رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

يسألونك عن الدولة المدنية الحديثة "10"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
للأسبوع الثانى على التوالى نواصل التأكيد على أهمية مفهوم «المواطنة» فى «الدولة المدنية الحديثة»؛ ذلك أن الفرد فيها مُعرَّف قانونًا باعتباره مواطنًا فحسب، دون النظر إلى دينه، أو مهنته، أو إقليمه «صعيدي، بحراوي...الخ»، أو منصبه، أو ماله وأملاكه. ومن هنا تتساوى الحقوق والواجبات لدى كل المواطنين فى الدولة.
غير أنه فى الواقع، لا ينفى ذلك حقيقة أن طبقات بعينها تنال من التقدير ما يفوق غيرها من الطبقات، وفى ذلك تعبير صادق عن مدى رسوخ ثقافة «المواطنة» فى المجتمع، وحدود ما تتأرجح بينه من قيم. لكن، ومن جهة أخرى، يظل القانون صارمًا فى المساواة بين كافة المواطنين، حتى وإن مالت بعض العادات والتقاليد إلى مجافاة جوهر مفهوم «المواطنة»، وهنا قد لا نجد مثالًا واضحًا أكثر من واقعة الوزير، لاحظ «وزير عدل»!، الذى أعلن ذات يوم قريب أن: «ابن الزبال» لا يمكن أن يكون منتسبًا للسلك القضائي. فكان ذلك بابًا واسعًا لخروج الوزير من الحكومة، لكن أغلب الظن أن «ابن الزبال» لم يدخل القضاء.! كما أن الوزير أعلن أكثر من مرة أنه يؤكد على حقيقة مجتمعية كلنا نعرفها، وبالفعل كان الرجل صادقًا فى حديثه، لكنه صدق أشبه بالموت، حقيقة لا ننكرها، ولا نحبها!.
وقد يُغالى البعض فى الإلمام بكافة متطلبات مفهوم «المواطنة»، على نحو يدفع بنا إلى دوائر المغالطات من جهة، والمزايدات من جهة أخرى. فليس يدعو مفهوم «المواطنة» إلى محو الفروق فى القدرات ما بين مواطن وآخر، وأثرها على ما يستحقه من مكتسبات؛ ذلك أن العدل قيمة أعلى كثيرًا من المساواة؛ إذ لا مساواة ندعو إليها فى الفرص بين مواطنين ليسوا على القدر ذاته من الكفاءة والعلم والمعرفة والخبرة. ومن هنا كانت سيادة القانون الضمانة الحقيقية للتطبيق الأمين لمفهوم «المواطنة»؛ ذلك أن للقانون أدوات ومناهج كفيلة بالبحث عن مسببات ودواعى التفريق فى الفرص المتاحة أمام المواطنين فى «الدولة المدنية الحديثة». بينما فى الدولة، التى عانينا منها طويلًا، يكفى البحث فى المصالح المتبادلة، وفى القدرات المالية، والوجاهة الاجتماعية، لتحديد الفرص الواجب إتاحتها على قدر المساواة بين المواطنين، وتلك المحجوزة للصفوة؛ ومن ثم يكاد الأمر يخلو من أى شئ، حتى الهواء الذى يتنفسه المواطنون.
ولأن مفهوم «المواطنة» راسخ بقوة فى أعماق «الدولة المدنية الحديثة»، فلا تكاد تسمع أى طعن فيه وفى تبعاته؛ بينما السعى حثيث مجتهد فى محاولات الالتفاف عليه، بدواع باتت معروفة للكل، ما بين الخيانة والعمالة والتآمر؛ وعليه نسحب من البعض حقه «كمواطن» فى المشاركة فى صناعة القرار، باعتباره مكونًا من مكونات الرأى العام؛ ذلك المستهدف المشروع دائمًا فى «دولة المدنية الحديثة». فليس فى تشويه صورة وسمعة «الآخر»، وتثبيت التهم جُزافًا عليه بمعاداة الوطن، ومناقضة مصالحه، إلا تعبير عن تشوهات حقيقية لحقت بإدراكنا لصحيح مفهوم «المواطنة»؛ ذلك أن «المواطنة» أبدًا لا تعنى أن «الكل فى واحد» باتت صيغة لصيقة ببناء «الدولة المدنية الحديثة». وإلا ما كانت «رشادة الحكم» ركيزة أساسية فى «الدولة المدنية الحديثة» التى تواترت أنبائها وعلاماتها فى المجتمع الدولى على نحو بات.
فى «المواطنة» أيضًا، لا مجال للبحث فى ديانة المواطن؛ إذ لا تقرر له ديانته حقوقًا بالخصم من غيره من المواطنين. وعليه، لا سبيل فى «الدولة المدنية الحديثة» إلى إنشاء أحزاب على أساس ديني، فكل مواطن له الحق فى الانضمام إلى أى كيان حزبي، ولست أعقل أن مواطنًا مسيحيًا يُرحب به فى حزب يُحرم مباركته بأعياده!!. ولست أجد أيضًا ضرورة للحط من مفهوم «المواطنة» بتغليب المصالحات العرفية محل سيف القانون فى معالجات، فشلت دومًا، ولم تنجح أبدًا فى إيقاف مواجهات جاهلة يعانى منها البعض من إخوتنا المسيحيين، تنتهى أحيانًا بتهجير بعضهم عن ديارهم، بينما الحديث عن «الدولة المدنية الحديثة» لا ينقطع، وسرادقات المصالحات العرفية تكشف ما لحق بسيادة القانون من هوان وضعف، وبحضور فاعل من ممثلى القانون!.
ولتجاهله قيمة المال، يستمر نزيف مفهوم «المواطنة»؛ ليزيد من جراح «الدولة المدنية الحديثة»، فلا تكاد تدرك أسبابًا حقيقية لبقاء السواد الأعظم من الشعب إلا لحشدهم كمستهلكين لإنتاج مؤسسات الصفوة، وإلا كحشود غفيرة أمام الصناديق لتنتخبهم نوابًا عن الشعب، بحافز من مال أو جاه، بينما الطريق شاق على كل صوت وطنى ينتمى بحق إلى جموع الشعب، فإذا ما نجح الأخير فى التسرب إلى المقاعد الوثيرة، راحت تتسارع إليه محاولات شرائه أو تشويهه أو تلويثه، فإما تراه مناضلًا جسورًا من أجل قناعاته الوطنية، أمينًا على ضميره، أو تلحظه متراجعًا مستجيبًا لشروط وإغواءات عضوية مجتمع الصفوة. وعلى هذ الحال فقدت الطبقات الشعبية أصواتًا لطالما اعتلت منصات الرأى العام مدافعة عن حقوق الناس فى حياة كريمة حرة، فنالت حبه وتقديره؛ ثم إذا بها، بعد حين، تنقلب إلى أبواق تقليدية نخبوية تعرف جيدًا، بما لها من حس وطنى سابق!، كيف تدير عقول الطبقات البسيطة التى أعطتها يومًا مصداقية حين كانت تنتمى بالفعل إلى آلامها وآمالها. ولعلك، على شاشات الفضائيات، تسهر يوميًا مع ألعاب كثيرة من هذا النوع، فهى تعبير حقيقى عن ذلك الأمر، وكله بالقانون، وكله يؤدى إلى «الدولة المدنية الحديثة»!.
حديث «المواطنة» يخلو بالقطع من أبجديات تأكدت فى أدبياتنا السياسية؛ فلا يقولن أحدكم أن الحديث عن «إهمال كبير ناله صعيد مصر»، هو حديث جديد علينا، بل هو من ثوابت الخطاب الرسمى التى تربت عليها أجيال عدة، ثم لا شىء من جهود التنمية الحقيقية يتقدم إلى الصعيد، حتى إن شكوكًا مشروعة ربما تثور، كون أسباب جغرافية بحتة هى التى دفعت ببناء السد العالى فى أعالى الصعيد، ولولاها لكانت القاهرة أحق وأجدر!، وأسمع صديقى الصعيدى يحدثني، صادقًا، فيقول: لكن خيره لمصانعكم كان أنفع!.
وليس خروجًا عن حديث «المواطنة» أن نشير إلى مفارقة مجتمعية مدهشة، فبينما ثار الشعب على نظام مبارك منعًا للتوريث، بعد أن اعتبرنا الرجل قدرًا قد قارب على الرحيل التلقائي، فإننا نعمد بشدة، فى غياب سيادة القانون، للتأكيد على «التوريث» منهجًا وسبيلًا للالتفاف حول تبعات مفهوم «المواطنة»، ولا يقولنّ أحدكم إن مؤسسات بعينها ليست قلاعًا محصنة لأبناء العاملين فيها، حتى إن العدوى، والثقافة المجتمعية مُعدية بالفعل، انتقلت إلى البسطاء من الشعب، ربما بحكم «المواطنة»!، فأذكر، غير مرة، أن عمالًا بسطاء تظاهروا فى مواقع كثيرة مطالبين بأحقية أبنائهم فى العمل إلى جانب آبائهم وأمهاتهم، أو بديلًا عنهم بعد بلوغهم السن القانونية للمعاش!. لاحظ كله بالقانون بينما ندهس قيمه الإنسانية وأهدافه النبيلة!. طريقنا إذن شاق طويل بالفعل إلى حدود «الدولة المدنية الحديثة»، فميراثنا ثقيل الوطأة، والفكاك منه أمل يُرتجي، لكنه بعيد المنال، كُلفته غالية الثمن، عوائده بطيئة الخطى، لكنها خطوات واثقة معتبرة، جديرة بها ثورتنا بالقطع، ولا شىء يحل محلها ضمانة أكيدة لتجسيد قيم ومبادئ «الدولة المدنية الحديثة». وإلى الأسبوع المقبل بإذن الله.