الخميس 16 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

إلى «مارينا» وزميلاتها.. ألف سلام

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ظاهرة جديرة بالاهتمام حين تسطع أشعة شمس وسط أجواء ملبدة بغيوم التجاذبات السياسية وتحديات أمنية خطيرة بحجم الحرب على تنظيم داعش.. فى العراق الذى ما زالت حكاويه تبهر العالم منذ ألف ليلة وليلة ومغامرات السندباد، هناك شعب ما زال يتحدى مخالب الظلام والقمع باسم السلطة الدينية، والأجمل أن تتصدر المبادرة «زهرة رافدينية» بصحبة مجموعة كبيرة من فتيات وشباب العراق.
مارينا جابر صباح.. فتاة عراقية تختزن ابتسامتها كل حضارة «عشتار وإنانا العذراء» رفضت أن تصبح مجرد كائن على الهامش، فاطلقت منذ أسابيع على الـ«فيس بوك» هاشتاج «أنا المجتمع»، دعت فيه إلى تنظيم تظاهرة بالدراجات الهوائية تقطع أشهر شوارع بغداد «أبونؤاس» الذى يقع على ضفاف نهر دجلة، التفاعل كان مذهلا، سرعان ما التقط الدعوة مئات الفتيات والشباب كى يعلنوا أمام وكالات الأنباء الغربية والعربية التى اهتمت بمتابعة هذا التجمع الحضارى، أن نبض الشارع يتحد بقوة لكسر قيود فرضها المتاجرون بالسلطة الدينية على المرأة العراقية، تجلت مظاهر الاتحاد فى الاحتفاء والمشاركة بمبادرة تتحدى القيود إلى استحدثها هؤلاء المتاجرون على حضارة المجتمع العراقى، مارينا دافعت عن المبادرة، التى ستتكرر صباح كل يوم جمعة، بهدوء ومنطق أمام هجمات الابتذال والشتائم التى بلغت مداها ضد مبادرة «أنا المجتمع»، مؤكدة أن الرسالة ليست مجرد دراجة هوائية، لكنها محاولة دراسة دوافع تحول المجتمع الذى أصبح يثير استنكاره ممارسة المرأة أبسط حقوقها، وهو أمر دخيل على المجتمع العراقى وحضارته العريقة، الدراجة رمز بسيط لرياضة كانت تمارس بشكل طبيعى عبر تاريخ العراق المعاصر دون تفرقة بين رجل وامرأة.
السؤال الهام يكمن خلف تحول أبسط الامور إلى ظاهرة غير مقبولة أو مرفوضة، طموح الفتاة ذات الخمسة وعشرين عاما لا يقف عند التظاهرة الحضارية، هى تسعى إلى كسر أصنام نجحت أطراف دخيلة تحت ستار السلطة الدينية فى فرضها على التركيبة الاجتماعية فى العراق، تؤكد مارينا أن الرسالة تستهدف الحريات والحقوق التى تسربت من يد المرأة حتى بلغ الأمر ربط أبسط الممارسات بالرذيلة، وكأن هذه الأخيرة تخضع لتصنيف التفرقة بين رجل وامرأة، هذه الدعاوى المُستحدثة تسعى إلى إلغاء أى دور للمرأة، حتى فى سياق حق العمل والمشاركة المجتمعية، علما أن الحريات هى كتلة مبادئ لا تتجزأ، بالتالى لا يمكن أن يكون الخطاب العام فى العراق عن حريات التعبير وممارسة الحقوق السياسية فى إطار واقع يدفع به البعض نحو تهميش دور المرأة وهى كل المجتمع وليست نصفه فقط.
تظاهرة «أنا المجتمع» مبادرة رائعة وشجاعة تستحق الإعجاب والتقدير، الخطوة الأهم هى استثمار الاهتمام الإعلامى الذى حظت به فى مبادرات تطرح الأزمات الأعمق والأكثر تأثيرا للمرأة العراقية، التطورات الصاخبة التى شهدها العراق منذ ٢٠٠٣ حملت المرأة تبعاتها إلى جانب الرجل، على الرغم من أن نسبة مشاركة النساء فى البرلمان تتجاوز النسب الممنوحة للمرأة فى برلمانات عديدة، إلا أن مشاركات أغلب عضوات البرلمان للأسف انصبت على التوجهات الحزبية دون أن تقدم أى شىء ملموسا لخدمة قضايا المرأة، لذا يبقى الأمل فى تصعيد هذه المبادرات إلى خطوات أكثر تأثيرا بين المنظمات المدنية وناشطاتها أمثال مارينا والعديد غيرها.
تاريخ العراق المعاصر -تحديدا منذ أواخر الثلاثينيات- تحت تأثير المناخ التقدمى وسيادة الأفكار التحررية التى تبنتها الأحزاب المؤثرة آنذاك، شهد مشاركة كبيرة للمرأة فى العمل السياسى والحزبى والإعلامى، هذا المناخ التنويرى قدم للعالم العربي -على سبيل المثال لا الحصر- أول وزيرة عام ١٩٥٩ «نزيهة الدليمى»، وأول إعلامية انطلق صوتها من الإذاعة عام ١٩٤٦ «صبيحة المدرس»، وأول مجلة نسائية «مجلة ليلى» عام ١٩٢٣، إلى آخر قائمة طويلة من الإسهامات، حتى أن الأكاديمى حنا بطاطو الذى تعتبر مؤلفاته أهم مراجع فى تاريخ العراق لخص قوة الحزب الشيوعى بجملة شهيرة (الماركسية دخلت إلى عقول العراقيين بشكل غير ملحوظ وغير معلن مرتدية ثياب تحرر المرأة)، المثير للإعجاب أن علماء الدين فى تلك المرحلة الزمنية لم يتخذوا موقفا متشددا من كل الحقوق التى اكتسبتها المرأة والإنجازات التى حققتها، بل على العكس، أكدوا حقها فى أن يكون لها دور فاعل فى المجتمع، ولم تصدر عنهم الفتاوى التى أصبح يتبارى المدعون فى إطلاقها ويدور أغلبها داخل اعتبار المرأة «عورة» أو «رجسا من عمل الشيطان».
تتفق أو تختلف الآراء حول إمكانية أن يعيد التاريخ نفسه، لكن المؤكد أن مارينا وزميلاتها بهذه المبادرة، بدأن إعادة التاريخ المشرف والحضارى للمرأة العراقية.