعات الوطنيّة، أمكن القول إنّ التصدّع المقيم فى كلّ واحد من أوطان المشرق العربيّ إنّما يزدوج ويتضاعف عند النظر إلى المشرق ككلّ. فالمزاج الأكثريّ السوريّ والسنّيّ يجافى، بقدر ما تجافيه، أمزجة الأكثريّة العراقيّة والشيعيّة، والأكثريّة اللبنانيّة الملتفّة حول «تفاهم» شيعيّ مسيحيّ مطمئنّ إلى الوضع القائم، والأكثريّة الفلسطينيّة التى ترفض، باستثناء هامش إسلامي عريض فيها، أيّ شراكة ثوريّة، رمزيّة أو فعليّة، مع ميراث الثورة الفلسطينيّة وتركتها. والترابط هذا بين التصدّع فى كلّ واحد من البلدان والتصدّع العابر للبلدان، على نطاق الإقليم، هو إحدى الثمار «الطبيعيّة» لتعاظم التبلور الطائفيّ، حيث تغدو للطوائف سياسات خارجيّة ودفاعيّة وثقافيّة توثّق ربطها بمن يماثلونها فى الخارج، بينما تتوّج القطيعة القائمة بينها وبين «شركائها» فى الداخل.
وما يزيد الوضع سوءًا أنّ مأساة اللجوء الفلسطينيّة حلّت على نطاق أوسع بالسوريّين والعراقيّين، وهو ما فاقم ويفاقم صعوبات الاستواء الوطنيّ وإمكانيّة التفكير فى برامج وصيغ للتعامل مع جماعات توزّعت على بلدان وأنماط حياة عدّة، بما فيها بلدان وأنماط أوروبيّة. والحال أنّ انهيار القاعدة الترابيّة الجامعة للسوريّين والعراقيّين لا يعمّم التجربة الفلسطينيّة فحسب، بل يعمّم كذلك التجربة الكرديّة التى أنتجها تقاسم عدد من الدول كردستان التاريخيّة وسكّانها. وهذا، على الأقلّ، ما بدأت تسرّبه خرائط منسوبة إلى «مصادر» قد يجوز التشكيك فيها وبدقّة مرجعيّتها، من غير أن يجوز التشكيك فى احتمال أن يكون تغيير الخرائط علاجًا للواقع الراهن. ولوحة كهذه تنبّهنا إلى خواء أعمال «التحرير» الجارية، بل إلى خطورتها، كما تلقى الكثير من الضوء الفاضح على ما يوصف بأنّه «إنجازات» و«نجاحات» هنا وهناك. لكنّ اللوحة إيّاها تقول لنا أيضًا كم بات من الصعب الكلام عن أوطان ووطنيّات، أو الرهان على قدرة مجتمعاتنا على إنهاض ثورات وتغيير قابل للحياة.وقد يقال، كما يفعل بعض الدبلوماسيّين، إنّ المنطقة فى حاجة إلى توافقات تستند إلى تصوّر يستوحى العدالة، أو يكون قريبًا من العدل، فى انتظار التوصّل إلى حلول ممكنة. وقد يقال أيضًا، كما يفعل بعض الإستراتيجيّين، إنّ الحاجّة غدت ماسّة إلى إعادة النظر بصيغ الاجتماع الوطنيّ وإطاراته فى كل واحد من البلدان، خصوصًا مع هيمنة الحرب الأهليّة المفتوحة على أشكال التبادل السياسى الأخرى، من دون أن تظهر فى الأفق احتمالات علاج فعليّ. لكنّ المؤكّد أنّ شيئًا واحدًا بات قوله أقرب إلى المسخرة المطنطنة، وهو استرجاع الماضى بأدوات تحليله وتصوّر دوله وأنظمته ومحفوظاته العقائديّة القديمة، صعودًا إلى التفاؤل بالمستقبل بعد «لمسة إصلاحيّة» لا تخلو من رشاقة.
نقلًا عن «الحياة اللندنية»