الجمعة 17 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

صناعة الكراهية "3"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
هل تمارس الشرطة العنف الممنهج؟ أم أن الوقائع التى تداهمنا تمثل أخطاء فردية؟.. مع الأخذ فى الاعتبار أن تكرارها وتعددها يرسخ لدى المواطن العادى أنها سياسة ممنهجة، وما الدور الذى تقوم به وزارة الداخلية للحد من تجاوزات بعض أفرادها؟
هذه التساؤلات سيطرت على ذهنى إثر وفاة المواطن مجدى مكين فى قسم شرطة الأميرية، وما تبع الواقعة من نشر فيديوهات عن مشاهد تعذيب، تناقلتها المواقع الإخبارية، مصحوبة باتهامات طالت معاون المباحث وبعض أمناء الشرطة، فضلا عن «الهرى الفيسبوكى» الذى بات دارا للإفتاء وإصدار الهرتلات بلا حدود، فتاهت الحقيقة بين صخب أجوف، الأمر الذى ساهم فى تنامى اللغط، وجعل المهووسين بالإفتاء فيما يعلمون وفيما لا يعلمون، يدلون بدلوهم فى قضية لا يعرفون أبعادها، شارك فيها، من لديه وعى بما يقول، وآخرين لا يملكون قدرا من المعرفة، راحوا يرددون مثل الببغاوات ما تنشره مواقع التواصل الاجتماعى، ويصرخون كمجاذيب الموالد ومرتادى حفلات الزار للثأر من الداخلية والنظام، ناهيك بأمور أخرى ترمى لتفتيت المجتمع وبث الفتنة والكراهية بالتركيز على ديانة المواطن.
الأمر بالنسبة لى يتجاوز حدود الرؤية الضيقة للواقعة وأفرادها، الجانى إذا كان جانيا بالفعل والمجنى عليه إذا كان مجنيا عليه بالفعل، فالجهة المعنية بحسم الجدل «الطب الشرعى»، لم ترسل تقريرها للنيابة العامة. 
مكمن الخطورة فى كل ما جرى، بعيدا عن التأكيد عليه أو نفيه، محوره السلبية التى تتعامل بها وزارة الداخلية مع مثل هذا النوع من القضايا، فهى تترك الأمور للاجتهادات والتشكيك بدون حسم فورى، أى أنها لا تتحرك سريعا لإصدار بيانات حول الوقائع، المتعلقة بممارسات لا تصب فى صالح الدولة المصرية. 
كلنا يعلم أن وزارة الداخلية حظيت بالنصيب الأكبر من الكراهية عدة عقود، لأنها ظلت تدفع وحدها ثمن خطايا أنظمة الحكم، وكلنا يعلم أن تعافيها بعث الطمأنينة فى النفوس، فى المقابل هناك بعض المنتمين إليها من صغار الضباط والأمناء يكرسون لمنهج الكراهية، جراء حماقات معدومى الضمير عبر تجاوزهم حدود مسئولياتهم، وإن كانت هذه تصرفات فردية، إلا أنها أصبحت مزعجة، وتنذر بتداعيات خطيرة، كافية بأن تجعل مؤسسات الدولة بأكملها فى مرمى اتهامات المجتمع، حيث يعتقد غالبيته أن الصمت على التجاوزات تعبير عن الرضا الفوقى، وعدم الردع السريع تواطؤ عمدى، هدفه إرهاب المواطنين، ودهس كرامتهم، لذا يصبح من الضرورى الوقوف طويلا أمام واقعة مقتل المواطن مجدى مكين، لكى تكون هناك بداية لوقفة جادة تنهى ما لحق بجهاز الشرطة من سمعة سيئة جراء تكرار الاتهامات لضباط المباحث فى أقسام الشرطة. 
ممارساتهم تشحن المجتمع بالغضب، وترسخ لمقولات جائرة، ومفاهيم مغلوطة، والزعم بأن التجاوزات ممنهجة، وليست فردية، كلها مفردات، شئنا أم أبينا، تهدف إلى إحراج نظام الحكم، بما يجعل شعبيته تتآكل، خاصة أن خطأ رجل الشرطة يختلف عن خطأ أى مسئول آخر فى أى جهة أخرى، لذا نراه دائما فى مرمى العيون، سواء كان مقصودا أو غير مقصود، صغيرا أو كبيرا.
القضية ببساطة شديدة جدا، هناك فرد أو مجموعة من الأفراد تجاوزوا القانون، ولا يملك أحد حمايتهم بالقفز على القانون، إلى هنا الأمر عادى، بل وعادى جدا جدا، لكن غير العادى الضجيج الذى صاحب الواقعة وذهب بها إلى مساحة الريبة.
الرأى العام كان يتوقع ردود أفعال رسمية، مسئولة، عاقلة، متزنة، قادرة على تجاوز الصخب، والكشف بجرأة عن كل ما جرى، والإعلان بشجاعة عن سوء تصرف أحد الضباط ارتكب فعلا مجرما ولو كان إهانة وليس تعذيبا بالمعنى المعروف للتعذيب، وذلك بدون عناد لإغلاق باب المزايدات، إلا أن التعاطى مع الحدث عكس حالة السلبية وأتاح الفرصة للمتربصين بالعزف على أوتار الفتنة، وإن كان هؤلاء معلومة أغراضهم، إلا أن الكارثة جاءت من المدافعين على طول الخط بحماقة، فهؤلاء لا يدركون حجم الجرم الذى يرتكبونه تصورا أنهم يدافعون عن الدولة.
إغلاق باب المزايدات لن يتحقق إلا بتطبيق القانون على الجميع ومحاسبة المخطئ أيا كان اسمه ومهما بلغ نفوذه، لأن الحديث فى هذا الشأن للأسف يزعج فاقدى الأهلية الوطنية، ممن لا يعنيهم استقرار هذا البلد، رغبة فى التميز وفرض سطوة القبيلة، فهؤلاء يعتبرون أن إلقاء الضوء على الممارسات غير المسئولة نوع من الحرب الممنهجة ضد الدولة التى تواجه الإرهاب وتقدم التضحيات يوميا.
الموضوعية تقتضى نبذ المصطلحات المحشورة فى غير موضعها، بهدف خلط الأوراق وإيجاد المبررات، بأن وزارة الداخلية تواجه الإرهاب، بالرغم من أنها قولة حق، إلا أن ترديدها بتلك الصورة الملتبسة يرسخ للباطل، وهذه جريمة أخرى لا تقل بشاعة عن نزيف الحماقات المتتالية، فمواجهة الإرهاب لا تمنح أحدا، مهما علا شأنه، الحق فى القهر والتلفيق وفرض السطوة وارتكاب الجرائم، وممارسة التبجح والتعالى، والعبث بمصائر البشر.
فلا يمكن قبول أن يتحول الشهداء شماعة يعلق عليها بعض المستهترين أخطاءهم، فهذه التبريرات غير الأخلاقية ليست سوى رغبة جامحة لتغييب القانون ودهسه، حتى يصبح عاجزا عن مواجهة العبث.
إن مثل هذه الأفعال التى تحفز على الغضب لا يدرك مرتكبوها أن الشرطة تكتسب هيبتها ومكانتها من احترام ضباطها وأفرادها للقانون، وليس دهسه استقواء بالسلطة والنفوذ، والتمتع بالحماية التى يوفرها بعض المنتمين للوزارة ممن يظنون أن إصدار البيانات بشفافية عن إدانة مرتكبى الأخطاء، سيقود بالتبعية لإدانة الداخلية بأكملها، رغم أنها أخطاء فردية وجرائم شخصية ومرتكبوها ليسوا فوق القانون.
الواقع على الأرض يؤكد حقيقة التجاوزات والممارسات غير القانونية داخل الأقسام، بداية بالشتائم والسباب وليس انتهاء بالتطاول واستخدام العنف البدنى، الصمت على هذه الحقيقة جريمة، أما الجريمة الأكثر خطورة والأشد ضراوة فهى خلط الأوراق بهدف ترسيخ العداء لوزارة الداخلية بأكملها جراء أخطاء بعض أفرادها ممن لا يدركون عواقب ما يفعلون.
المثير فى الأمر أن كثيرين يتوقفون أمام الانحيازات الرامية إلى وضع الشرطة بأكملها فى مرمى سهام الاتهامات باعتبارها الجانى على طول الخط، مدفوعين فى ذلك بدعم إعلامى مجمله لا يتحرى الدقة فيما يتناوله أو يبثه من مغالطات محرضة على الكراهية. 
هنا لا بد من التأكيد على أن جهاز الشرطة ليس مستوردا من الخارج، فهو جزء من المجتمع، يضم بين صفوفه، الأذكياء والحمقى، الصالح والطالح.. الشريف والفاسد، لكن هذا لا ينفى أن خطأ رجل الشرطة يوضع دائما فى بؤرة الاهتمام، باعتباره ممثلا ورمزا لسلطة القانون وهيبة الدولة، بخلاف الفئات والوظائف الأخرى.
فى هذا السياق لا ينكر أحد، مهما بلغت درجة مجافاته للواقع، الإجراءات الصارمة التى يقوم بها وزير الداخلية وكبار معاونيه بهدف التحقق من صحة الوقائع المنسوبة للمنتمين لها والتحقيق فيها أيا كانت أسماء مرتكبيها أو ترتيبهم فى مواقع المسئولية، ضمن استراتيجية أمنية متكاملة ومتناغمة لإرساء قواعد دولة القانون، إلا أن الصغار دائما يضللون رؤساءهم بتقارير مغلوطة لتضليل جهات التحقيق لتبرئة زملاءهم، وهذا هو مكمن الخطر، ليتنا نتعظ.