الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

أيها الغرب... وداعًا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الآن بعد انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة، أصبحت نهاية ما كان يسمى حتى الآن «الغرب» مؤكدة. كان هذا المصطلح يَصِف عالَم الأطلسى الذى نشأ وتبلور نتيجة لحربين عالميتين فى القرن العشرين، والذى أعاد تعريف النظام الدولى خلال الحرب الباردة التى دامت أربعة عقود من الزمن، وهيمن على الكرة الأرضية حتى الآن.
لا ينبغى لنا أن نخلط بين «العالم الغربي» و«الغرب». فبرغم أن ثقافة العالم الغربى ومعاييره وديانته السائدة غربية المنشأ فى الأصل، فمن الواضح أنها تطورت إلى شيء مختلف بمرور الوقت. وقد تشكل الطابع الأساسى للغرب على مدار قرون من الزمن بفِعل منطقة البحر الأبيض المتوسط (وإن كان بعض أجزاء أوروبا الواقعة شمال جبال الألب قدمت إسهامات مهمة عديدة فى تطوره). أما العالَم الغربى فهو فى المقابل عبر أطلسى، وهو طِفل القرن العشرين.
عندما بدأت الحرب العالمية الأولى، كانت صراعا أوروبيا بين القوى المركزية والتحالف بين بريطانيا وفرنسا وروسيا. ولم تتحول إلى حرب عالمية حقيقية إلا فى عام ١٩١٧، عندما دخلت الولايات المتحدة المعمعة. وهذه هى اللحظة التى بدأ عندها ما نسميه اليوم العالَم الغربى يتشكل.
وبوسعنا أن نقول إن شهادة ميلاد العالم الغربى صدرت أثناء الحرب العالمية الثانية. ففى أغسطس من عام ١٩٤١، بعد أن غزت ألمانيا النازية الاتحاد السوفييتى، التقى رئيس الوزراء البريطانى «ونستون تشرشل» والرئيس الأمريكى «فرانكلين د. روزفلت» على سفينة حربية قبالة سواحل نيوفاوندلاند حيث وقعا على ميثاق الأطلسى. وفى وقت لاحق تطور ذلك الاتفاق إلى منظمة حلف شمال الأطلسى، التى عملت طوال أربعة عقود من الزمن على تمكين تحالف الديمقراطيات المستقلة التى تحمل قيما مشتركة وتتبنى اقتصاد السوق من الصمود فى وجه التهديد السوفييتى، وهى أيضا المنظمة التى عملت على حماية أوروبا حتى يومنا هذا.
الأمر الأكثر أهمية هو أن العالَم الغربى تأسس على تعهد أمريكى بالدفاع عن حلفاء الولايات المتحدة. ولا يستطيع النظام الغربى أن يبقى من دون الدور الحاسم الذى تلعبه الولايات المتحدة، والذى ربما تتخلى عنه فى ظل ترامب. ونتيجة لهذا، أصبح مستقبل العالَم الغربى ذاته على المحك الآن.
لا أحد يستطيع أن يجزم بالعواقب التى قد يخلفها انتخاب ترامب على الديمقراطية الأمريكية، أو ماذا قد يفعل عندما يتولى منصبه رسميا. ولكن بوسعنا أن نخرج بافتراضين معقولين. فأولا، سوف تكون رئاسته شديدة الإرباك للسياسة الداخلية والخارجية الأمريكية. فقد فاز ترامب بالرئاسة عن طريق خرق كل قاعدة مكتوبة للسياسة الأمريكية تقريبا. وهو لم يتغلب على هيلارى كلينتون فحسب، بل أيضا مؤسسة الحزب الديمقراطى. وليس هناك من الأسباب ما قد يدفعنا إلى الاعتقاد بأنه سوف يتخلى فجأة عن الاستراتيجية التى مكنته من الفوز بحلول العشرين من يناير.
ويمكننا أن نفترض أيضا أن ترامب سوف يتمسك بشدة بتعهده «بجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى»؛ وسوف يكون هذا هو الأساس لرئاسته، مهما كلفه الأمر. والواقع أن الرئيس السابق رونالد ريجان أيضا وَعَد بهذا، لكنه عكف على تحقيق هذه الغاية حينما كانت الولايات المتحدة، المستغرقة حتى ذلك الوقت فى الحرب الباردة، قادرة على تبنى نهج إمبراطورى. وعلى هذا فقد واصل ريجان إعادة التسليح على نطاق واسع إلى الحد الذى أدى فى نهاية المطاف إلى انهيار الاتحاد السوفييتي؛ كما مهد الطريق للازدهار الاقتصادى الأمريكى من خلال زيادة هائلة فى الدين الوطنى.
الواقع أن ترامب لا يملك ترف تبنى نهج إمبراطورى. بل على العكس من ذلك، خلال حملته الانتخابية كان حريصا على توجيه الانتقادات للحروب العقيمة التى خاضتها أمريكا فى الشرق الأوسط؛ ولا يرغب أنصاره فى شيء أكثر من رغبتهم فى تخلى الولايات المتحدة عن دور الزعامة العالمية والتقهقر من العالَم. صحيح أن الولايات المتحدة التى تتحرك نحو القومية الانعزالية سوف تظل الدولة الأعظم قوة فى العالم بفارق كبير؛ لكنها لن تستمر فى ضمان أمن الدول الغربية ولن تواصل الدفاع عن النظام الدولى القائم على التجارة الحرة والعولمة.
تتعلق الأسئلة الوحيدة المتبقية الآن بمدى سرعة تغير السياسة الأمريكية، وإلى أى حد قد تكون هذه التغييرات جذرية. لقد تعهد ترامب بالفعل بإلغاء اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ الذى يضم ١٢ دولة وهو القرار الذى يعادل منح الصين هدية عظيمة، سواء أدرك ذلك أو لم يدرك. بل قد يعطى الصين هدية أخرى: الحد من التزام الولايات المتحدة فى بحر الصين الجنوبى. وربما تجد الصين نفسها قريبا الضامن الجديد للتجارة الحرة العالمية بل ربما أيضا الزعيمة العالمية الجديدة لجهود مكافحة تغير المناخ.
عندما يتعلق الأمر بالحرب فى سوريا، فربما يسلم ترامب ببساطة هذا البلد الذى دمرته الحرب للرئيس الروسى فلاديمير بوتن وإيران. ومن الناحية العملية، هذا من شأنه أن يقلب موازين القوى فى الشرق الأوسط، مع عواقب وخيمة تتجاوز حدود المنطقة؛ ومن الناحية الأخلاقية، يمثل هذا خيانة قاسية للمعارضة السورية وهدية للرئيس السورى بشار الأسد. إذا أذعن ترامب لبوتن فى الشرق الأوسط، فلابد أن يتساءل المرء ماذا قد يفعل عندما يتعلق الأمر بأوكرانيا، وأوروبا الشرقية، والقوقاز. هل ينبغى لنا أن نتوقع مؤتمر يالطا الثانى للإقرار بمجال نفوذ بوتن الجديد بحكم الأمر الواقع؟. الواقع أن المسار الجديد الذى سيرسمه ترامب للولايات المتحدة واضح بالفعل منذ الآن؛ ونحن لا نعلم مدى السرعة التى قد تبحر بها السفينة بقيادة ترامب. لا شك أن الكثير سيتوقف على المعارضة (الديمقراطية والجمهورية على حد سواء) التى قد تواجه ترامب فى الكونجرس الأمريكى، وعلى مقاومة غالبية الأمريكيين الذين لم يصوتوا لصالحه.
ولكن لا ينبغى لنا أن نستسلم لأى أوهام: فأوروبا أضعف وأكثر انقساما من أن تتمكن من القيام بأعمال الولايات المتحدة استراتيجيا؛ وفى غياب الزعامة الأمريكية لن يتمكن العالَم الغربى من البقاء. وبالتالى، يكاد يكون من المؤكد أن العالَم الغربى كما يعرفه كل من هم على قيد الحياة اليوم تقريبا سوف يتلاشى أمام أعيننا. ماذا بعد ذلك إذن؟، بوسعنا أن نجزم بأن الصين تستعد لملء الفراغ الذى سيتخلف عن تقهقر أمريكا. وفى أوروبا، انفتحت سراديب النزعة القومية؛ وبمرور الوقت، سوف تُطلِق مرة أخرى شياطينها على القارة والعالَم.