الأربعاء 15 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الحب والجمال بداية الحياة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ربما تبدو فى ظاهرك الأروع والأجمل، وتسكن أفخم القصور، وتشغل أرفع المناصب، لكنك تخفى الأتفه، والأسخف، والأبشع، فتنبعث من داخلك سحب الظلام الحالك، مثلما ينبعث العفن من أعماق المستنقع الراكد.
وربما تبدو فى ظاهرك الأدنى، والأفقر، لكنك تخفى الأصدق، والأعذب، فينبعث من داخلك شعاع النور الساطع، مثلما تنبثق الحياة من أعماق البذور، لتضفى على كل الزهور أجمل الألوان، وأرق العطور.
وأتساءل دومًا لماذا توحش القبح، وتغلغل فى كل شىء حولنا؛ تفاصيل البيوت المتهالكة، وتلال القمامة المترامية، ومذابح الأشجار، وأغانى الخيار، وشباب يعبد الاستهلاك، وفتيات متشحات بالسواد، ووجوه عابسة، وأخرى شاردة؟! والإجابة ببساطة أن جحيم الظاهر هو مرآة صادقة لخراب الباطن المتمثل فى خواء العقول، وتصدع النفوس، وفساد الضمائر.
إن غياب الإحساس بمعنى «الجمال» الحقيقى فى حياتنا، هو إغلاق باب من أبواب المعرفة الإنسانية، لأن المعرفة البشرية لا تدخل إلينا من باب العقل وحده، إنما تتسرب إلينا طوال الوقت من كل مسام جلدنا وذهننا، وروحنا، ووعينا الظاهر، والباطن، فمن كان يتوق حقًا إلى المعرفة الكاملة والحقيقة العظمى، فليفتح لها كل الأبواب والنوافذ.
وفى رحلة بحثى الدائم عن معنى «الجمال» صادفت منذ عدة سنوات، امرأة جاوزت مرحلة التوسل بسحر وجاذبية الأنوثة - رغم احتفاظها بكل مقوماتها - إلى مرحلة استيعاب الإنسانية كافة، التى منحتها القدرة على مواجهة كل ألغاز الكون، وتعقيدات الحياة اليومية، هى «د. وفاء إبراهيم» أستاذة «علم الجمال» بكلية البنات جامعة عين شمس.
تقول: «الجمال» ليس هو المضاد لكلمة «القبح» الذى يشعرنا بالتقزز والنفور؛ لأن «القبح» يمكن أن يكون موضوعًا جميلاً، حينما يكشف الفنان عن روعة المعنى فى عالمه الواسع من خلال الألوان والخطوط ودرجات الظلال، ليفتح لنا آفاقًا ليس لها حدود، وأبسط مثالين على ذلك هما؛ لوحة «حذاء الفلاحة» لڤان چوخ، ولوحة «جرنيكا» لبابلو بيكاسو.
نرى فى لوحة «حذاء الفلاحة» زوجًا من الأحذية البُنِّية، القاتمة، الفظَّة، الرثَّة، لكن رغم قسوة هيئته، يكشف لنا عن عالم الفلاحة، فتمزقه يعكس الخطوات المنهكة لها، وخشونته تعكس مشقَّة العمل، أما غلظته فتعكس رطوبة وخصوبة التربة، وكأنه ينطق بالعطاء الصامت للأرض.
وتجسد لوحة بابلو بيكاسو «جرنيكا» تفاصيل القرية الإسبانية المنكوبة، التى ألقى عليها الألمان القنابل عام ١٩٣٦، فدمرت عن آخرها، وقتل ألفان من مواطنيها المدنيين، فنجد فيها أشلاء الأجساد المشوهة، التى تجسد صدمة وبشاعة الحرب، إلا أننا نجد «القنديل» الذى يعبر عن «الأمل» داخل مملكة الرعب والموت، الذى يدعو للسلام وليس الاستسلام، فهى تعبير صارخ عن الحرب والسلام معًا.
يوجد «الجمال» فى كل شىء، أما الفن سواء شعر، أو قصة، أو لوحة، أو موسيقى، أو تمثيل، أو رقص، فهو إبداع إنسانى، يخلد هذا الجمال، ويجعله مستمرًا ومتجددًا، فنحن ما زلنا حتى الآن نحب رؤية التماثيل الفرعونية، ونستمتع بقراءة الأدب المصرى القديم، والإغريقى، والتراچيديا اليونانية، أما «الجمال» المتعلق باستهلاك الأشياء، فعمره قصير، ومتغير.
يرى «أفلاطون» أن للجمال نموذجا ثابتا، نقيس عليه جاذبية الأشياء، وارتقائها، ويرى آخرون أن ذات الإنسان هى التى تضفى «الجمال» على الأشياء حوله، إلا أن روعة المشاعر التى تثيرها كافة الفنون داخلنا، تؤكد أن «الجمال» هو لحظات تلاقى «ذات الإنسان» مع «الشىء الجميل».
إن الإحساس بالجمال فطرى داخل كل منا، لكن الفرد الذى يمتلك عمق الإحساس، واتساع الثقافة، وارتقاء الوعى، سيدركه، ويشعر به بشكل أفضل من الذى يفتقر لكل هذه الأشياء، لأن ثقافة المجتمع هى «البوتقة» التى تحول روعة وسحر هذه المشاعر والأفكار إلى حس وقيمة ومعنى، ليجسدها المبدع بكل أدواته من خلال مختلف الفنون.
إن «الحب» و«الجمال» هما الحكمة الإلهية وراء خلق الإنسان والكون، اللذين يجعلان الحياة تتجدد فى كل لحظة؛ لأن الله يقول فى حديث قدسى: «أحببت أن يعرفنى الناس فخلقت الكون»، فحب الله للبشر كان دافعا للخلق، أما حب البشر لله فهو باعث للوجود والأمل وإرادة للحياة.