الأربعاء 08 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مع فيلم «جمهورية ناصر.. بناء مصر الحديثة»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
عرض مهرجان القاهرة السينمائى الدولى الفيلم التسجيلى الطويل «جمهورية ناصر.. بناء مصر الحديثة» للمخرجة الأمريكية ميشال جولدمان، وسبق أن شاهدنا لها فيلما رائعا بعنوان «أم كلثوم.. صوت يشبه مصر»، وقد قدمته فى عام ١٩٩٦، بعد أن عاشت وعملت فى مصر أثناء عملها للفيلم منذ عام ١٩٩٠، ومن قبل لها فيلم بعنوان «ليلة فى حديقة عدن» عام ١٩٨٨.. إن ميشال جولدمان نموذج للفنان الجاد الباحث، المهتم بقضايا حقيقية، وكما يجىء فى تعريف كتالوج مهرجان القاهرة: هى منتجة أفلام وثائقية مستقلة، نشأت بالقرب من بوسطن، بدأت العمل فى الأفلام الوثائقية خلال حركة الحقوق المدنية، ثم عملت فى مونتاج العديد من أفلام هوليوود.. والحق أن أول ما يلفت هنا ويجذب، هو الجمال بقدر الدقة فى هذين العنوانين اللذين اختارتهما، سواء «أم كلثوم.. صوت يشبه مصر»، أو «جمهورية ناصر.. بناء مصر الحديثة»، وقد أنتجت ميشال جولدمان وكتبت السيناريو لفيلمها عن القائد الثورى جمال عبدالناصر وعصره وشخصيته، وقام فى الفيلم بالتصوير كمال عبدالعزيز المصرى القدير، وبالمونتاج بيتر رودس، وبأداء التعليق بالإنجليزية هيام عباس.
فيلم «جمهورية ناصر.. بناء مصر الحديثة»، عمل رصين متعمق، يعبر فى «٨٠ دقيقة» عن رؤية كلية لثمانية عشرة عاما، هى زمن قيادة وملحمة ناصر.. وقد جاء الموقف والتقييم العام للفيلم إزاء تجربة و«جمهورية ناصر» إيجابيا بوضوح.. ولهذا الموقف للفيلم، جنبا إلى جنب قيمة الإتقان والاقتدار الفنى والجمالى فإن تقييمنا العام أيضا للفيلم إيجابى.. باستثناء ملاحظات سلبية محدودة أو تحفظات محدودة، أهمها: عدم التدقيق الكافى فى مناقشة قضية «جمهورية ناصر والديمقراطية»، وفيما يتعلق بحرب اليمن، وفيما يعرف بواقعة «خميس وبقرى».. كما كان الأمر يستدعى تأنيا، فى تقديم حرب الاستنزاف الخاتمة الكبرى لملحمة ناصر، واستخلاص مغزاها وقيمتها.. لكن الفيلم كان مميزا وممتازا فى تقديم «ظرف وضرورة قيام ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، والجلاء وتحرير مصر، وتأميم قناة السويس، والتصدى الباسل والمقاومة لعدوان ١٩٥٦، وباندونج وقيادة تكتل عدم الانحياز والدور المشترك لعمالقة وفرسان العصر، إلى جانب ناصر: نهرو وتيتو وشواين لاى وغيرهم، مما لخصه تيتو يوما: «نحن ضمير العالم، وملحمة البناء العظيمة للسد العالى، وتحويل مجرى نهر النيل، والمساعدة التى لا مثيل لها لحركات التحرر، وناصر وأبعاد قضية العدالة الاجتماعية، وتوزيع الأرض على الفلاحين، وحقوق المرأة وتعليمها وعملها، والتعليم ومجانيته وتكافؤ الفرص والرعاية الصحية الشاملة، والنهضة الواضحة الكبرى فى حقول الثقافة والفنون».. مع تركيز الفيلم طول الوقت على صدق وعمق المحبة غير العادية وغير المحدودة تجاه ناصر، لدى الجماهير المصرية بل العربية ككل، سواء فى سوريا حيث تقوم الوحدة معها فى ١٩٥٨ أو فى كل قطر ومكان عربى، بالإضافة إلى مكانة عبدالناصر الخاصة فى نظر وقلوب أبناء الشعوب بالذات فى القارات الثلاث إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وحيث نشاهد لقطات ومشاهد وثائقية، منذ أول فصول ملحمة الثورة، إلى حشود ٩ و١٠ يونيو عقب عدوان ١٩٦٧ وخطاب التنحى، ثم حشود الوداع التى لا مثيل لها من قبل أو بعد فى ١٩٧٠، بل وصولا إلى رفع صور ناصر فى ميدان التحرير وكل ميادين الثورة منذ ثورة يناير ٢٠١١. لقد مزج الفيلم ببراعة على امتداده، بين اللقطات الوثائقية الحقيقية، التى تؤكد قيمة ومنجزات جمال عبدالناصر وثورته فى كل هذه المجالات، ومشاهد فى الحاضر تستمع إلى مواطنين مصريين وفلاحين من كفر الدوار إلى أسوان صورها كمال عبدالعزيز، وبين عدد من شخصيات عامة استضافها وتحدثت فى قضايا التجربة والعصر المختلفة.. وتنوعت ما بين الوزير المتميز فى عصر عبدالناصر محمد فايق وهو فضلا عن مهامه فى الإعلام صاحب دور تاريخى رائع فى قضايا التحرر الوطنى الإفريقى ومساندتها «وقد كان حاضرا بنفسه فى الندوة التى أعقبت عرض الفيلم فى مهرجان القاهرة السينمائى»، ونجلة القائد الدكتورة هدى عبدالناصر، معبرين عن رؤية موضوعية من قلب وفى صف التجربة، مرورا بأصحاب رؤى رصينة مثل الدكتور جلال أمين وهانى شكر الله، وصولا إلى الذين يحملون رؤية انتقادية لاذعة لجوانب فى التجربة الناصرية وعلى الأخص من موقع يسارى ماركسى مثل الدكتور جودة عبدالخالق والشاعر زين العابدين فؤاد وبعض القيادات العمالية الشيوعية.. ولعل أغرب ما ذهب إليه هذا الاتجاه هو تحميلهم عصر عبدالناصر أخطاء للعهود اللاحقة وحتى الآن (على طريقة الستين سنة الأخيرة من الحكم العسكرى الذى أسسه عبدالناصر!!).. وخصوصا فى قضية الديمقراطية، التى أهدر عبدالناصر فرصتها، فى نظرهم، وبطبيعة الحال خصوصا منذ «أزمة مارس ١٩٥٤»!!.. كأنما لم يمر على رحيل عبدالناصر ما يقارب الخمسين سنة!! متجاهلين أن فترة عبدالناصر هى فترة ثورة، وبتعبيره الذى أكده مرارا مرحلة «تحول» و«انتقال»، ومن الطبيعى أن تكون لها خصوصيتها، ومتجاهلين أن كل العهود التى أتت من بعده هى عهود انقضاض على ثورة ٢٣ يوليو وأنظمة ثورة مضادة، ومتجاهلين أن جميع الدول التى تحررت من الاستعمار فى عصر عبدالناصر لم تنتهج صيغة الحياة الحزبية، وأنه لو وجد استثناء فإنما ليؤكد القاعدة، ومتجاهلين أنه لو أجريت انتخابات فى مارس ١٩٥٤ لما جاءت إلى الحكم إلا بأحد أطراف الحلف الذى تجمع آنذاك لإجهاض الثورة كبشوات النظام القديم (مثل وفد سراج الدين) أو الشيوخ الدهاقنة زعماء عصبة الإخوان المسلمين!! (مثلما حدث فى الانتخابات التى أعقبت ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١.. وقد جاءت ببرلمان الإخوان، ثم بمندوب الإخوان الذين تشدق البعض بالقول الخائب المغرض أنه أول رئيس مدنى فى تاريخ مصر!!).. نسألهم: هل هذا هو الحال الذى كنتم تريدونه لمصر فى ١٩٥٤ وبعد قيام شبابها الثورى الفدائى وطلائعه المنطلقة من القوات المسلحة، بالحركة الثورية فى ٢٣ يوليو، بادئة باعتقال قيادات الجيش الفاسدة!؟ وأخيرا هل لو حكم الإخوان فى مارس ١٩٥٤، أو لو حكم الشيوعيون، عن طريق حياة حزبية وانتخابات على أساس دستور يماثل (دستور ١٩٢٣).. هل كان أى من هذه الأطراف، سيترك الحكم أبدا، فى أى انتخابات قادمة؟! فالبقطع كانت بالنسبة لهم ستكون الانتخابات الأولى والأخيرة.
وفى مناقشتى مع المخرجة بعد عرض ثان للفيلم ومشاهدتى له مجددا، حينما حدثتها عن حرب الاستنزاف كأحد أعظم أعمال ناصر، وأنها تتويج له معانيه ودلالاته الهائلة فى مسيرته، وإنجاز وطنى تاريخى عظيم ترتب عليه استعداد وعبور ١٩٧٣.. اعترفت بتواضع صادق: (إن هذا خطأ حقيقى فى الفيلم.. لقد حذفت الكثير من مادة ضخمة للغاية حصلت عليها إذ كان علىَّ فى النهاية أن أحذف وأختصر فى حدود الـ٨٠ دقيقة مدة الفيلم.. لكن بالفعل ما كان ليصح أن يكون هذا على حساب «حرب الاستنزاف» كما ترى بحق).
لكن المخرجة فى نهاية الفيلم، تأكيدا لرؤيتها المنصفة فى صف كفاح ناصر وقيادته التاريخية وقيمة «جمهوريته» الاستثنائية، تذهب إلى الناس العاديين، فى مصر الواقع المعاش وقت تصوير الفيلم، وتسألهم.. فيقول أحدهم، المصرى البسيط الفلاح، مختتمة فيلمها بكلماته، التى من القلب والعقل، ببساطة وحسم: (قناة السويس حفرت بالكرباج وبالسخرة.. السد العالى اتبنى بالحب.