الجمعة 17 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مواسم «فتاوى» شيوخ الفتنة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أندهش لدرجة الحيرة، حينما أكتشف أننا مطالبون بإثبات البديهيات، ومستدرجون للبحث عن أدلة منطقية تتسق مع العقل ولا تخالف صحيح الإسلام، ليس من باب الإصرار على صواب الرؤية، أو التأكيد على البديهيات (المسلمات)، إنما بهدف تسويق الأدلة، لإقناع أدعياء المعرفة بكل شىء، ممن يتبارون فى إصدار الفتاوى، اللقيطة، مجهولة النسب، الفتاوى، الضالة، المضللة، لإلصاقها بالإسلام وتشويه صورته، والإسلام منها براء.
الدهشة داهمتنى أثناء جلسة سهر عادية، جرت خلالها مناقشات عبثية لم أكن أتوقعها، مناقشات مشوشة، هلامية، لا يستطيع أحد، مهما كانت براعته، توجيه بوصلة الحوار، والقدرة على الإمساك بتلابيب موضوع ما، أو الوقوف على ناصية قضية بعينها، فالأحاديث متنافرة، ومتناثرة فى كل اتجاه، كل يتحدث فى شأن يختلف عن الذى يتحدث فيه الآخر من الأزمات الاجتماعية إلى السياسة ومن الاقتصاد إلى الأوضاع الإقليمية، وبالمناسبة، هذا هو حال المصريين جميعا.
لكن، فجأة وبدون مقدمات محفزة بالأساس على طرح التساؤلات المريبة فى ظاهرها، المنفرة فى مضمونها. 
سألنى أحد الجالسين بجوارى، قائلا.. هل ستهنئ المسيحيين فى عيدهم؟
كان التساؤل مستفزا، على الأقل بالنسبة لى، ومثيرا للاشمئزاز فى طريقة إلقائه، وقبل أن أبادر بالرد عليه، واصل ذات الشخص سيل كلامه، المشحون بالكراهية، لذا قررت أن أصمت، لكى يصل لمنتهى ما يصبو إليه، وأتيقن من مبتغاه، خصوصا أن إثارة الجدل فى هذا التوقيت حول قضية أسدل عليها الستار أكثر من مرة، بعد جدل عقيم، لا يخلو من قصد سيئ.
راح محدثى يتقيأ بأسئلة ويجيب عنها بنفسه، وهو ينظر مشدوها نحو شاشة هاتفه، متصفحا أحد مواقع الترويج للتطرف، وكأنه يلوح بالدليل القاطع.. هل تعلم أن تهنئتهم حرام شرعا، بحسب شيخ الإسلام ابن تيمية.. هل تعلم أن الشيخ محمد بن صالح العثيمين أفتى بأن تهنئة الكفار بعيد الكريسماس أو غيره من أعيادهم الدينية حرام بالاتفاق، كما نقل ذلك ابن القيم فى كتابه «أحكام أهل الذمة» حيث قال: «وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وأشد مقتًا من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحوه، لأن فيها إقرارًا لما هم عليه من شعائر الكفر، وإذا هنؤونا بأعيادهم فإننا لا نجيبهم على ذلك لأنها ليست بأعياد لنا».
انتهى من قراءة ما أورده، وكتبنه نصا بعد الرجوع للموقع، قلت له: أنا لن أبحث عن أدلة لدحض فتاوى الشيطان، كما أننى من ناحية أخرى لست فقيها فى الأمور الدينية، ولا أزعم أننى عالم بالقواعد الفقهية على إطلاقها، وما أعرفه عن الدين هو كل ما أؤمن به ويتسق مع المنطق ويتقبله عقلى، شأنى فى ذلك شأن غالبية المسلمين على اتساع الكرة الأرضية، كما أننى أعلم بحكم قناعاتى التى شكلت عقيدتى، ولو اختلف معها كثيرون، بأن ما يرسخ للفتنة والفرقة وتغييب العقل، ليس بدين من الأساس، وأتباعه ليسوا بمسلمين ولا يعرفون عن الإسلام شيئا، فالأديان السماوية جميعها يدعو للرحمة والتسامح، الأديان لا تصنع القلاقل فى المجتمعات ولا تدعو لتخلفها، الأديان تمجد قيمة العقل والعلم فتنهض الأمم وتتقدم، لذا فإن كل ما استندت إليه فتاوى شيوخ الظلمة، هى بالنسبة لى «هرتلات»، كما أن الذين وصفتهم الفتاوى بالكفر ليسوا كفارا، بل أهل كتاب، كما أن الشيوخ الضالين المضللين الذين يكفرون غيرهم يعيشون فى كهوفهم، يستخدمون كل ما تنتجه العقول التى يصفونها بالكافرة، من دواء وتكنولوجيا، ووسائل اتصال حديثة، وغير ذلك، فهؤلاء الكفار استخدموا العقل واستفادوا من الإسلام فى تقديس العمل والاجتهاد، من أجل خدمة الإنسانية ورقيها، وصناعة المحبة والألفة بين البشر، لكن شيوخ الفتنة فى هذا الزمن البغيض تفرغوا لإثارة قضايا وضيعة، تنفر من المسلمين وتحقر من شأنهم أمام شعوب العالم.. إن هؤلاء المفسدين لا يعرفون عن صحيح الإسلام شيئا، فالإسلام أجاز الأكل من طعام أهل الكتاب، كما أنه ذهب لأبعد من ذلك، فأجاز الزواج من نسائهم قال تعالى: «الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْـمُحْصَنَاتُ مِنَ الْـمُؤْمِنَاتِ وَالْـمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ» (المائدة: ٥).
كلنا يعلم أن الزواج به مودة ورحمة وحب بين الزوجين، قال تعالى: «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» [الروم: ٢١]، ومن الطبيعى أن يتبع الزواج نوع من التواصل الإنسانى والاجتماعى بين الزوج وأهله والزوجة وذويها، أى أهلها الذين يصيرون أصهارًا وأجدادًا وجداتٍ وأخوالًا وخالاتٍ للأبناء، وهذه الصلات تستلزم التواد والتراحم، وتبادل الزيارات، كما أن الإسلام أجاز بوضوح تهنئة المسيحيين، وتقديم الهدايا لهم، شريطة ألا تحوى التهنئة أو الهدية مخالفة شرعية.
وإذا كان العقل يفرض علينا الأخذ من القرآن والسنة وما يقره علماء الدين ممن له وحدهم الحق فى إصدار الفتاوى المتعلقة بالأمور الحياتية والعلاقات الإنسانية، فإن علينا الأخذ بما انتهت إليه دار الإفتاء المصرية، أصدرت فتوى أسدلت بها الستار على فواصل العهر الدينى، الذى صار وسيلة للاسترزاق، الفتوى تجيز للمسلمين تهنئة المسيحيين فى أعيادهم، واشترطت ألا يكون فى ألفاظ التهنئة ما يخالف العقيدة الإسلامية، بل وصفت أن تهنئتهم فى أعيادهم نوع من أنواع البر والإحسان، اعتمادا على قول الله تعالى: «لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ»، وأكدت دار الإفتاء أن الله سبحانه وتعالى لم ينهنا عن تهئنة المسيحيين فى أعيادهم بل أمرنا ببرهم.
أيضا إنها استدلت على ذلك عن طريق قبول الرسول صلى الله عليه وسلم هدايا الملوك المرسلة إليه، فقد قبل الرسول صلى الله عليه وسلم هدايا كسرى وقيصر ولم يردها، ألم تكن هذه إجابات شافية لردع مروجى الفرقة داخل المجتمع.
أنا هنا لا أنكر واقعا ترسخ فى الأذهان بفعل سلبية العلماء، وعدم المبادأة الآن وليس غدا، لتطوير الخطاب الدينى وتنقية الكتب التراثية التى صارت مرجعية لفاقدى العقل والروية يتعلقون بتلابيبها للإبقاء على مجتمعاتنا متخلفة، تدور فى فلك قضايا عبثية، مثل، هل التهنئة لغير المسلمين حرام أم حلال؟
ويكاد الأمر يصل إلى درجة الجنون حينما تجد الطرف الآخر يرميك بالكفر ويعلن خروجك عن الملة، ليبيح دمك، من دون أن يدرك أنه يغوص بحماقة فى مستنقع التطرف والتزمت ومعاداة الإنسانية، وأن ما يرمى إليه ليس سوى رغبة دفينة فى عقول مريضة لا تدخر جهدا فى أن تظل مجتمعاتنا بهذه الصورة البغيضة. المناقشة الصاخبة، جاءت على أثر الفتاوى القبيحة، التى تزامنت مع استعداد المصريين للاحتفال بأعياد الميلاد، الأمر الذى حفزنى على متابعة مواقع التواصل الاجتماعى، وجدت معارك وهمية تدور فى فلك فتاوى البغضاء، انقسم المتبارون بين منحاز ومؤيد وطرف آخر يرفض ويتأفف من سيل الفتاوى المحرضة على الفرقة والانقسام بين مجتمع متجانس، رغم تنوع مذاهبه الفكرية وعقائده الدينية، الكل ينحاز لوجهة نظره وفق رؤيته لمعتقداته الدينية، رغم أن الأديان السماوية لم تنزل من السماء لإثارة الفتنة أو خلق مناخ العداوة داخل المجتمعات، بل دعت جميعها للتسامح.