الخميس 02 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

يسألونك عن الدولة المدنية الحديثة "8"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
مائة وخمسون عامًا، هي عمر الحياة النيابية في مصر؛ إذ كانت قد بدأت عام ١٨٦٦، والحال على هذا النحو لا يدفع بنا إلى الاحتفال فقط، قدر ما ينبغى أن يحفزنا بقوة على إعلاء شأن العمل البرلمانى في مصر، والعمل على تجويده، والتأكيد على دوره في «بناء الدولة الحديثة» التي ننشدها.
ففى إطار الإقرار بحتمية الديمقراطية، كأساس متين لا غنى عنه في «بناء الدولة المدنية الحديثة»، يجدر بنا رصد حركة البرلمان المصرى على مسار عملية التحول الديمقراطى الكفيلة بالتأكيد على صحة خطواتنا باتجاه تحقيق رشادة الحكم، وترسيخ وتعميق ثقافة الديمقراطية في المجتمع؛ ومن ثم يصبح الأخير حائزًا لفرصته في إدراك «الدولة المدنية الحديثة». من هنا أقول:
انطلق البرلمان الحالى من قاعدة انتخابية مضطربة مرتبكة، لم تكن أبدًا على مستوى التطلعات الشعبية التي تأسست على قيم ومبادئ الثورة المصرية، يناير ـ يونيو. فقد شابت العملية الانتخابية ممارسات تنتمى بحق إلى عهود الأنظمة التي هبت الثورة المصرية لتقتلعها من جذورها، سواء في يناير ٢٠١١، أو في موجتها التصحيحية في الثلاثين من يونيو ٢٠١٣. ولا حاجة لنا إلى سرد الكثير من المظاهر السلبية التي عايشناها جميعًا ونحن ندشن أول تجربة برلمانية بعد تنقية ثورة يناير من سياسات الجماعة الإرهابية. بل إن في الإعداد والتنظيم الذي سبق الانتخابات، لم تكن الأمور في أفضل حالاتها؛ فلم ننجح في تهيئة الأوضاع إلى ما نرجوه. غير أن الأمر يمكن قبوله، ولو على مضض، إذا ما أخذنا في الحسبان، صعوبة المرحلة الانتقالية من عمر عملية التحول الديمقراطى التي تمر بها البلاد، وما تحتويه من صراع سياسي، يوفر الكثير من الفرص أمام المزايدات السياسية، وحالات الاستقطاب، إلى جانب ما تطرحه من قيم متعارضة، فضلًا عن ظهور وجوه جديدة، ما زالت تبحث عن فرصتها على الساحة، كطرح ثورى، أو من صفوف خلفية لأنظمة سابقة، دون خبرة كافية، أو دعم شعبى على وعى بإمكاناتها وقدراتها. كل ذلك وسط ركام متراكم من الثقافة الشعبية الدالة على رسوخ قيم الأنظمة البائدة، رغم كراهتنا لها!. فكان الصوت عاليًا للمال السياسي، والعصبيات والقبليات. وراجت التربيطات تقطع الطريق على كثير من الخطوات الإصلاحية المشروعة التي تعول عليها الثورة في إنفاذ كلمتها، وتجسيد رؤاها. 
بالفعل مال البرلمان إلى تمثيل المجتمع تمثيلًا حقيقيًا؛ فلا يقولن أحدكم إن رموز نظام مبارك لا وجود لهم في حياتنا السياسية. ولا يزعمن مكابر أن البرلمان يمارس بالفعل دوره دون نقصان في مواجهة السلطة التنفيذية. ولا يعلنن مسئول برلمانى أن البرلمان كان «ممتازًا» في دورته الأولى، وقد حدث بالفعل فكان تصريحًا دالًا على شدة حاجتنا إلى مراجعات جادة وحقيقية من شأنها «استعدال» الكثير من الخطى البرلمانية باتجاه موضوعية واجبة؛ إذ أصبح البرلمان يواجه رأيًا عامًا لا يمكن تغييبه على نحو ما جرى في عهود سابقة، فكلنا يعلم أن ممارسات كثيرة أخفقت في تأكيد ثورية برلماننا المحتفل بمائة وخمسين عامًا من عمر أسلافه. فمعاناتنا كبيرة جراء امتناع المجلس عن إشراكنا معه بالمتابعة الحية المباشرة لنخضعه لرقابة شعبية فعلية، وكلنا أوجعنا فشل المجلس في التعامل مع حكم محكمة النقض بشأن بطلان عضوية أحد أعضائه، وترجيح كفة آخر. وكلنا تأذى من تصريحات وأفعال ما كانت تليق ببرلمان أكمل ١٥٠ عامًا، كانت كافية لتوفير الرشد اللازم تحت قبته. ناهيك عن ممارسات «مغالبة» تود لو احتكرت المجلس «حبًا في مصر»!، وتتمنى لو التزم الكل الصمت «دعمًا لمصر»!.
يقابل ذلك نماذج برلمانية مُبشرة بالفعل، تؤكد أن الأمل بالقطع موجود؛ وإن كان «أقلية»، وأن المشوار غاية في المشقة، والعقبات باتت «أكثرية» في الطريق نحو أهداف الثورة. غير أن اللافت للنظر أن الأحزاب لم تنجح في تقديم نفسها باعتبارها البديل المشروع والمحتمل، لتشكيل حكومة تنهض بدورها في بناء «الدولة المدنية الحديثة». فقد اختفى تعبير «المعارضة» تحت القبة؛ إلا من نفر قليل، لم يجد في معارضة الحكومة ما يخصم من وطنيته، فراح يقاوم غربته تحت القبة، خاصة وقد أعلنت أحزاب معتبرة، دعمًا للدولة طبعًا!، أن لا مجال لوجود معارضة تحت القبة لأن «البلد يواجه مخاطر شديدة»!. وعليه تبدو قناعات البعض من رجالات السياسة في بلدنا وقد أسقطت، عمدًا وجهلًا، عن البرلمان دوره الحقيقى في بناء «الدولة المدنية الحديثة»؛ إذ ما نعلمه أن الأخيرة تنهض على التعددية السياسية التي توفر مناخًا صحيًا قابلًا لتداول السلطة سلميًا، وضمان مشاركة سياسية واسعة تجسد قيم حرية الرأى والتعبير، والشفافية، وحرية تداول المعلومات، والمحاسبة والمساءلة، كل ذلك في إطار حاكم من سيادة القانون. وكلها قيم سامية، في «الدولة المدنية الحديثة»، ما زلنا في حاجة إلى تأكيد وجودها تحت قبة البرلمان.
على خلفية ما سبق، تبدو ممارسة البرلمان لدوره «الدبلوماسى»، وقد بات الأمر في حاجة ماسة إلى تصحيح يمتد به إلى جوهر ومضمون مفهوم «الدبلوماسية البرلمانية»، إذ يتجاوز الأمر مجرد زيارات بروتوكولية خاوية من أي مردود، بل على عاتقها تُحمل ملفات صعبة على الدبلوماسية التقليدية، التي تنهض بها وزارة الخارجية؛ إذ تنهض «الدبلوماسية البرلمانية» بدور مُغاير على صعيد المؤسسات النيابية، باعتبارها الأوثق صلة بالرأى العام في بلادها؛ ومن ثم فهى من الدوائر المنوط بها صناعة القرار السياسي في الدول المعنية بالديمقراطية سبيلًا إلى حكم البلاد وتحقيق رفاهية الشعوب. ومن هنا نؤكد أن لا دور، فاعل وحقيقى، لمسناه من البرلمان على مستوى ملفات دبلوماسية صعبة بعينها، سواء في قضية مقتل وتعذيب الباحث الإيطالى، ولا في قضية سد النهضة الإثيوبى، ولا في جميع الملفات الملتهبة في المنطقة، سواء في سوريا أو اليمن أو ليبيا، وكلها ملفات شديدة الارتباط بالأمن القومى للوطن. بل إننا لم نشهد دورًا للدبلوماسية البرلمانية في الحوار السياسي الساخن الدائر، على مهل، بين مصر وروسيا جراء تفجير الطائرة الروسية في سيناء، وما تبعه من قطع السياحة الروسية عن مصر، وصولًا إلى الأزمة التي افتعلتها الحكومة مع روسيا بسبب قرار وزير الزراعة، غير السياسي بالمرة، بوقف وارداتنا من القمح حال إصابته بأى قدر من فطر «الإرجوت»، ثم عودة سريعة من الحكومة في قرارها، بعد قرار روسى بحظر استيراد مجموعة من الحاصلات الزراعية المصرية!. وما يعنينا هنا، ونحن نرصد حركة البرلمان، أن نشير إلى خطب المديح الوطنية التي أعلنها كثير من نواب البرلمان، تأييدًا لقرار وزير الزراعة، لعل أبرزها إيلامًا للنفس وأكثرها فكاهة للروح أن «الشعب المصرى لن يأكل بعد اليوم ما يضر بصحته»!!، ثم وبنفس القدرة على «المغالبة» كانت أحاديثهم عن «الحكمة» التي استند إليها قرار إلغاء قرار وزير الزراعة الذي أغضب روسيا!.
للبرلمان إذن في «الدولة المدنية الحديثة»، دور يغيب عن تجربتنا في تحقيق تحول ديمقراطى حقيقى، ربما يصعب علينا إدراكه في مرحلتنا الراهنة، إذ يتطلب تراكمًا طبيعيًا، لم يتوفر على مدى تاريخنا البرلمانى الطويل؛ ذلك أن البرلمان في جوهره تعبير عن الأوضاع الديمقراطية في البلاد، تقدمًا أو تراجعًا أو جمودًا؛ إذ لا تنشأ الديمقراطية بنشأة البرلمان، وإنما ينشأ برلمان حقيقى، قادر على إنجاز مسئولياته في «الدولة المدنية الحديثة» متى توفرت فرص رسوخ الديمقراطية كثقافة شعبية، تعبر عنها إرادة سياسية جادة. وإلى الأسبوع المقبل بإذن الله.