الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

من تاريخ اليسار.. صحفيون ونبلاء "3"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الخامس الباشا الحافى «محمد سيد أحمد» كتب عنه المفكر الكبير الأستاذ كريم مروَّة فى رثائه: بدأ محمد سيد أحمد حياته السياسية والثقافية منذ مطلع شبابه. 
وقرر، وهو فى التاسعة عشرة من عمره، أن يخون الطبقة التى تنتمى إليها عائلته، طبقة ملاك الأراضى والباشوات، وينزل من علياء تلك الطبقة فى امتيازاتها إلى صفوف الفقراء، الذين يشكلون الكثرة الساحقة من أبناء شعبه، قام بذلك الانتقال من تلقاء ذاته، بوعى مبكر، وكان ذلك الوعى عنده إنسانيًا شاملًا وعميقًا، وظل هذا الوعى الرفيق الدائم لتطور شخصية محمد سيد أحمد، منذ بدايات انغماسه فى العمل السياسى والفكرى، حتى رحيله، فى عام ٢٠٠٦. وكان قد بلغ من العمر سبعة وسبعين عامًا.
لم يرق للباشا والد محمد ذلك «النزق» الذى جعل ابنه يختار ذلك الطريق، رغم أنه، أى الوالد، كان معروفًا بعلمانيته وبانفتاحه السياسى، فقرر أن يرسل محمد إلى الخارج لاستكمال دراسته الجامعية، لكنه عاد فعمل بنصيحة بعض أصدقائه، فأرسله إلى باريس لقضاء فترة من الزمن، مع كامل العدة التى تتيح لشاب فى التاسعة عشرة من عمره التمتع بما تقدمه له مدينة مثل باريس، كان ذلك فى عام ١٩٤٩. لكن محمد سرعان ما رأى فى مدينة الثقافة باريس ما يلائم أهواءه والنزعات التى كانت تعمق عنده رغبته الجامحة فى امتلاك المعرفة والثقافة فى ميادينهما المختلفة، والغوص وراء الأحداث والتطورات التى كان يحفل بها عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.
عاد محمد من باريس لينخرط فى العمل السياسى فى صفوف إحدى المنظمات الشيوعية، كان خيارًا واعيًا وثابتًا. الأمر الذى جعله يتحمل تبعات ذلك الخيار، فى الاعتقال والتشرد والمعاناة والعسر فى شروط الحياة، وهو ابن العائلة الأرستقراطية التى لم تعرف للعسر معنى.
فى تلك الفترة بالذات بدأ محمد سيد أحمد تمايزه فى السياسة عن بعض رفاقه، دون أن يتخلى عن موقفه الفكرى، كاشتراكى ذى مرجعية ماركسية. لكن استمراره فى موقعه الفكرى كماركسى مستقل جعله يتخلى عن الارتباط القديم عند الشيوعيين بالماركسية كعقيدة، بل هو تعامل معها كفكر علمى، مستندًا إلى منهج ماركس الجدلى فى تحليل الأحداث والتطورات وفى قراءتها وفق شروطها التاريخية، وليس خارج تلك الشروط. وعندما تأسس حزب التجمع فى أواسط سبعينيات القرن الماضى من ماركسيين وناصريين وإسلاميين مستنيرين، كان محمد سيد أحمد واحدًا من كبار المؤسسين، إلى جانب أصدقائه الكثر وفى مقدمتهم صديقه خالد محيى الدين، الذى اختير لكى يكون منذ التأسيس رئيسًا لهذا الحزب، ثم رمزًا له بعد أن تقدمت به السن.
عندما تعرفت إلى محمد سيد أحمد فى أواخر ستينيات القرن الماضى كان اسمه قد أصبح اسمًا معروفًا فى عالم السياسة والثقافة والفكر والإعلام. 
وكانت كتاباته تملأ الصحف المصرية والعربية ومجلاتها، وكذلك الصحف والمجلات الأجنبية. وكان يكتب بثلاث لغات: العربية والفرنسية والإنجليزية. محمد انضم إلى أسرة تحرير مجلة «الطليعة» منذ بداية صدورها فى عام ١٩٦٦. وكان يرأس تحرير المجلة لطفى الخولي. كان محمد سيد أحمد من بين عدد كبير من كبار كتّاب مصر ومفكريها من كل الاتجاهات، لا سيما الاتجاه الماركسى، الذين أسهموا فى جعل تلك المجلة واحدة من كبريات المجلات العربية، من حيث القضايا التى عالجتها، والمحاور التى نظمتها، ومن حيث الدور الذى لعبته فى الحياة الفكرية والسياسية فى مصر على امتداد عشر سنوات من صدورها.
فى تلك الفترة، بالذات، لاسيما بعد حرب أكتوبر عام ١٩٧٣، بدأ محمد سيد أحمد يبحث مع عدد من أصدقائه اليساريين عن الطريق الذى يحرر مصر والعالم العربى من الآثار المدمرة للصراع العربى - الإسرائيلى، من خلال استعادة الأرض ووضع أسس لسلام عادل، يعطى للفلسطينيين حقهم فى إقامة دولتهم المستقلة الكاملة السيادة على أرض وطنهم فلسطين. وكان كتابه «بعد أن تسكت المدافع» التعبير الواضح عن ذلك الخيار الذى دافع عنه طويلاً، رغم ما واجهه من انتقادات حادة من جميع الاتجاهات. محمد يجيب عن السؤال عن مستقبل اليسار بالإقرار بأن ثمة ميزة خاصة لمعنى التمسك بفكرة أن لليسار مستقبلاً. ذلك أن هذا التمسك يشكل ردًا على المفكر الأمريكى، فرانسيس فوكوياما، صاحب نظرية «نهاية التاريخ»، بمعنى، كما يقول محمد سيد أحمد مفسرًا فكرة فوكوياما، «إن الصراع الأيديولوجى قد انتهى بسقوط الشيوعية (إثر سقوط الفاشية)، وإن الفكر الليبرالى بركيزتيه الديمقراطية واقتصاد السوق أصبح الفكر الوحيد السائد والمرجعية الوحيدة»، ويعلّق محمد سيد أحمد قائلاً: «إن لمفهوم اليسار قدرًا من المرونة يجيز إكسابه مدلولات جديدة أكثر تكيفًا مع عصر جديد، مدلولات تلبى متطلبات إجراء مراجعات شاملة، دون الالتزام بمرجعيات طبقية صارمة التحديد تتهددنا بالوقوع فريسة الجمود، وأسرى قوالب مصبوبة عفا عليها الزمن، وتقف عقبة فى وجه الاجتهادات التى يقتضيها عصر مختلف».. يشير هذا البحث القيّم الحافل بالكثير من الأفكار إلى عمق رؤية على اختلافها، بما فيها تلك التى يستند أصحابها إلى «التقدم» الذى حققته البلدان الرأسمالية، أو تلك التى تستند إلى الغرائز المستنفرة، وإلى البدع والخرافات باسم الأديان ضد قيمها الروحية. وكلا هذين النوعين من العنصريات يكمل الواحد منهما الآخر، فى عملية التدمير المتواصلة لحياة الإنسان وللكوكب الأرضي.