الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة ستار

وهم جنة إيطاليا.. فيلم إيطالي يجسد معاناة الشباب في جحيم الهجرة غير الشرعية

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى دورته الأخيرة منح مهرجان القاهرة السينمائى الدولى كبرى جوائزه الهرم الذهبى، باكورة أفلام المخرج الإيطالى جوناس كاربينانو «البحر الأبيض المتوسط» «MEDITERRANEA»، كما فاز بطل فيلم «قدوس صهيون» بجائزة أفضل ممثل. 
الفيلم تناول قضية الهجرة غير المشروعة، وسلط الضوء ليس فقط على مقامرة أبطال الفيلم بحياتهم فى رحلة الهلاك، نحو الشاطئ المقابل للبحر المتوسط، حيث دول الشمال الغنية الديمقراطية، التى تمثل الفردوس أو الجنة التى يحلم بها قاطنو دول العالم الثالث فقط، بل تتبع تلك الرحلة المهلكة بعدما تحط مراكب الموت أشرعتها، أو بمعنى أدق بعدما تنتشلها قوات الإنقاذ من الغرق فى حال كتب لهذه المراكب النجاة، وهى فرص قليلة الحدوث فى مقابل الرحلات التى تهلك ويغامر راكبوها بالحياة نفسها دون التفكير فى عواقب تلك الرحلة حتى فى حال نجاحها فى الوصول للشاطئ الآخر.
لا تختلف الأحوال المعيشية شيئا عما خلفوه وراءهم، بل تكون أكثر فقرا وقمعا، فلا قصور تنتظر المهاجرين للعيش فيها بل خيام أو عشش صفيحية، لا فرص عمل سوى فى مهن يرفض أصحاب تلك البلاد العمل فيها، ويتركونها للمهاجرين الأجانب، ولا يقف الأمر عند هذا الحد إنما بدون تقنين لظروف العمل، سواء فى الرواتب أو التعاقدات الرسمية، ناهيك عن مطاردة السلطات الأمنية لهؤلاء المهاجرين، مثلهم مثل المجرمين المطلوبين. 
ويتحول المهاجر غير الشرعى للاستعباد فى تلك المهن والأعمال، راضخا لكل الشروط المهينة، وقلقه الدائم وترقب القبض عليه وترحيله فى أية لحظة أو سجنه حتى يطرد من تلك الجنة الكاذبة ونعيمها الوهمى، يبدأ الفيلم بمشهد لسيارة تنقل المهاجرين من بوركينا فاسو، ممن ضاقت بهم بلدهم، وحلموا بالوصول إلى حياة أكثر إنسانية حسب الأوهام الرائجة على الشواطئ الجنوبية لأوروبا. 
يتعلق الصديقان آيبفا وعباس فى اللحظة الأخيرة بالعربة المكتظة بالبشر الراكضين خلف الهرب من بلدهما، بعدما دفعا مبلغًا مغريًا لأحد المهربين كى يساعدهما على الاختباء داخل سفينة متجهة إلى أوروبا، وسرعان ما تنتقل الكاميرا لصحراء الجزائر، ومنها إلى ليبيا محطة الانطلاق إلى إيطاليا، آيبفا يبيع بعض البضائع لرفاق الرحلة، لكنها تضيع منه عندما يخرج قطاع الطرق عليه فى مدينة «سبها» الليبية، حيث محطة الانطلاق إلى مياه المتوسط. طوال الرحلة آيبفا لا يتوقف عن الاتصال بشقيقته لتطمئن عليه من كل مدينة يصل إليها، أخيرا يستقل المركب المطاطى المعتاد فى رحلات العبور إلى الجانب الآخر من المتوسط.
ولأنها ليست قاصرة على المصريين وحدهم، فإن المخرج تناول عمليات النصب والاحتيال على راغبى الهجرة غير الشرعية داخل قوارب الموت فى مشهد الجدل بين صاحب القارب والمسافرين حينما يتركهم لمصيرهم بين أمواج البحر وظلمته، يتركهم على الشاطئ طالبا منهم قيادة القارب بمفردهم، وبعد جدل يكاد يصل للشجار، يتصدى آيبفا لقيادة القارب، فى جو من الظلام الدامس وعواصف هائجة وأمطار غزيرة يغرق القارب على أثر إحداها، ولحسن حظ ركابه تنتشلهم سفينة وتصل بهم إلى إيطاليا. ما أن يصل آيبفا وعباس إلى مخيم المهاجرين يكتشف الخدعة والأوهام التى عاشاها عن الجنة الغربية التى قامر بحياته كغيره من ركاب رحلة الهلاك. 
فحياة اللاجئين أو المهاجرين غير الشرعيين إلى إيطاليا لا تختلف كثيرا عن ما خلفوه وراءهم فى أوطانهم، بل تصل لشكل من أشكال العبودية التى سادت القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وقد أجاد المخرج توظيف التفاصيل البصرية والحركية المشبعة لتلك المشاهد، خاصة تلك التى نقل فيها للعيش فى خيام رثة وغير كافية لاتقاء البرد الأوروبى الذى لا يطيقه الإفريقى.
يبدأ الكابوس ليس فقط بالظروف المناخية شديدة البرودة والتعرّض باستمرار لكل أشكال التمييز العنصرى، بشكل مباشر أو غير المباشر من أهالى المنطقة، أو الاستغلال الجائر من قبل صاحب العمل الذى يمثّل الأمل الوحيد للحصول على تصريح عمل من شأنه السماح للمهاجر بالبقاء فى إيطاليا، واستئناف حلمه فى جلب باقى أفراد أسرته إلى البلد الأوروبى. وفى مشهد قوى يضطر «آيبفا» تحت وطأة البرد أن يسرق حقيبة أحد المسافرين فى محطة القطار، وعندما يحاول بيع مشغل أغان كان ضمن محتويات الحقيبة، يعود وقد باع له فتى المافيا الصغير هاتفا محمولا، أى أنه يدفع له نقودا بعدما كان يسعى للحصول عليها فى إشارة صريحة وقوية إلى انتشار البطالة بين أوساط الأوروبيين أنفسهم، والتى تمثل جزءا كبيرا من أسباب العنصرية ضد المهاجرين تصل للقتل.
ولأن العمل الفنى لا يحمل نصائح للعالم بقدر ما يحمل رؤى وأفكار، فقد طرح الفيلم قضية الآخر والمهاجرين غير الشرعيين أو اللاجئين، وما يواجهونه من مصاعب التأقلم مع الحياة الأوروبية بشكل عام حتى ولو كانت فى إيطاليا التى تنتمى لشعوب البحر المتوسط، فالمهاجرون سواء كانوا من العرب أو الأفارقة يعيشون على السرقة والاحتيال وتجارة المخدرات والدعارة، حياة بائسة لا تشبه تلك الأحلام التى هربوا إليها مقامرين بحياتهم. 
يلتحق عباس وآيبفا إلى جيش العاملين فى جمع ثمار البرتقال وهو العمل الذى يراه صديقه عباس أنه عمل تافه وحقير، رفضه فى بلده الأصلى، وإن كان حتى لا يجيده أو يتقنه، ومرة أخرى يسخر الفيلم من ساكنى العالم الثالث الكسالى العالة على العالم فى مشهد صاحب المزرعة، وهو يصرخ فى وجه آيبفا: «لن أشترى هذه الصناديق لقد أخبرتك أنها ثمار سيئة ولن يشتريها منى أحد»، وعندما يحاول آيبفا الدفاع عن عباس بأنه فى يومه الأول فى العمل يرد الآخر بالمنطق العملى الذى لا يفهمه عباس. 
لا يوجد أمامهما سوى الأعمال الشاقة التى يأنف الأوروبى من العمل فيها، فكل عمال مزرعة الإيطالى كانوا من الأفارقة، وليس بينهم إيطالى واحد، وحتى حينما يجلس آيبفا مع صاحب المزرعة لتناول الطعام مع أسرته، فإن هذا لا يعنى أنه صار واحدا من تلك العائلة، وهو ما نستشعره من مشهد لاحق، حينما يطلب آيبفا من صاحب المزرعة أن يعطيه عقد عمل ليحصل على إقامة دائمة، فيرد عليه بأن جده عندما ذهب إلى أمريكا لم يساعده أحد، وأنه لا يستطيع إعطاءه ذلك العقد.
يختتم الفيلم بمشاهد المواجهات العنيفة بين المهاجرين والجماعات العنصرية المعادية لهم من السكان الأصليين تنتهى بمقتل اثنين من الأفارقة، وإن كان المخرج أفرط فى مشاهد العنف التى ارتكبها الأفارقة، فيتحول آيبفا من رفضه للعنف إلى مشارك فيه، فيحرق السيارات ويحطم واجهات المحال الزجاجية.
ينتهى الفيلم بمشهد أخير مفتوح على التأويلات، آيبفا فى حديقة منزل الإيطالى يرى الشباب الذين اعتدوا على صديقه عباس وقاربوا على قتله يدخلون لحفل عيد ميلاد ابنة الإيطالى الذى يناديه للدخول، آيبفا الممزق بين البقاء فى بيئة معادية كارهة وطاردة له، وبين الحنين إلى وطنه، حيث ابنته وأخته فأيهما يختار سؤال معلق تركه المخرج لكل مشاهد للفيلم؟