الثلاثاء 07 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بوابة العرب

جمال الدهشان يكتب: الأمن الفكري ومؤسساتنا التعليمية في عصر المعلوماتية

جمال الدهشان
جمال الدهشان
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يعد الأمن بصورة عامة نعمة من أجل النعم التي أنعمها الله على بني البشر، وهو من أسباب الحفاظ على تماسك المجتمع وترابطه وسيادته، فالامن بكافة صوره وأشكاله من أهم الحاجات الفطرية التي لا يمكن أن يكون سلوك الإنسان سوياً بدونه ، وهو نعمة وعد الله تعالى بها عباده الذين يعبدونه ويوحدونه ، فالله سبحانه وتعالى يقول: "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ، يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ، وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ " النور (55) ، فالأمن مطلب حيوي لا يستغني عنه أحد، بل هو مطلب الشعوب كافة بلا استثناء، ولأهميته دعا به الخليل إبراهيم عليه السلام ، قال تعالى: “وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِير " البقرة ُ(126) ، وقال تعالى: " فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ " قريش(3، 4). وقد بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن الأمن أعظم مطلب للمسلم في هذه الحياة، وأنه بحصوله كأن المسلم ظفر بما في الدنيا؛ قال صلى الله عليه وسلم: “من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا”..
الأمن في مفهومه العام هو الوصول إلى أعلى درجات الاطمئنان والشعور بالسلام واختفاء مشاعر الخوف لدى أفراد المجتمع مما يحفزهم على العمل ويوفر لهم مناخ الاستقرار اللازم لاستمرار التنمية والإنتاج والتقدم..
لقد كان الشائع بين الكثرة من الناس، عندما تُذكر كلمة " الأمن "، أن تستدعى إلى التصور العام ما هو معروف مما يتصل بالأمن الداخلى المتمثل فى الشرطة، لحفظ الأمن بين المواطنين ومؤسسات المجتمع الداخلى، والأمن الخارجى المتمثل فى القوات المسلحة ، للحفاظ على أمن الوطن إذا تهددته أخطار خارجية ، الا أن الأمن الان له مفهوم أوسع من ذلك ، فالأمن الحقيقى تتسع دائرته ليعنى الوصول إلى أعلى درجات الاطمئنان والشعور بالسلام واختفاء مشاعر الخوف لدى أفراد المجتمع مما يحفزهم على العمل ويوفر لهم مناخ الاستقرار اللازم لاستمرار التنمية والإنتاج والتقدم..، فمهما تمترست دولة وراء ترسانة عسكرية ، من غير أن تستند إلى تنمية كلية شاملة لجوانب المجتمع المختلفة، يصبح أمنها الحقيقى هشا، يمكن أن تذروه الرياح بيسر وسهولة.
واذا كان للامن فى ضوء ذلك له صوره واشكاله المتعددة ، فان الأمن الفكرى جزء لايتجزء من الامن العام بل هو الأساس لأى أمن ، وركيزة اساسية لتحقيق الامن والاستقرار للوطن والمواطن ، على اعتبار أن الفرد إذا امتلك فكراً سليماً راشداً استطاع أن ينعم بالأمن والاستقرار الشامل الذى ينشده المجتمع من حوله، فاختلال الفكر وانحرافه يؤدي إلى اختلال الأمن بمختلف جوانبه، الذي يؤدي بدوره إلى السلوك المنحرف وشيوع الجريمة ، حيث أشارت العديد من الدراسات حول دور الأمن الفكري في الوقاية من الإرهاب وجود علاقة قوية واضحة بين الانحراف الفكري والإرهاب، فكلما زاد الانحراف بين أفراد المجتمع زادت العمليات الإرهابية بحيث يصبح الفكر المنحرف هو البيئة الخصبة لانتشار الإرهاب.
والأمن الفكري يعني حماية وصيانة الهوية الثقافية من الاختراق أو الاحتواء من الخارج ، والحفاظ على العقل وصيانة المؤسسات الثقافية في الداخل من الانحراف.. ويعني كذلك صيانة عقول أفراد المجتمع ضد أي انحرافات فكرية أو عقائدية مخالفة.. ويعني أيضاً الحفاظ على مكونات المجتمع الثقافية الأصيلة في مواجهة التيارات الثقافية الوافدة أو الأجنبية المشبوهة، والدعوة إلى سلامة الفكر من الانحراف الذي يشكل تهديداً للأمن الوطني أو أحد مقوماته الفكرية، والعقائدية، والثقافية، والأخلاقية، والأمنية.. فتصرفات الناس تنطلق من قناعاتهم التي تستند إلى أرصدتهم الفكرية والاعتقادية، وبهذا يكون كل عمل يمارسه الإنسان ويظهر في سلوكه منطلقاً من كيانه الفكري والاعتقادي.
إنَّ الأمن الفكري هو طريق تحقيق الطمأنينة على سلامة الفكر والاعتقاد بالاعتصام بالله ، والأخذ من المصادر الصحيحة، مع التحصُّن من الباطل والتفاعل الرشيد مع الثقافات الأخرى ، ومعالجة مظاهر الانحراف الفكري لدى الفرد والمجتمع .
والواقع إن المتتبع للأحداث التي عمّت العديد من الأقطار العربية – بل والعالم اجمع - يتضح له أن عديدا من الشباب في تلك المجتمعات قد انساقوا وراء دعوات مشبوهة وأفكار منحرفة، أودت بحياتهم ، ودمرت مجتمعاتهم التي كانت تعيش في أمن وأمان. حيث بات الدمار والقتل والتشريد بديلا عن الاستقرار والطمأنينة والرخاء .
ومن هنا أصبح الأمن بصورة عامة والأمن الفكري بصورة خاصة مطلبا دوليا وعربيا في ضوء ما يشهده العالم من تطرف ونزاعات وحروب، ولم يعد تحقيقه مقتصرا على أجهزة الدول ، بل أصبح مسؤولية عامة وواجبا وطنيا، ويقع جزء منه على كاهل المؤسسات التربوية للعمل تحقيقه.
وفى ظل زخم الثورة التكنولوجية في مجال المعلومات والاتصالات ، والبث الفضائي المرئي والمسموع والمقروء ، وظهور شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والتي أوجدت أرضاً خصبة لبث السموم القاتلة في عقول الناشئة ، أثرت على معظم القيم السائدة في المجتمعات تأثيرًا بالغًا، بتأثيراتها الإيجابية والسلبية، لا سيما في المجال الفكري للفرد حيث أصبح هدفًا سهلًا للميل والغواية به تحت مسميات ودعاوى مذهبية منافية للفطرة السليمة وخارجة عن نطاق العقول السوية، الذي يجتاح العالم العربى والإسلامي اليوم بسبب ما يعانيه من معايشة متناقضات بين الأصالة والمعاصرة، وبين التقريب والتحديث، والحريّة والاستبداد، ومن ثم مشكلة التطرّف والتكفير، من خلال إظهار وسطية الإسلام واعتداله وتوازنه، وترسيخ الانتماء لدى الشباب وتحصينهم ضد الأفكار المنحرفة.
لقد بات الامن وخاصة الامن الفكرى همّاً دوليا لأن ناقوس الإرهاب والتطرف أوشك يهدد كل الدول دون استثناء فالخطر بات قاب قوسين أو أدنى، ومن هنا لابدّ من وضع استراتيجيات لمواجهته عن طريق تحقيق كافة أنواع الأمن، وعلى وجه الخصوص الأمن الفكري الذي ينقي سرائر الناشئة ويحمي عقولهم من تغوُّل الفكر المتطرف الذي ساعدت تكنولوجيا الاتصال في نشره، فالانحراف الفكري يُعدّ من أخطر أنواع الانحراف المهددة لأمن المجتمع واستقراره فالفكر المنحرف الذي يؤثر على الأمن الفكرى هو ذلك الفكر المتطرف الذي يتخذ من الدين ستاراً لنشره وترويجه في المجتمع ، إذ أن دعاته يحاولون إيقاع العامة ببراثنه ، وفى هذا الاطار من الضرورة التفريق بين الانحراف الفكري الذي لم يترتب عليه فعل وبين من أخل بفعله بالأمن في مجتمعه : فمن ظهر منه عمل تخريبي وثبت عليه شرعاً فيجب محاسبته على ما بدر منه كائناً من كان وعقابه بما يستحقه قانونيا وشرعياً.
أنَّنا نعيش فى ظل ذلك عصراً تعدَّدت وتنوَّعت فيه التحديات الفكرية والمشارب العقدية، من هنا تاتى اهمية وضرورة التحصين العقدي وتعزيز جانب الأمن الفكري ، حتى يعيش الناس في بلدانهم وأوطانهم وبين مجتمعاتهم آمنين مطمئنين على مكوِّنات أصالتهم، وثقافتهم النوعية، ومنظومتهم الفكرية ، فتعزيز الأمن الفكري يعد من أهم سبل الوقاية من الانحراف الفكري لدى افراد المجتمع ، من خلاله يمكن تحصين الشباب في مواجهة دعاة الغلو والتطرف.
ان الدعوة الى تعزيز الامن الفكرى لا يعني التقوقع والانغلاق وعدم محاكاة الآخر ورفضه فكريًا وثقافيًا، فإن ذلك يعيق التطور والتقدم المنشود؛ فالمعيار هنا هو الاعتدال والوسطية والقدرة على وزن الأمور بموازين النقد والتحليل السليم ، وتقبل الحوار والاختلاف ، مع الانفتاح على الاخر .
ولعل السؤال الذى يتبادر فى اذهان وعقول الكثيرين ماالذى تستطيع المؤسسات التربوية ان تفعله ويفعلوه المربين وكل المهتمين بالتنشئة الاجتماعية بالمجتمعات العربية إزاء هذا الطوفان، غير المنضبط، أحيانا، من المعلومات والتوجيهات السلوكية عبر العالم الافتراضى، من شبكة عنكبوتية، وشبكات التواصل الاجتماعى، وما يدور على نهجها، حيث يواجه الآباء والأمهات بآلاف معلمين ومربين جدد، غير مرئيين، بعيدين عن أى مسئولية محاسبة ومراقبة وضبط، ونقف نحن مكتوفى اليدين حقا، لا ندرى، بماذا نجيب، خاصة وأننا، من جانب آخر، ننادى وننصح بالسعى الحثيث نحو استغلال وسائل الاتصال الجديدة لمتابعة ما يجد من معارف وأفكار وحوادث؟!
وما دور المؤسسات التعليمية فى غرس وتعزيز الأمن الفكري لدى الطلاب بمختلف المراحل لمواجهة التغيرات الفكرية والثقافية المتسارعة التي قد يتبناها الطلبة من خلال الوسائل المتاحة كأدوات التواصل الاجتماعي، وما تبثه القنوات الفضائية والسماوات المفتوحة ؟ من خلال تأمين أفكار وعقول الطلبة وأفراد المجتمع من الأفكار الخاطئة التي تشكل خطرا على قيم المجتمع وأمنه بوسائل وبرامج وخطط متعددة شاملة لجميع النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية.
ان المؤسسات التعليمية بكل عناصرها يمكن ان يكون لها دور حيوى واساسى فى تعزيز الامن الفكرى لدى طلابها ، ودور تلك العناصر فى ذلك دور متكامل يكمل بعضها بعضًا ، وذلك من خلال تقوية الوازع الدينى ، وتعميق الانتماء الوطنى ، الحوار الهادف والبناء ، تقديم القدوة الحسنة ، تنمية التفكير والحوار الايجابى... وغيرها.
وفى اطار الحديث عن دور المؤسسات التعليمية فى تعزيز الامن الفكرى فانه من ناحية اخرى يرى البعض أن التعليم فى المجتمع المصرى والعربى نفسه فى ظل وجود انماط واشكال تعليمية متباينة خاصة فى المرحلة الاولى مرحلة تشكيل الهوية الثقافية ، يعد فى بعض الاحيان عاملا من العوامل المشتتة والمشققة للبناء المجتمعى ، ففى ظل افتقاد العدل التربوى بين مناطق وعديدة داخل المجتمع الواحد ، وظهور انتشار المدارس الخاصة والدولية التي تقوم بتطبيق نظام تعليمي أجنبي (إنجليزي ،أمريكي ،فرنسي ،كندى ) وغيرها من الصيغ ،فى العديد من المجتمعات العربية ، يمكن ان تتحول فئات المجتمع إلى جزر ثقافية منعزلة ، وتتعدد ولاءات الأفراد داخل المجتمع الواحد ، ويعمل ذلك على عدم وجود وحدة في الفكر والعمل بين فئات المجتمع ، مما يسهم في قلة التفاعل وضعف تماسك أفراد المجتمع وارتباطهم وهو ما يطلق عليه (ضعف الاحتواء الاجتماعي او الاستبعاد الاجتماعى) ، ويؤدي ذلك إلى تفكك النسيج الاجتماعي وتصبح هذه المجتمعات غير قادرة على حماية أبنائها من الاستلاب الثقافي والتبعية ، مما لابد معه أن يشعر المواطنون بأن الأمن الفكرى والمجتمعى المجتمعى قد أصبح يعيش تهديدا مؤكدا..
واخيرا اننا فى اطار استعراض للدور المطلوب من المؤسسات التعليمية فى حاجة ماسة الى التمكين لتلك المؤسسات من خلال توفير الحد الادنى من متطلبات قيامها بهذا الدور حتى يمكن أن تؤدى دورها الذى نأمله منها ، وكذلك بالنسبة لكل ما يعمل على أرضه من مؤسسات ، وإلا صاحت تلك المؤسسات فى وجوهنا شاكية:
حظى كدقيق فوق شوك نثروه..........وقالوا لحفاة، يوم ريح: اجمعوه!!.