الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

"أكاذيب صغيرة".. حلقات خاصة من مذكرات راقصة متقاعدة "2"

الكاتب مصطفى بيومي
الكاتب مصطفى بيومي فيفي عبدة ولوسي وسعاد حسني ودينا
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تنشر «البوابة» رواية - تحت الطبع - للكاتب مصطفى بيومى، تحمل عنوان «أكاذيب صغيرة» وهى عبارة عن مذكرات راقصة معتزلة اعتمد فيها «بيومى» على طريقة جديدة فى الكتابة حيث ينشر نص الكلام كما جاء على لسان بطلته التى أشار إليها باسم «ليلى رمزى» ثم يعيد صياغته أدبيًا مرة أخرى من خلال كاتب محترف.


على لسان ليلى
والله كلامك زى العسل يا سى مختار.. الله ينور عليك ويزيدك من فضله.. شوف بقى.. أنا هاأقولك الحق والبركة فيك.. بإيديك الحلوين دول ومخك النور.. تتصرف وتشيل الشوك والحاجات اللى مش هيا.. قولتلى يا سيدى.. مشوارى الفنى ابتدا إزاي؟.. بالصدفة قريت إعلان فى الأخبار.. عايزين وجوه جديدة فى فيلم استعراضى بالألوان.. الكلام ده كان فى آخر سنة واحد وسبعين.. ولا يمكن أول اتنين وسبعين.. والنبى مش فاكرة.. هو أنا يعنى مخى دفتر؟.. بس هو كان يوم شتا جامد.. والدنيا بتمطر.. تانى يوم لبست فستان أحمر قصير فوق الركبة بشبر.. وعليه بالطو أسود محزق.. اتخيل أنت بقى.. بشرتى البيضا زى الحليب.. ووشى القمر المنور.. عملوا إيه فى المكتب.. شقة صغيرة فى عمارة قديمة عند المعبداليهودى فى شارع عدلى.. ثورة يا أستاذ مختار.. ودين محمد ثورة.. رحت لقيت عشرين خمسة وعشرين بنت.. الشهادة لله فيهم اتنين تلاتة حلوين قوى.. يفكوا من على حبل المشنقة. لكن الباقى عادى وأى كلام.. الراجل العجوز اللى قاعد يسجل الأسماء.. قعد يبصلى قوى.. وحسيت من عينيه إنى أحلى واحدة فى البنات.. بعد ما كتب البيانات قالى إن الأستاذ رياض ها يقابلنا بالدور.. قعدت أفكر وأسأل نفسى.. مين الأستاذ رياض ده؟.. مخرج ولا منتج ولا ممثل ما أعرفوش؟.. لما دخلت أقابله لاقيت راجل عنده ييجى خمسين سنة.. صابغ شعره ومتعطر ومتغندر.. عرفت بعد كده إنه ريجسير.. يعنى بيورّد الأنفار للسيما.. الحيطان مليانة صور لمحمود المليجى ونادية لطفى وفريد شوقى ورشدى أباظة وسعاد حسنى وزبيدة ثروت.. شاور عليهم وقالى إنى ممكن أكون زيهم.. المهم يا سيدى.. يومها كانت أول خطوة.. عطيته عنوانى فى الشغل.. ونبهت عليه إن أبويا وأمى ما يعرفوش حاجة.. وعدنى إنه هايعدى عليا أو يبعتلى حد لو فيه أوردر.. طبعًا كان لازم أبلغ أبويا.. حكم الكدب مالوش رجلين.. بينى وبينك كنت خايفة قوى.. لكن اللى طمنى إن أول حاجة أبويا الله يرحمه سألنى عنها.. هايدونى كام فى اليوم؟.. ساعتها عرفت إن ما فيش مشاكل.. حتى لما رياض بعتلى الراجل العجوز ورحت أقابله.. وعرفت إنى ها أرقص مش ها أمثل.. حسيت إن أبويا مش هايعارض.. على فكرة أول فيلم عملته كان اسمه السكرية.. مع الأستاذ حسن الإمام.. طبعًا اسمى ما نزلش فى الإعلانات.. كان فيه حتة صغيرة كده فى الفيلم عن كباريه ورقص وغنا.. لا والنبى يا عبده.. كنا عشر بنات ولا خمستاشر.. بنتهز وحوالينا شوية أفندية لابسين طرابيش.. الفيلم اتعرض سنة تلاتة وسبعين.. وكنت عملت بعديه فيلمين تلاته مش فاكرة أساميهم.. الأهم من دا كله يا سيدى إنى اتجوزت.. عارف مين؟.. عمك رياض.. جه لأبويا وخطبنى.. ما كانش فيه فرح ولا حاجة.. عشت على ذمته سنتين.. أنا معايا قسيمة الجواز.. أغسطس سنة اتنين وسبعين.. بعد ما اتجوزته شفت إسكندرية أول مرة.. بس أمى لغاية ما ماتت ما كانتش راضية عن الجوازة.. تضرب كف بكف وتقول شابة عندها عشرين سنة تتجوز واحد أكبر من أبوها؟.. وتغنى زى عزيز عثمان ما كان بيتريق على نجيب الريحانى.. بطلوا ده واسمعوا ده.. الغراب يا وقعة سودا.. جوزوه أحلى يمامة.. أبويا كان مصاحبه وبيشرب معاه كل ليلة.. كانوا فى سن بعض.. بينى وبينك هما الاتنين استغلونى.. الله يرحمهم بقى.. بعد أبويا ما مات وحصّل أمى وأخويا أنور.. رياض اتغير.. طوّل إيده عليا.. كان بياكل عرقى.. هو اللى ودانى شارع الهرم وشغلنى فى الأفراح.. وكل فلوسى مضيعها ع الخمرة والقمار.. بصراحة طهقت.. وقبل ما نكمل السنتين اتطلقنا وكل واحد راح لحاله.. الله يرحمه بقى ويتجاوز عن سيئاته.. وعلى فكرة سيئاته كتير بس ربنا أمر بالستر.. ضحك عليا وفهمنى إنى ها أبقى زى سعاد حسنى.. وفى الآخر رسيت على شوية أدوار كومبارس بكام جنيه.. أجرت شقة فى الزمالك وعشت فيها لوحدى.. وركزت على الرقص.. بدأت أتعرف فى شارع الهرم.. وبعد الانفتاح العملية زاطت والأشيا بقت معدن.. لكن شفت الموت بعينيا فى الهوجة بتاعة سبعة وسبعين.. بص يا سى مختار.. ربنا كرمنى آخر كرم.. وقعدت عشر سنين أرقص واشتهر وأحيى أفراح.. ما يمنعش برضه أطلع فى دور صغير ما حدش ياخد باله منه.. لكن من سنة خمسة وتمانين بدأت أعمل أفلام كتير قوى.. فيلمين تلاته فى السنة.. كانوا بيقولوا عليها أفلام مقاولات.. ما أعرفش ليه.. لكن يظهر إن دى شتيمة الأفندية.. الفيلم من دول كان يتشَطَّب فى أسبوعين تلاتة.. ويتكلف ملاليم.. يتعرض أسبوع ولا ما يتعرضش خالص.. ويتعبى فيديو.. واللى بعده.. أنا كسبت فلوس كتير قوى من الأفلام دى.. ولما أتجوزت المخرج جمال أنور.. الله يرحمه ويحسن إليه.. أدوارى كبرت.. لكن عمرى ما كنت بطلة.. كان لازم يحطوا اسم مشهور فى الأول.. حتى لما بقيت أنا اللى بأنتج.. تعرف يا سى مختار.. كنت بأمثل وأغنى وأرقص طبعًا.. وألبس أحلى فساتين وأعمل أجدع مكياج.. وأمثل قدام العتاولة الكبار اللى كنت بأسمع عنهم.. لكن ما فيش نصيب.. شوية بشوية لقيت اليأس ركبنى.. كأن معمولى عمل.. نفسى انسدت عن التمثيل.. وشركة الإنتاج فضيتها.. جربت أعمل مسلسل بس ما كملش واتعطل.. انت بتصدق فى السحر والعكوسات يا أستاذ مختار؟.. أنا بأصدق.. السحر فى القرآن يا أخويا.. المهم.. فى يوم صحيت لقيت نفسى عندى خمسة وأربعين سنة.. عمرك شفت ممثلة اشتهرت واتعرفت فى السن دي؟.. ما تجيش طبعًا.. ما ينفعش.. بينى وبينك قلت خلاص ما فيش رجا من صنعة التمثيل دى.. ولما يجينى دور ألاقيه رقاصة ما بتقولش كلمتين على بعض.. الله الغنى.. اللى يخرج من داره يتقل مقداره.. وكل واحد أولى بكاره اللى ربنا رايده.. لما اتجوزت الله يرحمه صفوت شريف.. فضل يلح عليا نعمل فيلم مع بعض.. وكنت خلاص ها أوافق.. بس ربنا افتكره.. زود فى الشم شوية وراح فيها.. عمره كده.. تصدق بالله.. قول لا إله إلا الله.. التمثيل ده رزق.. مقدر ومكتوب.. ربك وما يريد يا عم مختار.. أنا مش ها أتكلم عن تحية كاريوكا وسامية جمال ونعيمة عاكف.. ولا حتى نجوى فؤاد وسهير زكى ونعمت مختار.. لا يا سيدى.. خلينا مع اللى فى سنى وظروفى.. أكبر بكام سنة ولا أصغر بكام سنة.. فيفى عبده ولوسى مثلا.. ربنا عطاهم.. ملك الملوك إذا وهب يا أستاذ.. مش قصدى فلوس.. مستورة بزيادة والحمد لله.. عملوا أفلام ومسلسلات ومسرحيات وربنا كرمهم.. حكمته كده.. من ناحية الجمال.. أنا أجمل.. حلاوة الجسم وخفة الدم.. أنا أحلى وأخف منهم.. يبقى إيه السبب بقى؟.. أرزاق والله العظيم.. المهم يا أستاذ مختار.. أنا عشت حياتى بالطول والعرض.. لفيت الدنيا.. رقصت فى أمريكا والخليج.. وعملت ثروة بالملايين.. جربت حظى مع الرجالة كتير وما اتوفقتش.. الجواز قسمة ونصيب.. لما كملت خمسين سنة.. وكنت أياميها متجوزة خالد سيد.. تعرفه طبعًا؟.. حسيت إن كلمة الخمسين دى دمها تقيل.. صحيح صحتى كويسة.. ومحافظة على جسمى كأنى بنت تلاتين سنة.. لكن التعب بدأ يبان جوايا.. بعدما كنت بأرقص كل يوم.. بقيت أرقص مرتين تلاتة فى كل أسبوع.. بينى وبينك كان صعبان عليا إن رقاصات زى فيفى ولوسى ودينا بقوا فالحين فى التمثيل.. سيما ومسرح وتليفزيون.. وأنا لا.. سنة ألفين وخمسة عملت أول عمرة.. رجعت منها قعدت شهر من غير رقص.. وجربت أبطل الخمرة كمان.. بس رجعت للشغل والشرب.. أنا بأشرب كتير.. يمكن ورث عن أبويا.. قلت ألحق نفسى قبل ما أتهتر.. عنها يا سيدى بطلت رقص.. حسبت الفلوس اللى عندى لقيتها تكفينى لو عشت ميتين تلتميت سنة كمان.. حجيت سنة ألفين وسبعة.. ورجعت لبست الحجاب شهر وخلعته.. وما قدرتش أبطل شرب.. بس من يومها اختصرت الناس.. الاختصار عبادة.. الواد تامر كان آخر حظى فى الجواز.. تقدر تقول إنى زهدت فى الرجالة.. ولما نفسى تهفنى والشوق ياخدنى.. باتصرف.. من غير جواز ووجع دماغ.. تعرف.. بعد هوجة يناير بكام شهر.. كنت فى الساحل الشمالى.. قابلت هناك مديحة.. زميلتى فى الشغل لما كنت فى وزارة الصحة.. ربما كرمها واتجوزت مقاول غنى.. خدتنى بالحضن وقالتلى إزيك يا حاجة ليلى.. عرفت إنها سابت الشغل من زمان.. وعرفت كمان إنها مخلفة تلات عيال.. ولدين وبنت.. كلهم متجوزين وعندهم عيال.. يعنى جدة وفرحانة بولادها وأحفادها.. ربنا يخليهم يا رب.. لكن أنا إيه؟.. وحدانية من غير ونس.. رجعت الشالية وقعدت أعيط وأشرب وحدى لغاية النهار ما طلع.. اللهم اخزيك يا شيطان.. هى قلبت نكد كده ليه؟.. اشرب يا مختار.. اشرب وانبسط.. ألا أنت عمرك ما فكرت تتجوز؟.. على فكرة دا كل اللى ممكن أقوله عن مشوارى.. البركة فيك بقى.. البركة فيك.

وحين أصبح نصا أدبيا
فى صيف العام ١٩٧٤، تكتمل منظومة الأسى والوحدة برحيل أبى. على الرغم من محاولاته للتماسك والتجلد، فإن فقد الابن الوحيد والزوجة المحبة فى فترة لا تزيد على عشرة أيام، كان عبئًا قاسيًا يفوق القدرة على التحمل والصمود والاستمرار فى الحياة. جنازته المهيبة الحاشدة بمثابة التعبير العملى عن مكانته ومحبة الناس له، وقد شارك فيها عدد غير قليل من عائلتى أبى وأمى، لكننى اكتشفت أننى لا أعرف أسماءهم جيدًا، ولا أتذكر درجة القرابة التى تجمعنى بهم، فهم موزعون فى أحياء مختلفة داخل القاهرة، ويقيم بعضهم فى الإسكندرية والمنصورة والإسماعيلية وأسيوط. لم يكن أبواى يميلان إلى الاختلاط والحياة الاجتماعية الصاخبة، وهكذا وجدت نفسى وحيدة تمامًا. ميراثى من النقود المودعة فى البنك يقترب من مئة ألف جنيه، وهو مبلغ باهظ بمقاييس الأجور والأسعار فى المرحلة التاريخية، فضلاً عن الفيلا والسيارتين والمشغولات الذهبية لأمى ومعاش أبى. لا وجود للمعاناة المادية وأشباح الحاجة، لكن الوحدة لا تقل قسوة عن الفقر. كان قرارى ببيع الفيلا ضروريًا للابتعاد عن موطن الذكريات السعيدة القريبة التى تبخرت، والانتقال إلى شقة فى الزمالك محاولة لبداية حياة جديدة، وهى الشقة التى عشت فيها أكثر من عشر سنوات حتى انتقلت للإقامة فى فيلا المهندسين التى أقيم فيها حاليًا.
خلال هذه المرحلة التى لا تُنسى فى حياتى، كان المرحوم الأستاذ رياض حمودة هو الشخصية الأبرز والأكثر تأثيرًا فى تحديد مسارى. إنه واحد من أصدقاء أبى، يصغره بعشر سنوات تقريبًا، وصاحب شركة للإنتاج الفنى. فشلت كل جهوده السابقة لإقناع صديقه الحميم بالموافقة على عملى فى السينما، وعندما كرر عرضه فى المناخ الجديد المغلف بالكآبة والسواد، وجدت نفسى أندفع إلى القبول والموافقة. تعاقد معى على أدوار صغيرة فى ثلاثة أفلام، وكانت وجهة نظره أن النجوم لا يولدون نجومًا منذ الظهور الأول، ودلل على ذلك بمحمود ياسين وعادل إمام، الأشهر فى منتصف السبعينيات على الرغم من البداية المتواضعة المحدودة التى تقترن بعدد من الأدوار الثانوية والهامشية.
فى اثنين من هذه الأفلام، لعبت دور راقصة فى فرقة استعراضية، لا تنطق إلا بخمس كلمات مع زميلاتها، وأكد لى رياض بعد عرض الفيلمين اللذين لم يحققا نجاحًا يُذكر، أن موهبتى فى الرقص مذهلة وتؤهلنى للاحتراف واحتلال الصدارة والتفوق على أشهر راقصات مصر: ناهد صبرى وزينات علوى ونجوى فؤاد ونعمت مختار وسهير زكى. على الرغم من المؤهل الجامعى الذى أحمله، والأسرة الأرستقراطية العريقة التى أنتمى إليها، فقد كنت من المولعات بالرقص الشرقى وعلاماته البارزة: تحية كاريوكا وسامية جمال، أما نعيمة عاكف فهى مثلى الأعلى فى التمثيل والرقص معًا. تدريجيًا، وجدت أننى أحترف الرقص وأتراجع عن التمثيل، وبرعاية رياض تعاقد معى أكبر ملهى فى شارع الهرم، وكان هو أيضًا من شجعنى على المشاركة فى الأفراح الراقية. فى غضون ذلك، فوجئت بعرض الزواج الذى كانت له مقدمات قرأتها فى عينيه، كأنه يحبنى ويخاف التصريح بحبه. ترددت بسبب فارق السن الذى يصل إلى ثلث قرن تقريبًا، لكننى وافقت فى النهاية.
لم يستمر الزواج إلا أقل من عامين، وقد اكتشفت سريعًا أننى أبحث فيه عن أبى والأسرة البديلة، وبفعل الفارق الشاسع فى العمر تحولت غيرته إلى ما يشبه المرض الميئوس من شفائه، وكان المزعج بالنسبة لى أن يسمح لنفسه بالشك فى سلوكى أو توهم أننى قد أخونه، فمثل هذا النمط من التفكير يمثل إهانة لا يمكن أن أغفرها أو أبررها. وصلنا بعد شهور من التوتر إلى محطة الطلاق الهادئ المتحضر، واستمرت صداقتنا على نحو ما حتى وفاته فى السنوات الأولى من التسعينيات.
تعلمت من تجربتى القصيرة مع رياض أن أتمسك باستقلاليتى، وألا أسرف فى الخلط بين الذاتى والموضوعى. الحياة الشخصية تختلف بالضرورة عن العمل، والثقة غير المحدودة ليست فعلاً مستحبًا، دون نظر إلى مكانة الطرف الآخر فى العلاقة. بعد نهاية زيجتى مع رياض، تفرغت لعملى دون تفكير فى البكاء على الأطلال واللبن المسكوب، وفى زيجاتى التالية لم أسمح بتكرار التداخل الذى يصنع أجواء التوتر والاضطراب.

سيذكر لى التاريخ، إذا كان منصفًا عادلاً، أننى اتبعت منهجًا مختلفًا فى التعامل مع الرقص الشرقى، فالأمر عندى لم يكن عشوائيًا يخضع للصدفة. تقوم فلسفتى على عدد من المحاور والركائز التى يمكن إيجازها على النحو التالى:
أولاً: الرقص تكوين جمالى ذو قواعد يمكن قياسها، والتحكم فى إيقاع الجسد هو المسئول عن التشكيل الفنى الذى قد لا يدرك المتلقى أبعاده، لكنه يتأثر به.
ثانيًا: الإطار التعبيرى جوهر الرقص وسره الكامن وسحره الذى يرتقى به من دائرة الاهتزاز الارتجالى غير المحسوب، إلى آفاق الانضباط الذى نجده، بدرجات متفاوتة، فى الشعر والتصوير والموسيقى والنص الأدبى.
ثالثًا: الهدف من بدلة الرقص هو الانتصار لحرية لجسد وتجسيد سحر الأنوثة، والانحراف عن هذا المسار إلى مراودة الابتذال والإثارة الرخيصة، كما يشيع كثيرًا للأسف، لا يعبر عن الرقص الشرقى الحقيقى كما ينبغى أن يكون.
الرقص عندى رسالة سامية وفن نبيل، أناضل بكل ما أملك من إمكانات لتطويره والارتقاء به. لأن دافعى للاحتراف لا ينبع من احتياج مادى، فقد تربعت سريعًا على القمة، واكتسبت شهرة مدوية بعد سنوات قلائل من العمل. فى المقابل، لم أحقق أحلامى السينمائية، فخلال سنوات الازدهار هذه لم أشارك إلا فى أفلام قليلة، وقعت فيها للأسف الشديد فى فخ النمطية، عندما قبلت دور الراقصة التى لا تمثل، ولاشك أن هذه القولبة قد حالت دون الانطلاق الذى كنت آمله وأتطلع إليه.
فى منتصف الثمانينيات، اقتربت من تحقيق التوازن المنشود بالجمع بين الرقص والتمثيل. بين عامى ١٩٨٦ و١٩٩٤، قدمت عشرين فيلمًا، تنوعت فيها أدوارى بين المرأة العاملة، وربة الأسرة، وسيدة الأعمال قوية الشخصية، وتاجرة المخدرات فى منطقة شعبية، ولا أنسى أهم أدوارى على الإطلاق فى فيلم «حريقة حريقة»، حيث جسدت شخصية زعيمة عصابة متخصصة فى سرقة الأطفال حديثى الولادة وبيعهم للعاقرات من النساء.
بعض النقاد والصحفيين يقولون عن أفلامى هذه إنها تنتمى إلى ما يسمونه بـ«أفلام المقاولات»، لكننى لا أوافق على المصطلح لأنه غير قابل للتحديد. الفيلم محدود التكاليف ليس تهمة، والقصة ذات الأبعاد الإنسانية المؤثرة، التى تناسب العقول البسيطة، ليست جريمة. لقد تعرضت لهجوم ظالم متحامل بعيد عن الموضوعية، وعندما أشاهد الآن أفلامى القديمة وأقارنها بما كانت تقدمه نادية الجندى، الموصوفة بأنها نجمة الجماهير، أقول إن أفلامى أكثر جدية ومعقولية، لكن المقاييس مختلة لأسباب غير فنية.
قرب منتصف التسعينيات، توقفت تمامًا عن التمثيل، ومع وفرة الأعمال المعروضة عليّ، صممت على الرفض والاعتزال الهادئ بلا ضجيج. المناخ لم يعد مناسبًا، والشللية تلعب دورًا مدمرًا، وهى آفة لا يمكن أن أتورط فيها. قررت فى حسم أن أركز على الرقص وحده، وسعيت بكل جهد ممكن للحفاظ على مكانتى التى لا يشكك فيها أحد: راقصة مصر الأولى. ولأننى امرأة واقعية عقلانية، كان منطقيًا أن أقنع بالعمل فى الملاهى الليلية والفنادق ثلاثة أيام أسبوعيًا، وأكتفى بالمشاركة فى فرح واحد كل أسبوع. لو أننى أفكر فى المال ما اتخذت قرارًا كهذا، لكن المال لم يكن يومًا هو ما أسعى إليه.

بعد ترشيد العمل وتقليص أيامه، فكرت وشرعت فى تأليف كتاب شامل عن تاريخ الرقص فى مصر، وكنت آمل أن يكون المرجع الأشمل والأهم. فى سبيل هذا الهدف، قرأت عشرات الكتب بالإنجليزية والفرنسية، لكننى واجهت صعوبة حقيقية فى العثور على مواد مفيدة باللغة العربية. لا أحد من رواد الثقافة المصرية يتعامل مع فن الرقص الشرقى بالجدية المأمولة، وقد تجد فى المكتبة العربية عددًا محدودًا من الكتب الجيدة عن بعض عمالقة التمثيل المسرحى والسينمائى، لكنك لن تجد كتابًا واحدًا عن راقصة مهمة ذات بصمة لا يمكن إنكارها، مثل تحية كاريوكا وسامية جمال ونعيمة عاكف.
بعد اليأس من إنجاز مشروع كتابى عن تاريخ الرقص المصرى، فكرت جديًا فى تأسيس معهد متخصص لإعداد وتأهيل الراقصات، والهدف هو القضاء على الفوضى والعشوائية، لكننى فوجئت بهجوم عنيف على الفكرة بعد أن تم تسريبها للصحافة، ولم يكلف أحد نفسه أن يسأل عن طبيعة المعهد والمواد المقترح تدريسها فيه وساعات التدريب العملى للطالبة خلال عامين من الدراسة المنظمة المحسوبة بشكل عملى. لأننى لا أحب المعارك العبثية، قررت إغلاق الملف، وما هى إلا سنوات وتحقق ما كنت أخشاه: الانتشار السرطانى للراقصات الأجنبيات وتراجع مكانة الراقصة الوطنية.
مطلع العام ٢٠٠٥ ذهبت إلى الأراضى المقدسة فى رحلة عمرة، عدت منها لأحصل على إجازة طويلة أتأمل فيها فصول حياتى وما فيها من تحولات. وجدت أن الاعتزال ضرورى، فقد قدمت كل ما يمكن تقديمه من عطاء، ولم يعد عندى الجديد الذى يثرى الحياة الفنية ويضيف إليها. توقفى عن الرقص لا يعنى التوبة أو الشعور بالذنب، فلا جريمة أو خطيئة تستدعى التكفير كما يتوهم بعض من يتحدثون بغير علم. الفن ليس حرامًا، ووجود عدد من المنحرفين والمنحرفات فى الساحة الفنية لا يعنى إدانة المهنة بشكل عام، فما أكثر الفاسدين من الأطباء والمحامين والصحفيين والمدرسين والموظفين العمومين، فهل يعنى هذا تحريم وتجريم الطب والمحاماة والصحافة والتعليم والوظيفة؟
لست نادمة على السنوات الطوال التى احترفت فيها الرقص وإسعاد الناس، ويمكن القول إن تفرغى للعبادة والقراءة والأعمال الخيرية، وهذا كل ما يشغلنى الآن، بمثابة النهاية المريحة التى تتوافق مع مرحلتى العمرية من ناحية وحبى للهدوء والابتعاد عن الضجيج من ناحية أخرى.
أتواصل مع عدد قليل من الأصدقاء والصديقات، وأتابع الأفلام والمسلسلات، أما الراقصات الجدد فأشعر معهن بالغربة وعدم الارتياح. الغالبية الساحقة من الوافدات، ولا شيء فى أدائهن يعبر عن الشخصية المصرية. جمالهن زاعق مصنوع بلا مذاق، وملابسهن مثيرة مستفزة، والقضايا التى تلاحقهن تؤكد أن المستقبل القريب لا يحمل أملاً فى ظهور راقصات مصريات موهوبات على غرار نجمات الأجيال السابقة.