الثلاثاء 07 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

صلاح جاهين.. المقاومة بالفن

صلاح جاهين
صلاح جاهين
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

الشاعر الفيلسوف الذي تكلم فى رباعياته عن تأملات عميقة بلغة سهلة وتلقائية، كما تكلم بلسان حال البسطاء وعشق الوطن حتى الثمالة، فكتب أغانيه الخالدة التي يستحضرها التلفزيون كل عام في المناسبات الوطنية، إنه الشعر ورسام الكاريكاتير والممثل صلاح جاهين.

ولد صلاح جاهين في مثل هذا اليوم الخامس والعشرين من ديسمبر عام 1930 بحي شبرا في شارع جميل باشا، وهو الأكبر بين إخوته، كما أنه الطفل الوحيد على بنات ثلاث، هن: بهيجة، سامية، وجدان.

والده المستشار بهجت حلمي، الذي تدرج في السلك القضائي بدءًا من وكالة النيابة حتى أصبح رئيسًا لمحكمة استئناف المنصورة.

وقد عرف عن جاهين في صغره الهدوء والبراءة والهوايات الرقيقة، فكان يعشق الرسم وصناعة الألعاب اليدوية ومنها العرائس، مقلدًا بذلك والدته التي كانت تصنع بعض اللعب بالطين.

كان جاهين أيضًا مولعًا بالقراءة، دؤوبًا في المطالعة، وقد أتاحت له مكتبة جده السياسي والكاتب "أحمد حلمي" –الذي يحمل أحد شوارع حي شبرا اسمه- مجموعة من أمهات الكتب، فراح يعبّ من وردها ليكوّن ثقافته الموسوعية الرفيعة التي نرى أثرها واضحًا في قصائده وأغانيه.


بدأ جاهين كتابة الشعر أثناء مراهقته، وكان رائد العامية، ينظمه بالفصحى أولًا حتى غلبت عليه العامية وبالأخص عند قراءته لإحدى قصائد زميله وتوأمه ورفيق دربه الشاعر فؤاد حداد.

وقد حاول جاهين أن يلتحق بكلية الفنون الجميلة، لكن والده المستشار أصر على أن يدخل كلية الحقوق فمنها يخرج الوزراء، وقد أعاد جاهين المحاولة إبان دراسته بالفرقة الثالثة لكنه أحجم عن ذلك وقرر أن يبقى كما هو، وحصل على شهادة الليسانس.

ثم توجه مباشرةً إلى الصحافة، وفي منتصف الخمسينيات ارتبط اسمه بمجلتي روز اليوسف وصباح الخير، وفيهما تفوق على نفسه وذاعت شهرته كرسام للكاريكاتير، وكانت له صفحة أسبوعية يملأها بريشته ويتلهف عليها القراء.

وفي مطلع الستينيات واصل عمله الفني بجريدة الأهرام، وكانت له معركة ضروس مع الشيخ محمد الغزالي، بعد رسوم لاذعة أثارت حفيظة الإمام، لكن الأمر انتهى بالصلح بينهما.

كان جاهين يؤمن بالثورة كلًا وجزءًا، وكان يقينه بها يشبه يقين المتصوفة، فلا عجب إذا كان هو صوتها وحاديها وكاتب أغانيها الخالدة، وعلى قدر إيمانه بها جاءت هزيمته النفسية واكتئابه الشهير الذي لم يتخلص من آثاره حتى وفاته عام 1986.


لقد صدق جاهين حلمه، واعتقد أن الثورة بيدها مفتاح سحري بإمكانه أن يضع البلاد في مصاف العالم الأول، فلا نستغرب إذن من قوله في إحدى أغانيه إنه يحلم بأوبرا في كل قرية وتماثيل رخام على الترعة!، حتى إذا جاءت النكسة انتكست معها روح جاهين الشفافة وقلبه المرهف، وأحس بضياع الحلم وتبخره، وماذا يفيد الإنسان إذا عاش بلا أمل؟!. لذلك لا يدهشنا أنه ألّف بعد ذلك بعض الأفلام والأغاني الخفيفة التي قد يراها البعض غير مناسبة لقامة جاهين وقيمته، وما ذلك إلا لأن حكاية الوطن الكبرى قد سقطت، ولم يعد هناك أيّة جدوى للإفراط في الحلم، فالواقع كان صادمًا إلى حد كبير، والمعاني الجبارة التي كان يتغنى بها الشعراء لم يعد لها تأثير على متلقيها الذي أصابته الهزيمة بإحباط شديد وخيبة أمل موغلة.

لكن حبّ جاهين لجمال عبدالناصر لم يتوقف وزاده رحيله كآبةً وألمًا، ومع وفاة الزعيم انتهت مرحلة الشعر الثوري لدى جاهين، لتبدأ مرحلة جديدة توازى فيها الشعر التأملي العميق مع كتابة سيناريوهات الأفلام وأغانيها، والدخول إلى عالم الإنتاج السينمائي بفيلمي: "أميرة حبي أنا" و"عودة الابن الضال"، وكتابة الفوازير، وكل ذلك لم يكن له نفس الوهج الذي كان لأعمال جاهين في الفترة من منتصف الخمسينيات وحتى عام 1967، وذلك لو استثنينا قصائده التي جنحت إلى التأمل والفلسفة واتسم بعضها بالحكمة وبعضها الآخر بالحس العدمي، ولا ننسى أيضًا رائعته "على اسم مصر".


يعرف الناس -أو معظمهم- صلاح جاهين شاعرًا أكثر منه رسامًا للكاريكاتير، وذلك رغم تأكيد رواد فن الكاريكاتير على براعة جاهين وتفرده في هذا الفن، وأن تجربته فيه تستحق الرصد وتتطلب اهتمامًا موازيًا لاهتمامنا به كشاعر أو مؤلف أغانٍ.

عرف جاهين فن الكاريكاتير مبكرًا وتحديدًا منذ عمله بمجلة روز اليوسف، وقد أيقن "هيكل" -بحكم خبرته الصحفية- أن استحضاره لجاهين رسامًا للكاريكاتير في الأهرام هو ممّا يضيف إلى جريدته، وبالفعل كان ذلك، ففي وقت كان الرسامون أو بعضهم يعانون من فقر في الخيال والموضوعات والإفراط في نكات مبتذلة وغير ذات معنى، كان جاهين يتكلم في رسوماته عن هموم اجتماعية وموضوعات سياسية وسلبيات حاربها بريشته وقلمه، ولم يخل رسمه بعد ذلك من خفة ظل مصرية وطرافة يتسم بها الكاريكاتير عمومًا كفن.


جاهين كان يراعي أنه يرسم في جرائد يقرأها أساتذة الجامعات والموظفين والطلبة وأنصاف المتعلمين، فكان يحرص على التواصل مع المتلقي ويبسط الأمور الضخمة بغير تسطيح أو إخلال فكانت رسوماته على عمقها تخرج مفعمة بالسخرية فيضحك لها القارئ ويتفاعل معها ويستمتع بها.

ففي رسومات صلاح جاهين اهتمامًا بالتفاصيل؛ فهو إذا رسم بيتًا -كمثال- وجدنا الملابس والمتعلقات والسجاد والتلفزيون تمامًا كما لو أننا في منزل مصري حقيقةً.

وفي مجال الكاريكاتير خرجت رسومات جاهين أحيانًا شائكة وحساسة وأدخلته في بعض المعارك القضائية؛ ففي عام 1962 انعقد المؤتمر الوطني للقوى الشعبية تحت رئاسة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، وشارك فيه الإمام محمد الغزالي -رحمه الله- الذي طالب في كلمته بـ"تحرير القانون المصري من التبعية الأجنبية، وتوحيد زي المصريين، وضرورة احتشام المرأة"، ورأت بعض الجهات في ذلك حجرًا وتزمتًا وخروجًا عن المواضيع الحيوية المتماسة مع واقع الشعب وآماله، وفي اليوم التالي رسم صلاح جاهين صورة الإمام الغزالي يلقي كلمته منفعلًا بينما وقعت عمامته على الأرض، وتحت الرسم علق ساخرًا "يجب أن نلغي من بلادنا كل القوانين الواردة من الغرب كالقانون المدني وقانون الجاذبية الأرضية"، وغضب الشيخ الغزالي، وفي جلسات المؤتمر خلال اليوم التالي هاجم صلاح جاهين، فما كان من جاهين إلا أن رد بكاريكاتير أكثر سخونة يتندر فيه من آراء الشيخ في المرأة والزي الذي تلبسه.

وبدوره علق الشيخ الغزالي على ذلك بالمؤتمر وشرح موقفه، وقال: إن اعتراضه منصب على تبعية الشرق العربي لقانون فرنسي لا يعبر عن هويته، وأنه لا يهاجم العلم ونظرياته الثابتة كالجاذبية، وأنه لا يقبل سخرية جاهين من عمته الأزهرية، وأنه لم يركز على الأزياء وانما جاءت هذه المسألة ضمن سياق عام تكلم فيه عن أشياء عدة كان موضوع الزي من بينها، ثم ختم الشيخ الغزالي كلمته بقوله: "إن هذا المؤتمر يعطي الحق لكل فرد أن يقول الكلمة الأمينة الحرة التي يجب ألا يُرد عليها بمواويل الأطفال في صحف سيارة ينبغي أن تحترم نفسها".


واشتعلت المعركة بهذه الكلمات التي استثارت محمد حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام وقتها لينشر في اليوم التالي تحت عنوان "كلمة الأهرام" تعليقًا جاء فيه: "إن الأهرام تقدس الدين وتحترمه، لكنها ترفض محاولات الشيخ الغزالي أن يجعل من الخلاف في الرأي بينه وبين صلاح جاهين رسام الجريدة قضية دينية، وأن الجريدة تؤمن بحرية الرأي لذلك تنشر نص كلمة الغزالي احترامًا لحقه في إبداء رأيه مهما كان مختلفًا مع رأي الجريدة مع إعطاء الحق لجاهين أن يبدي رأيه هو الآخر فيما يقوله الشيخ"، وفي الصفحة السابعة من الجريدة تم نشر كاريكاتير آخر لجاهين يصور أطفالًا بؤساء وقد حملوا لافتة كتب عليها "أين الكساء يا مشرع الأزياء، لماذا لا تتكلم إلا عن ملابس النساء؟!" فيما يظهر الغزالي معترضًا طريقهم صارخًا فيهم: "مابتكلمش عنكم يا جهلاء لأنكم ذكور وما ظهر من جسمكم ليس عورة"!.

وفي صباح اليوم التالي فوجئ القراء بعدد غير مسبوق من رسومات جاهين، ست صور بعنوان "تأملات كاريكاتيرية في المسألة الغزالية"، وفي إحدى الصور الغزالي راكبًا جوادًا على طريقة أبي زيد الهلالي ووجهه مصوب نحو ذيل الفرس بينما يحمل رمحًا كتب عليه "الإرهاب باسم الدين" وتحت الرسم تعليق زجلي ساخر على شاكلة أشعار السيرة الهلالية.


فقام الشيخ الغزالي بنقل المعركة إلى المنبر وألقى خطبة حماسية بليغة جعلت المصلين وأغلبهم من طلبة الأزهر يحملونه بعدها على الأعناق ثم توجهوا إلى مبنى الأهرام وتعالى هتافهم معتبرين صلاح جاهين عدوًا للإسلام، ولم يكتفوا بذلك بل رموا البناية بالطوب وكسروا واجهتها الزجاجية، فغضب هيكل من هذه التصرفات واتهم الغزالي في اليوم التالي بتحريض المتظاهرين.

وفي نفس العدد نشرت الأهرام كاريكاتيرًا لجاهين يصور فيه نفسه مع الغزالي في المحكمة وقد رشقه الإمام بخنجر كتب عليه "الإرهاب"، وكان على المسئولين بعد ذلك التدخل الفوري والحاسم لفض المعركة التي أصبحت تهدد الأمن العام، واتصل نائب الرئيس السيد كمال الدين حسين حسبما نشرت الأهرام بهيكل مطالبًا إياه تجاوز الخلاف والتأكيد على احترام الدين وإجلاله كأمر يحرص عليه الجميع، والانصراف إلى مناقشة الميثاق، كما طلب حسين وديًا إجراء مصالحة بين الغزالي وجاهين وتم الصلح بالفعل.

لكن جاهين بقي مشاغبًا في ميادين أخرى ومثلت رسوماته صرخة رفض للإهمال والبيروقراطية وسلبيات المجتمع حتى وفاته عام 1986.