السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

جمال عبدالناصر في ذكرى حضوره المتجدد

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
جمال عبدالناصر، فى تاريخ قياداتنا السياسية والثورية، الثقافية والوجدانية، من الشخصيات التى تتسق مواقفها وأفكارها على نحو لافت، على مدى رحلة العمر والعمل والعطاء.
أى منذ بدأ يتفتح وعيه، وسار لأول مرة فى مظاهرات حاشدة، ضد سطوة الاحتلال وفساد الحكم، وإلى آخر لحظة فى حياته.
يقص محمد حسنين هيكل هذه القصة، فى الفصل الأول من كتابه المتميز بل غير العادى: «عبدالناصر والعالم»، الفصل بعنوان: «الرجل والظرف التاريخى»، ويقدم فيه كاتبنا المبدع المدقق حياة جمال عبد الناصر كاملة، لكن بتركيز وتمكن مدهشين.. يقول عنه (صفحة ٤٠ من الكتاب الصادر عن دار النهار للنشر بيروت ١٩٧٢): «... وجد أن أمه توفيت وأن والده تزوج من جديد، كان لم يزل فى الثامنة عندما انهار عالمه وتقوض، ومنذ ذلك الحين أصبح ثائرًا عنيدًا... وأرسل عبد الناصر إلى عائلة أمه فى الإسكندرية ليستكمل دراسته، وهناك تورط للمرة الأولى فى السياسة، فقد شاهد مظاهرة تفرقها الشرطة فى الشارع ودون أن يعرف حتى دافع المظاهرة، انضم يقاتل فى صفوف المتظاهرين. كان يكفيه أن تكون المظاهرة ضد النظام القائم... واعتقلته سلطات الشرطة وأمضى ليلته فى السجن..).
لقد شارك على الفور فى المظاهرة، بإحساسه الوطنى والإنسانى ومدى الوعى البازغ، وعاد بإصابة لازمته (يشير إليها جاهين فى أنشودة مشهورة له: جمال.. وجرح قديم فى جبينه).. واستمرت مواقف «جمال» وأفكاره، متسقة متناغمة، بقدر ما هى متنامية تزداد على الأيام تبلورًا، وتأصيلًا وتعمقًا، خلال مختلف المراحل والمحطات فى حياته، إلى لحظة (٢٨ سبتمبر ١٩٧٠)، التى أثبتت العقود ومرور العهود من يومها، إلى اليوم (٢٨ سبتمبر ٢٠١٦)، أنها لم تكن قط لحظة غياب وابتعاد، ككل الذين يرحلون عادة، وإنما لحظة تأكيد حضور مدهش، لحظة حضور متجدد، واقتراب يأخذ دومًا فى الازدياد!!.
فها نحن وغيرنا، وها هم محبوه، والذين يجدون فى سيرته عطرًا وإلهامًا وضياء يتزودون به فى الرحلات الصعبة، ويلهجون باسمه ويتغنون به ويرفعون صورته فى الثورات ومختلف اللحظات.. وكذلك الذين لا يطيقون سيرته واسمه على السواء!.. هاهم هؤلاء، وأولئك، على الدوام، يتحدثون عنه ويتناظرون ويتعاركون ويتبادلون ذكر اسمه ومواقفه، معاركه ومواقعه، كأنه لا يزال بيننا، فى حياتنا، حتى أمس أو أول أمس.. بل كأنه لا يزال بيننا حتى اليوم، لم يبرحنا قط..!.
هذا الحضور، نحسب أنه ملفت مدهش.. ولا نحسب أن له سابقة أو أن يوجد له مثيل أو نظير!.
تمامًا بقدر ما أنه ملفت مدهش ذلك الاتساق، الذى بادرنا بتأمله، فى مجمل مواقف وأفكار جمال عبد الناصر، طول الوقت وعلى مر الأيام والمراحل.
بدأ ناصر يافعًا، فطالبًا بكلية الحقوق ثم الكلية الحربية، مهتمًا بل مهمومًا بالشأن العام الوطنى السياسى، وقضية القضايا فيه لدى مجمل الحركة الوطنية وكل المصريين، وهى النضال من أجل (مصر حرة مستقلة)، والتخلص من دنس وإذلال الاحتلال، جنبًا إلى جنب قضية فساد العائلة والطبقة الحاكمة، والمستغلين أقطاعيين أو رأسماليين (وكثيرًا فى ذلك الظرف ما كان المستغلون من الرأسماليين هم ذاتهم كبار ملاك الأراضى الذين يهيمنون على الأرض، ويهينون بل يستعبدون من عليها من طبقة الفلاحين الأكثر عددًا وكدًا وإنتاجًا.. وحرمانًا!).
فيعزم جمال عبد الناصر ويصمم، ومن أول يوم للثورة التى قادها فى ٢٣ يوليو ١٩٥٢، على القضاء على ذلك الاستغلال كله فى مختلف صوره (وعلى سيطرة رأس المال على الحكم بتعبير المبادئ الستة المشهورة التى استهلت بها الثورة الإيضاح والتحديد لموقفها الفكرى الثورى).
وينجز جمال عبد الناصر وثورته الجلاء فى ١٩٥٤، ولم يلبث فى ١٩٥٦، أن يتصدى كل الشعب ببسالة منقطعة النظير، تحت القيادة الرائعة الراقية «للقائد الشاب ناصر»، لعدوان المحتل البريطانى العائد انتقامًا وحنقًا لكى يهيمن مجددًا، باسم التصدى لقرار ناصر المذهل المزلزل، بتأميم قناة السويس!.. بل وجاء مع الغازى البريطانى الاستعماران الفرنسى والصهيونى (فى عدوان ثلاثى واسع)، تدحره المقاومة وينتصر عليه الشعب والقائد (أكمل انتصار فى تاريخنا الحديث على الإطلاق).. وعلى الرغم من أن العدوان يتجدد بعد عقد (فى ١٩٦٧)، وإن كان هذه المرة بالدرجة الأولى: (العدوان الثنائى: الأمريكى الصهيونى).. إلا أن جمال عبد الناصر، ظل وهو يخوض ويقود كل هذه المعارك الوطنية.. عينه وقلبه وعقله وقراره، على القضية الاجتماعية، ومعركته فيها بنفس القدر!.
فحتى قبل الجلاء، بل وبعد ستة أسابيع من قيام الثورة، يصمم ناصر على الإصلاح الزراعى الأول، وفى أوج ملحمة الثورة الاجتماعية الاشتراكية الكبرى والتأميمات الثورية مطلع الستينيات يعلن الإصلاح الزراعى الثانى، ثم حتى بعد النكسة العارضة (نعم النكسة السياسية وليست الهزيمة لأن المقاومة استمرت وانطلقت حرب الاستنزاف)، فإنه فى خضم هذه المعركة الكبرى يعلن الإصلاح الزراعى الثالث.. كما يعلن (فى عيد ٢٣ يوليو ١٩٧٠ وخطابه العظيم الاستثنائى فيه والذى يمكن أن نسميه «خطاب الوداع»): إتمام العمل فى مشروع وملحمة (السد العالى)، بكل ما يمثله ويرمز إليه سد يوليو، (سد ناصر)، من معانى كفاح وثراء وطنى وإنسانى بغير حدود.
ومنذ البداية، فإن جمال عبد الناصر عروبى، بل إنه رمز وقائد جسور، فى معركة الفالوجة (أكثر المواقع إيجابية وسطوعًا وجدارة بالتقدير فى حرب فلسطين ١٩٤٨ وحتى من قبل أن تقوم الثورة ويشتهر اسم ناصر).
ومن أول لحظة لثورته، يدعم حركة التحرر الوطنى الجزائرية بلا حدود، ومجمل حركات التحرر الوطني: مما يفسر نقمة الطرف الفرنسى ومشاركته المحمومة فى عدوان ١٩٥٦، كما أنه حتى قبل هذا العدوان يصرخ غاضبًا فاقدًا أعصابه رئيس الوزراء البريطانى إيدن (وفق وثائق ووقائع كثيرة)، وقبل قرار التأميم: «لا بد من قتل هذا الرجل ناصر».
إن عروبة جمال عبد الناصر ليست وحسب منذ قيادته لدولة وحدة (١٩٥٨)، التى تظل أول وأغلى وحدة، على الرغم من كل شيء، ومن مخازى وجرم مؤامرة الانفصال، وإنما عروبته حتى من قبل قيامه بالثورة.. وصولًا إلى رفضه الاقتتال الفلسطيني/الأردنى (أيلول الأسود ١٩٧٠).. وما بين ذلك كله.
إن أهداف نضاله هى أهداف أمته طول الوقت (تحرير وتوحيد الأمة وتقدمها).. ولذلك فإن حضور ناصر يظل متجددًا، وهو معنا كل يوم.. لأنه يمثل أصدق وأعلى وأنضج حلقات النضال المستمر، من أجل هذه الأهداف.
نعم.. جمال عبد الناصر معنا كل يوم.